مجلة الرسالة/العدد 806/مجال الأدب بين مظاهر الشعور

مجلة الرسالة/العدد 806/مجال الأدب بين مظاهر الشعور

ملاحظات: بتاريخ: 13 - 12 - 1948



للأستاذ أحمد احمد بدوي

يرى علماء النفس للشعور مظاهر ثلاثة: فهو تفكير إذا كان بحثاً عن حقائق الوجود لمعرفة أسبابها، واستنباط قواعدها، وإدراك ما بين بعضها وبعض من صلة أو تنافر؛ وهو وجدان إذا صحبه إحساس باللذة بالألم، فالحب والبغض والسرور والحزن والرجاء واليأس، والخوف والغضب، كلها وجدانات تتصل بالنفس فتحدث بها لذة أو ألماً؛ وهو إرادة إذا حفر المرء إلى العمل، ودفعه إليه، كالرغبات والنيات.

وإن بين هذه المظاهر النفسية اتصالاً وثيقاً لا يتأتى معه انفعال واحد عن صاحبيه، وإن كان المظهر الغالب لأحدهما؛ فمن المحال أن نجد ألماً في أنفسنا من غير أن نبحث عن سببه ونبذل طاقتنا في سبيل إبعاده. ويستحيل أن نفكر في عمل عقلي من غير أن نشعر بارتياح إذا سهل الأمر وانقاد، وامتعاض إذا اعتاص والتوى. والأعمال الإرادية يصحبها التفكير والوجدان، ولا تستقل بنفسها أبداً.

غير أن الصلة التي تربط هذه المظاهر بعضها ببعض قد تكون طبيعية، إذا كانت التجربة نفسها تستدعي هذا الترابط بطريق تداعي المعاني، كما إذا وصل إليك نبأ نجاحك مثلاً، فإن خواطر شتى تفد إلى نفسك من كل صوب: ما بين سرور وابتهاج بما ظفرت به، وتفكير في الوسائل التي انتهجتها، فوصلت بك إلى تلك الغاية السعيدة؛ إلى رغبات وهزمات تصمم عليها، ويدفعك إليها هذا الظفر المحبوب، وبينا ترى بعض هذه الخواطر واضحاً جلياً للنفس، يحتل بؤرة الشعور أو الحواشي القريبة منها، تجد بعضها الآخر غامضاً خفياً لا تكاد نشعر به، ةتكون الصلة غير طبيعية إذا لم تكن التجربة مستدعية لها بطريق تداعي المعاني، كما إذا كنت تدرس نظريات الهندسة، فسئمت العمل وتركته فليس بين نظريات الهندسة والسأم من صلة.

ليس التفكير الخالص بميدان للأدب، وإنما هو مرتع للعلم وحده، أما الأدب فمجاله الإحساس بالحسن الذي يشير في النفس لذة، أو بالقبح الذي يبعث فيها ألماً، فالأدب تعبير عن هذا الإحساس، وتصوير له، فهو لسان الوجدان وترجمانه، وإذا كان العلم لسان التفكير والمبين عنه.

تسمع قول قريط بن أنيف يعاتب قومه الذين لم ينجدوه ويمدح بني مازن؛ لأنهم أخذوا بيده ونصروه:

لو كنت من مازن لم تستبيح إبلي ... بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا

إذا أقام بنصري معشر خشن ... عند الحفيظة إن ذو لوثة لانا

قوم إذا الشر أبدى ناجذيه لهم ... طاروا إليه زافات ووحدانا

لا يسألون أخاهم حين يندبهم ... في النائبات على ما قال برهانا

لكن قومي وإن كانوا ذوي عدد ... ليسوا من الشر في شيء وإن هانا

يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة ... ومن إساءة أهل السوء إحسانا

كأن ربك لم يخلق لخشيته ... سواهم من جميع الناس إنسانا

فليت لي بهم قوماً إذا ركبوا ... شنوا الإغارة فرساناً وركبانا

فالشاعر هنا يصور لنا نقمته على قومه، وازدراءه كثرة عددهم لخورهم وجبنهم، حتى ليقابلون ظلم ظالمهم بالصفح والغفران، وإساءة المسيئين إليهم بالعفو والإحسان. يتلمسون لضعفهم المعاذير، من الخضوع لتعاليم الدين، فكأن الله لم يخلق غيرهم لخشيته. أما بنو مازن فهو معجب ببسالتهم وإقدامهم، يمنعون حماهم أن يستباح، ويجد أعداؤهم فيهم خشونة لا تلين، يسرعون إلى نصرة أخيهم قبل أن يطلبوا منه برهاناً على ما قال، فلا عجب أن تمنى استبدال قومه بغيرهم.

تحدث الشاعر في تلك القطعة عن إعجابه وسخطه، أي عن إحساسه بالجمال والقبح، ونجح في تصويرهما، مستعيناً على ذلك بألوان من الخيال، تكاد تلمس بها خشونة جانب من نصروه، وترى بها الشر مكشراً لهم عن أنيابه، وتبصرهم طائرين لا يلوون على شيء، ومورداً هذه المناقضات التي ما كان يليق أن تكون، ومتهكماً بهم تهكماً مراً لاذعاً، ويشعر القارئ لهذا الشعر بلذة أثارها فينا نجاحه في التصوير، وبراعته في التعبير.

بينما نحن لا نعد من الأدب هذه المقالات العلمية التي تخاطب التفكير وحده، من غير أن تشرك الوجدان معه.

على إن الأديب قد يستعين بقضايا الفكر على تصوير هذا الإحساس، كما فعل المتنبي عندما أراد أن يصور حيرته اليائسة من الوصول إلى أن يدرك كنه الحياة ومصير الوجود فقال:

تخالف الناس حتى لا اتفاق لهم ... إلا على شجب والخلف في الشجب

فقيل: تخلص نفس المرء سالمة ... وقيل تشرك جسم المرء في العطب

ومن تفكر في الدنيا ومهجته ... أقامه الفكر بين العجز والتعب

وهنا نجد الطريق ممهداً للحديث عن هدف الأدب، والحق أننا نقف بهذا الهدف عند حد الإثارة الوجدانية، فلا نطلب منه أن يمدنا بأفكار صادقة عن الحياة، ولا أن يثير فينا النزوع إلى الأعمال الصالحة، أي أن ليس مهمته التعليم والإصلاح، وإن كان ذلك لا يمنع من أن يزودنا بالأفكار، أو أن يحرك إرادتنا للعمل، سواء أكان ذلك مقصوداً للأديب أم غير مقصود؛ فقد يقف الأدب عند حد الإثارة الوجدانية فحسب، كما في أدب الطبيعة، وشعر الغزل وكثير من المرائي والرسائل، والمقالات العاطفية المحضة، مثل قول البحتري:

أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكاً ... من الحسن حتى كاد أن يتكلما

وقد نبه النيروز في غسق الدجى ... أوائل ورد كن بالأمس نوَّما

يفتقها برد الندى فكأنه ... يبث حديثاً كان قبل مكتما

فمن شجر رد الربوع لباسه ... عليه، كما نشرت وشياً منمنما

أحل، فأبدى للعيون بشاشة ... وكان فذى للعين إذ كان محرما

ورق نسيم الريح حتى حسبته ... يجيء بأنفاس الأحبة نسما

وقول العشيري:

حننت إلى ريَّا ونفسك باعدت ... مزارك من ريا وشعباكما معا

فما حسن أن تأتي الأمر طائعاً ... وتجزع أن داعى الصبابة أسمعا

قفا ودعا نجداً، ومن حل بالحمى ... وقل لنجد عندنا أن يودعا

بنفسي تلك الأرض ما أطيب الربا ... وما أحسن المصطاف والمتربعا

ولما رأيت البشر أعرض دوننا ... وجالت بنات الشوق يحنن نزعا

بكت عيني اليسرى فلما زجرتها ... عن الجهل بعد الحلم أسبلتا معا

تلفت نحو الحي حتى وجدتني ... وجمت من الإصغاء ليناً وأخدعا

وأذكر أيام الحمى، ثم أنثنى ... على كبدي من خشية أن تصدعا وليست عشيات الحمى برواجع ... إليك ولكن خل عينيك تدمعا

وقول ابن الرومي يرثي ابنه.

بكاؤكما يشفي إن كان لا يجدي ... فجودا فقد أودى نظيركما عندي

ألا قاتل الله المنايا ورميها ... من القوم حبات القلوب على عمد

توخى حمام الموت أوسط صببني ... فلله كيف اختار واسطة العقد

على حين شمت الخير من لمحاته ... وآنست من أفعاله آية الرشد

طواه الردى عني فأضحى مزاره ... بعيداً على قرب، قريباً على بعد

لقد أنجزت فيه المنايا وعيدها ... وأخلفت الآمال ما كان من رعد

لقد قل ما بين المهد واللحد لبثه ... فلم ينس عهد المهد إذ ضم في اللحد

محمد، ما شيء توهم سلوة ... لقلبي إلا زاد قلبي من الوجد

أرى أخويك الباقيين كليهما ... يكونان للأحزان أورى من الزند

إذا لعبا في ملعب لك لذَّعا ... فؤادي بمثل النار عن غير ما قصد

فما فيهما لي سلوة بل حرارة ... يهيجانها دوني وأشقى بها وحدي

وحيناً يمدنا بمعلومات عن الحياة، ونظم الكون والمجتمع على شريطة أن يكون ذلك ممتزجاً بشعور الأديب، وناشئاً عن تجربة شخصية له، كما ترى ذلك في ألوان الأدب الاجتماعي والسياسي وفي شعر الحكمة كقول زهير:

ومن لم يصانع في أمور كثيرة ... يضرس بأنياب ويوطأ بمنسم

ومن يك ذا فضل فيبخل بفضله ... على قومه يسقفن عنه ويذمم

ومن يجعل المعروف في غير أهله ... يعد حمده ذماً عليه ويندم

ومن لا يذد عن حوضه بسلاحه ... يهدم، ومن لا يكرم نفسه لا يكرم

ومن يغترب يحسب عدواً صديقه ... ومن لا يكرم نفسه لا يكرم

ومهما تكن عند امرئ من خليقة ... وإن خالها تخفى على الناس تعلم

لسان الفتى نصف ونصف فؤاده ... فلم يبق إلا صورة اللحم والدم

وقول المتنبي:

إذا أنت أكرمت الكريم ملكته ... وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا ووضع الندى في موضع السيف بالعلا ... مضر كوضع السيف في موضع الندى

وما قتل الأحرار كالعفو عنهم ... ومن لك بالحر الذي يحفظ اليدا

وقيدت نفسي في ذراك محبة ... ومن وجد الإحسان قيداً تقيدا

وقوله:

إنما أنفس الأنيس سباع ... يتفارسن جهرة واغتيالا

من أطاق التماس شيء وغلابا ... واقتساراً لم يتلمسه سؤالا

كل غاد لحاجة يتمنى ... أن يكون الغضنفر الرئبالا

وقديماً عدوا حسن إيراد الحجة من البلاغة، وضربوا بذلك المثل بقوله تعالى: (وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه، قال من يحيي العظام وهي رميم؟! قل: يحييها الذي أنشأها أول مرة، وهو بكل خلق عليم، الذي جعل لكم من الشجر الأخضر ناراً فإذا أنتم منه توقدون، أو ليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم؟ بلى، وهو الخلاق العليم، إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له: كن، فيكون؛ فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون).

وحيناً يثير الأديب فينا الإرادة، ويدفعنا إلى العمل. وأظهر ما يتجلى ذلك في الخطابة، فإنها كثيراً ما ترمي إلى إثارة التفكير المصحوب بالوجدان والمتبوع بالعمل كخطبة عبد الله بن طاهر في جنده، وقد تجهز لقتال الخوارج: (إنكم فئة الله، المجاهدون عن حقه، الذابون عن دينه، الذائدون عن محارمه، الداعون إلى ما أمر به من الاعتصام بحبله، والطاعة لولاة أمره، الذين جعلهم رعاة الدين، ونظام المسلمين، فاستنجزوا موعود الله ونصره، بمجاهدة عدوه، وأهل معصيته، الذين أرشدوا وتمردوا، وشقوا عصا الطاعة، وفارقوا الجماعة، ومرقوا من الدين، وسعوا في الأرض فساداً، فإنه يقول تبارك وتعالى: (إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم) فليكن الصبر معقلكم الذي إليه تلجئون وعدتكم التي بها تستظهرون، فإنه الوزر لمنيع الذي دلكم الله عليه، والجنة الحصينة التي أمركم الله بلباسها. غضوا أبصاركم، وأخفتوا أصواتكم في مصافكم، وامضوا قدماً على بصائركم، فارغين إلى ذكر الله والاستعانة به، كما أمركم الله، فإنه يقول: (إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون).

أيدكم الله بعز الصبر، ووليكم بالحياطة والنصر).

فأنت تراه قد أثار وجدانهم، بما عرضه عليهم من الأفكار ليدفعهم إلى الجهاد.

وكما في الآيات القرآنية التي ترمي إلى تحريك الإرادة مثل قوله سبحانه: (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة، ادفع بالتي هي احسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم) وكقول الشاعر:

دببت للمجد والساعون قد بلغوا ... جهد النفوس وألفوا دونه الأُزُرا

وكابدوا المجد حتى مل أكثرهم ... وعانق المجد من أوفى ومن صبرا

لا تحسب المجد ثمراً أنت آكله ... لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا

وأكثر ما يحرك الأدب الإرادة من غير أن يأمرها بذلك، كما في الروايات التمثيلية الخلقية والاجتماعية، وكما في كثير من الشعر، وربما كان هذا هو ما حدا الأقدمين إلى أن يوصوا أولادهم بحفظه ودراسته؛ بل ربما كان هو المعنى الذي لحظوه عندما وضعوا لهذا اللون من القول الجميل اسم الأدب. قال معاوية لأبنه: (يا بني، ارو الشعر وتخلق به، فلقد هممت يوم صفين بالفرار مرات فما ردني عن ذلك إلا قول ابن الإطنابة:

أبت لي همتي، وأبى بلائي ... وأخذي الحمد بالثمن الربيح

وإقدامي على المكروه نفسي ... وضربي هامة البطل المشيح

وقولي كلما جشأت وجاشت ... مكانك تحسدي أو تسبريحي

لأدفع عن مكارم صالحات ... وأحمي بعد عن عرض صحيح

وأنت ترى الشعر نفسه لا يطلب إقداماً، ولا يحث على ثبات، ولكنه حديث عن هذا النزاع الذي دار بنفس قائله، وهو في ميدان القتال، وكيف استطاع أن يثبت في هذا الميدان، يحمله على الثبات ماض مليء بالجهاد، وهمة تأبى النقيصة، وقلب موكل باكتساب المجد، ونفس اعتادت الإقدام على المكاره، وضرب هامات الأبطال دفاعاً عن مآثره، وحماية لعرضه. وليس في الشعر سوى هذا، ولكن معاوية رأى في صاحبه بطلاً جديراً بالإقتداء.

وبما قدمناه يتبين أن هذا الخلاف على أن الإصلاح الاجتماعي من أهداف الأدب خلاف ظاهري، يزيله تحديد معنى الأدب، وتحديد مجاله، أما وقد قلنا: إن كل ما في الحياة يصلح أن يكون موضوعاً للأديب؛ على أن يتناول من ناحية إحساس الأديب بما فيه من جمال أو قبح، فلا ضير على الأديب إذاً أ، يتناول مسألة خلقية أو اجتماعية يعالجها، أو أن يدعو إلى فضيلة أو ينهى عن مأثمة، على شريطة أن يكون ذلك من تجاربه، وأن يثير فينا الوجدان، فيرضى فنعمل، أو يكره فنكف.

الأديب حر في أن يتناول ما يشاء من تجاربه، من غير أن نضع له خطة ينتهجها، وكل ما نطالبه به أن يرسم لنا شعوره؛ ولذا نرى من الأدباء من أحس بجمال المشورة فمدحها، كبشار بن برد إذ قال:

إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن ... برأي نصيح او نصيحة حازم

ولا تجعل الشورى عليك غضاضة ... فإن الخوافي قوة للقوادم

ومنهم من لم ير فيه جمالاً، كعبد الملك بن صالح حين قال: (ما استشعرت أحداً إلا تكبر علي، وتصاغرت له، ودخلته العزة، ودخلتني الذلة، فعليك بالاستبداد؛ فإن صاحبه جليل في العيون، مهيب في الصدور، وإذا افتقرت إلى العقول حقرتك العيون، فتضعضع شأنك، ورجفت بك أركانك، واستحقرك الصغير، واستخف بك الكبير، وما عز سلطان لم يغنه عقله عن عقول وزرائه وآراء نصائحه). وكلا القطعتين من الأدب.

أما التعبير الإباحي فليس من الأدب، ولا الفن الجميل، لأننا نعني بالإثارة، تلك الإثارة الوجدانية الروحية الخالصة، أما إثارة الغريزة الجنسية فليس من عمل الأدب، ومثل هذا اللون من القول مثل الصور الخليعة الماجنة لا يعدان من الفنون الرفيعة.

أحمد احمد بدوي

المدرس بكلية دار العلوم - بجامعة فؤاد الأول