مجلة الرسالة/العدد 802/محمد إقبال

مجلة الرسالة/العدد 802/محمد إقبال

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 11 - 1948



شاعر الشرق والإسلام

للأستاذ مسعود الندوي

1389 - 1872 - 1357 - 1938

- 3 -

1908 - 1933

سحب من الدمار متراكمة تريد أن تمطر على طرابلس الغرب، وأخرى كسف من الغمام بدأت ترسل النجيع الأحمر مدراراً على سهول أدرنة، وفي الجو طائرات تريد أن تنقض على الدولة العلية - ودولة الخلافة - فتسلبها البقية الباقية من تراث أسلافها؛ وأجساد من شيوخ المسلمين وشبانهم مضرجة مطروحة على شارع من شوارع (كان يور) محمية بالجند ورجال الشرطة. . . مشهد مؤلم في طرابلس الغرب أهاب بالمجاهد العربي فهزته الحمية الإسلامية وجعل يهتف: الله أكبر، سيف الحق مسلول؛ ومأساة فاجعة في أدرنة أنطقت شاعر الكنانة وجعلته يرسل أنغامه درراً منظومة:

يا أخت اندلس عليك سلامٌ ... هوت الخلافة عنك والإسلام

نزل الهلال عن السماء، وليتها ... طُويت وعمَّ العالمين ظلام

وهذه المآسي المحزنة، وتلك الفجائع المؤلمة؛ وأخرى من مهازل الاستعمار في طول الهند وعرضها، جعلت صاحبنا شاعراً إسلاميا يتألم لك ما يصيب المسلمين من أذى أو مكروه، فتجود قريحته المطبوعة بما يربط جأش المجاهد ويعير الفقيه المنعزل في زاويته ويرشد المعتوه الأبله المنخدع بأضاليل الغرب وترهاته. وهو بين هذا وذاك مؤمن بالله لا يتسرب إلى نفسه، وقلبه مطمئن بالإيمان. فهو يقول:

إنك مسلم، فاجعل قلبك معموراً بالأماني والآمال واذكر دائماً وعد الذي قال: (إن الله لا يخلف الميعاد)

وتراه لا يجزع للنوائب والملمات:

(عشية الألم تسفر عن صباح العيد؛ هاهو ذا تبلج فجر الأمل من بين دياجير اليأس).

ولله قريحته حيث جاءت بهذا البيت النفيس:

هلم ننشر الأزهار=والرياحين على قبر الشهيد

الذي فعل المسفوح من دمه بأمتنا، فعل الغيث بالشجرة النابتة

وهذا المعنى - أي معنى الحياة بعد الممات والفرج بعد الشدة والنجاح بعد اليأس - مثله كمثل غرض تعاوره الرماة، فمنهم من هو مقصر دونه، ومنهم من هو واقع يمينا وشمالا، ولم أر أحدا أصاب المرمى كصاحبنا ممن تقدم وتأخر. ولكن من أين لي ذلك البيان الذي يضاهي بيان شاعرنا، شاعر الإسلام. وهذا عذري إلى من وجد الترجمة ركيكة. فمن أبياته الراقية في هذا المعنى:

ما لنا نحزن ونكتئب، إذا تتابعت النوائب على العثمانيين فإن الفجر لا ينبثق إلا بعد ما تهراق دماء مئات الألوف من الكواكب.

رجع محمد إقبال من أوربا، والهند الإسلامية تكاد تحس بتقهقرها في ميادين العمل والكفاح؛ ولزعمائنا المتفرنجين في دينهم وأخلاقهم والرجعيين في سياستهم، سلطان عليهم، فأتخذ من شعره البليغ المعجز آلة لإيقاظ النائمين من سباتهم وتثقيف الشبان العاملين وصرفهم عن الاغترار بمظاهر التمدن الحديث، ووسيلة لتربية ملكات المتعلمين النفسية والخلقية وتطهير نفوسهم من أدران الإقليمية واللون والنسب. وبدأ يقرض القصائد ويطبع الدواوين حتى أنبتت بذرته وأثمرت وآنت أكلها. وما هذا النهضة التي نشاهد اليوم آثارها إلا وميض من بروق إقبال وصنيعه من صنائعه:

صنائع فاق صانعها، ففاقت ... وغرسٌ طاب غارسُه فطابا

وكان من حسن حظ الشاعر الحكيم - أجزل الله مثوبته في الدارين - أن قد شاهد هذا الغرس ينمو ويكبر أمام عينيه إلى أن أصبح شجرة باسقة الفروع، وهو حي يرزق.

في الطور الثالث من حياته الشعرية جاش صدر إقبال بشعر قومي بليغ، ممتلئ حكمة وقوة، نبه النائمين من غفلتهم القاضية عليهم وأرشدهم إلى الصراط السوي في حياتهم السياسية. ومن خصائص هذا الشعر أن صاحبه يفرغه في قالب من التحدي بليغ كأني به يلهمه إلهاما. أما معانيه السامية فمما لا يستراب فيه أنها لا تتسنى إلا لمن فتح الله قلبه لأسرار الطبيعية، وحوادث المستقبل. وأحسن كلمة له في هذا الطور (منارة الساري) أو (دليل الطريق) (خضرراه) التي بين فيها الشاعر الحكيم بلسان الخضر مشاكل السياسة الأوربية وأسرارها، وحذر المسلمين وأهل الشرق من الوقوع في شركها، وأنار لهم فيها الطريق السوي الضامن لسعادتي الدين والدنيا، إلى غيرهما مما جاء في ثناياها من دور الحكم وغررها. وهاك ترجمة بعض أبيات منها. قال - برد الله مضجعه - يكشف النقاب عن وجه الجمهورية الغربية الدميم:

(ما هذه الجمهورية الغربية إلا تلك القيثارة العتيقة التي لا يظهر من أوتارها غير أصوات الهرقلية والكسروية؛ وهذه الملابس الجمهورية المزركشة يمرح فيها شيطان الاستبداد ويختال، وأنت تزعم أن عروس الحرية الجميلة تمس في برديها؛

وهذه مجالس التشريع والإصلاح ولجان الحقوق كلها أدوية حلوة المذاق، اخترعها الطب الإفرنجي للتنويم والتخدير) وسقى الله تلك القريحة المبدعة التي أرادت أن تصور حال العالم الإسلامي بعد الحرب العظمى فأحسنت وأبدعت:

(قد ذهب أبناء التثليث بتراث إبراهيم وأصبحت تربة الحجاز أساسا لتبيان الكنائس الأوربية؛

(وأضحت دماء المسلمين رخيصة كماء النهر الجاري؛ وما بكاؤك لهذه الحال المؤلمة إلا لأنك لا تعرف حكمة الله في عباده)

وفي الختام يصف دواء ناجعا لجميع أدواء الأمة:

(لا يمكن تخليص الشرق من براثن الاستعمار ونجاته منم سلطته إلا إذا اتحد المسلمون، واجتمعت كلمتهم، ولكن أهل آسيا لا يزالون يجهلون هذه الحكمة البالغة. وحذار أن، تبقى متلهياً بالنظريات السياسية الباطلة، وادخل في حمى الدين من جديد، فإن المملكة إنما هي ثمرة من ثمرات الدفاع عن الحرم.

فليتحد المسلمون وليكونوا كتلة واحدة متضامنة للذود عن بيت الله الحرام من شاطئ النيل إلى أرض كاشغر.

والذي يفرق في ذلك بين اللون والدم، سوف ينعدم وجوده من وجه الأرض.

سواء في ذلك التركي الأبي والعربي النبيل.

وإن آثرت أيها المسلم عنصرك وسلامتك على دينك، فلن يبقى لك عين في هذه الدنيا ولا أثر).

وجدير بالاستماع والإدكار، رأي صاحبنا في الحضارة الجديدة من هذه الكلمة، لأنه ممن قتل بحثا ونخل علومهم نخلا. قال (لله دره):

(تعجبكم هذه الحضارة الحديثة ويبهر عيونكم جمالها وما هي إلا كفصوص موهتها يد الصناع وجلتها فاختطف الأبصار لمعانها الكاذب.

والحكمة التي يفتخر بها حكماء الغرب ويتشدقون ببركتها ها هي قد عادت بأيديهم سيوفا تقطر دماً.

أترون أن هذه الحضارة يكتب لها الخلود بالحيل التي يدبرها لها ساستها؟ لعمر الحق، أن كل حضارة أسس بنيانها على التنافس في الأموال والتكالب على الشهوات سوف تنهار ويتبدد شمالها).

وفي هذا الدور من شعره كلمات أخرى مأثورة مشهورة في (طرابلس الغرب) و (فاطمة الشهيدة) و (الشكوى إلى الله) وغيرهما القصائد المنثورة في ديوانه (نداء الرحيل) (بانك درا) لا يتسع المقام للاقتطاف من أزهارها.

بلغ الشاعر في المرحلة الثالثة من حياته الشعرية قمة مجده في الأدب، رحل من محل قلوب المتأدبين يتنافس فيه المتنافسون، وذلك أن شعره في هذه المرحلة كان مرآة لعواطف الأمة وأمانيها، وصورة صادقة لنهضاتها السياسية والدبية، فوجدت الأمة في زفراته وتأوهاته، صدى لآلامها المتتابعة والنوائب المتوالية المنصبة على رؤوسها، وفي دعوته وعظاته، ضالتها المنشودة وأمنيتها. وهو بعد كل ذلك شاعر يهز مشاعر النفس، وخطيب يذكى في أعماق الفؤاد جذوة العمل والكفاح، وحكيم يقيهم مهالك الغرب وخزعبلاته، ويرشدهم إلى طريق الخير والسعادة.

قد أدى شاعرنا مهمة كبيرة من حياته في هذه المرحلة الشعرية، حيث أبلغ الأمة دعوته أو رسالته؛ لكنه ما وهبه اله هذا البيان والحكمة ليكون شاعر شعب دون شعب، وإنما أراد ربك أن يكون شاعر الأمة الإسلامية جمعاء، يدعوها إلى التكاتف والتعاضد، ويريهم سبل الحق والسلام، وينير لهم المحجة البيضاء في ظلمات المادية الحالكة. أما شعره في الأردية فما كان ليخترق حدود الهند، فاختار اللغة الفارسية واتخذها وسيلة لتعميم دعوته أولا، وتثقيف المتأدبين من أهل الهند ثانياً. وأول شعر نشره باللغة الفارسية مجموعة (أسرار خودي) (أسرار فلسفة الذاتية التي يؤمن بها (إقبال) ويدعو الأمة إليها دائماً). وهذه المجموعة من شعره تحتوي على أسرار وحكم مفرغة في قالب الأدب. تبين السبيل التي يمكن بها من ترقية ملكاته النفسية حتى تخضع الطبيعة لإرادته، وينزل القدر عند مشيئته. وهذه هي فلسفة (خودي) (تربية الملكات الذاتية) التي جعلها الشاعر قطبا تدور حوله جملة كبيرة من شعره البليغ في هذه المجموعة وغيره من الدواوين. فإنه اهتم به (خودي) كثيراً ورأى أنه لا يكرم في الدنيا إلا الذي يكرم نفسه، ويرى للعالمين ما في نفسه من إباء وسموهة وعلو فكرة. ويكفيني مؤونة التطويل في شرح الذاتية (خودي) ما بينه الشاعر من ثمراتها في بيت له:

اشحذ قوتك الذاتية (خودي) وأزردها في مكانة من القوة والعلو حيث يسأل الله العبد عن مرضاته قبل أن يجعل لشيء أجلا.

لا يريد الشاعر أن الله تعالى يسأل العبد عن مرضاته في الحقيقة؛ وإنما جعل ابتغاء الله لمرضات عبده مثلا في تربية القوة الذاتية. وإنما يريد صاحبنا من المسلم أن يربى قواه النفسية تربية تخضع لإرادته الأرض وما فيها من القوى المادية والأدبية. وليس معنى ذلك أن يختار المسلم في ترقية مواهبه سبيلا غير سبيل الكتاب والسنة. وبما أن فلسفة الذاتية (خودي) من أهم أجزاء دعوة حكيم الشرق، عنى بها أهل الشرق والغرب، وترجم الدكتور نكلسن، أستاذ صاحبنا، ديوان أسرار (خودي) بالإنجليزية. وكذلك عنى بها جميع من أهل الغرب في مسلمي الهند وقادة أفكارهم. وهاك في ما يلي نبذة من أقوال الدكتور (تائيتس) في كتابه الإسلام الهندي، أكثر المعاصرين نفوذا وأبلغهم تأثيراً في إسلام الهنود، هو الشاعر الفلسفي السر محمد إقبال الذي أبلغ أبناء دينه رسالة كان لها أثر في نفوسهم، فإنه بين لهم إمكان التجديد الفردي وترقية القسم العالي من الشخصية بتقوية الإرادة وبتأدية اسمي ما يمكن للمرء أداؤه في هذه الحياة الدنيا حسب ما أمر به الله ورسوله.

وكذلك جاء في كتاب دين الإسلام للعالم النزيه الشهير الدكتور آرنكد، وهو من أعرف الناس بمسلمي الهند ورجالهم ما تعريبه، وبذلك يعرف القارئ ما في شعره من فلسفة:

ووجدت الحركة الجديدة في الهند لسانا فصيحا في شعر السر إقبال، أحد من درسوا الفلسفة الغربية بجد واهتمام وأحاطوا بها، ولقد أثر في الناشئة تأثيرا بليغاً، ولكن شعره ما استطاع أن يكون بطبيعة الحال أساسا لحركة دينية عامة منظمة للصبغة الفلسفية التي اصطبغت بها دعوته، ولعل ذلك لم يكن قط من إرادة الشاعر ولا مرماه.

(يتبع)

مسعود الندوي