مجلة الرسالة/العدد 806/المنبوذة

مجلة الرسالة/العدد 806/المنبوذة

ملاحظات: بتاريخ: 13 - 12 - 1948


- 1 -

جمعني مجلس من مجالس المنصورة الأدبية ببعض السيدات الحديثات من اللائي يتزعمن دعوات الخير، ويتصدرن حفلات التكريم، ويفشين أندية الرياضة. وكان مجلسي من الصالون بين سيدتين رشيقتين أنيقتين لهما اطلاع على الأدب ومشاركة في الثقافة. فجرى الحديث بينهما وبيني أول الكلام فيما يشغل الناس من أمر فلسطين ومصير اللاجئين؛ ثم أفضى إلى ذكر ما تبذلان من الجهد الجاهد في معونة الهلال الأحمر ومبرة محمد علي، فنم سياق حديثهما وما شاب أداءه من نبرات الزهو وحركات العجب على ما تضمران من حب الظهور ورغبة الشهرة، في طوايا ما تظهران من حب الخير ورغبة المنفعة. والمرأة الجميلة الفتية لا تجد في الحياة المصرية مظهراً لفتنتها، ولا معرضاً لزينتها، ولا سبيلاً لشهرتها، إلا في الحفلات الخيرية والخدمات العامة: فهي تشترك فيها بالشعور والحضور لتظهر، وتتبرع لها بالجمال والمال لتذكر. بله ما تشعر به من الرضا والغبطة بمنافستها للرجل في ميدان عمله، ومساعدتها للوطن على تحقيق أمله.

ثم انتقلنا إلى حديث الأدب فذكرتني إحداهما بما كتبته في الرسالة عن (مثل المرأة الحديثة) فشكرت بعضه وأنكرت بعضه. وكان الذي أنكرته ما يرمي إلى تقييد المرأة وقصر كفايتها على تربية وتدبير البيت ومعاونة الرجل. ثم مضت تنوه بما يكون للمرأة الحرة المستقلة من أثر في الأسرة وبلاء في المجتمع إذا شاء الرجال أن يفردوها بشؤون البيت ويشركوها في أمور الوطن. وفي اللحظة التي كانت تقول فيها: (إن المرأة روح الأمة والرجل جسمها وإن الزوجة رأي الأسرة والزوج عزمها، طغى على صوتها الحماسي صوت سيدة نصف كانت تتحدث في تأثر وامتعاض إلى هلال من عقائل المدينة فيهن ربة الدار؛ فأصغتا وأصاخ الجلوس فإذا هي تروي حادث الطلاق الذي وقع في الأيام الأخيرة بين فتى محافظ أبوه من نبلاء الريف، وبين فتاة حرة أبوها من أطباء المدينة. وكان سبب هذا الطلاق الذي أعقب الزواج أن العروس كانت مغرقة في التحرر، مسرفة في التجدد، فسعت بنفسها على أسرة العريس، ورمت حماها بالرجعية وحماتها بالأمية، وطلبت أن تسيطر على أرزاق البيت وعلى أذواق أهله، فتبدل أثاث الغرف كل سنة، وتغير زي النساء كل شهر، وتقي حفلة استقبال كل أسبوع. ثم اقترحت أن يزال الجدار الحاجز بين البهو والردهة ليكون منهما مرقص متى أريد الرقص ومقصف متى أريد القصف؛ وأنم يقلع الشجر المثمر في الحديقة لينشأ على مكانه ملعب للتنس وحوض للسباحة. وكان المطلب الأخير ألا يدخل البيت ريفيون من أقارب الزوج ولا فلاحون من رجال العزبة. فلم يستطع الزوج معها صبراً، ولم يجد أبوه لترويضها حيلة، فكان الفراق وكانت الفضيحة!!

فلما سمعت جارتاي الخبر وكانتا على علم به من قبل، قالتا بلسان واحد: (المودرنة للمودرن والقديمة للقديم! والمخطئ هو الذي ينزل في غير أهله، ويقع على غير شكله!).

ثم تركنا القوم على الحادث والحديث بما يشاءون، وانتقلنا إلى مائدة الشاي ثم عدنا حيث كنا. وعادت جارتي اليسرى إلى حديث التقيد والانطلاق، وكانت جارتي الأخرى قد فتحت محفظتها وأخرجت منها قلم الروج أو الإصبع الأحمر وأخذت تجدد به صبغة شفتيها، ثم أعادته وأخرجت سيكارة إنجليزية وأشعلتها، وقطعت صاحبتها الحديث وفعلت فعلتها. ثم لحظتا بعض الهنوات على زينة المدعوات وأزيائهن، وتبادلتا بعض الغمزات على كلام المتحدثات وآرائهن. ثم أقبلتا علي تستأنفان ما كنا نخوض فيه من الحديث فوجدتاني شارد اللب مطرق الرأس مطبق الجفنين كأنما أخذتني فترة النعاس، فقالتا لي: ماذا عراك؟ فقلت لهما: ذكرى بعثها في الخاطر هذا الأحمر على شفتيكما وخديكما! فقالتا: أنعم بذكرى تظفرنا منك بحديث، وتمتعنا بلذة الموازنة بين القديم والحديث. . .

(للحديث بقية)

أحمد حسن الزيات