مجلة الرسالة/العدد 810/أساليب التفكير:

مجلة الرسالة/العدد 810/أساليب التفكير:



التفكير الخرافي

للأستاذ عبد المنعم عبد العزيز المليجي

على أن الحيوانات العليا وعلى رأسها الإنسان لا تسلك سلوكاً غريزياً خالصاً، ولا تتصرف بحكم الفطرة وحدها، بل تستخدم قدراً من الذكاء العملي، بفضله يتحقق التوازن بين الفرد وبين الظروف التي تكتنفه، وبه يتوسل إلى تحقيق رغباته الفطرية كالحصول على الغذاء، أو الاحتماء من الأخطار، أو حماية الصغار، أو اجتذاب الجنس الآخر للتزاوج والتناسل.

والإنسان شأنه شأن الحيوان، يسعى إلى تحقيق نفس هذه الأغراض وإن تعقدت وتعددت، مستخدماً نفس القدرة على التفكير العملي وإن زاد حظه منها.

بيد أنه بعد أن يرضي مطالبه الغريزية هذه فيتغذى ويحتمي ويأمن الخوف والجوع على نفسه وبنيه، ويستمتع بجماعة يهرع إليها ويختلف، ويتبادل وإياها المشاعر والعواطف طبقاً لدافع التجمع الذي غرس فيه؛ بعد أن يشبع هذه المطالب يستغل تفكيره في محاولة الكشف عن علل الحوادث التي تقع تحت ناظريه، واستجلاء أسرار ما يدركه من ظواهر الطبيعة والحياة. فالإنسان إذ يشبع ميوله ورغباته الفطرية لا يقف مكتوف اليدين أمام موكب الحياة والأحياء، ولا يقف مشاهداً سلبياً في عالم تتتابع أحداثه وتتدافع مشاهده في سرعة وتعدد وتداخل وتجدد وتغاير.

وكيف يقف هذا الموقف وقد فطر على حب الاستطلاع لكل جديد غريب لا تفادياً لما قد ينجم عنه من ضر، أو طمعاً فيما قد يفيد من خير فحسب، شأن الحيوان الذي يستطلع من أجل أغراضه الحيوية؛ ولكن الإنسان يستطلع فضلاً عن ذلك من أجل الاستطلاع في ذاته، ويطلب المعرفة للمعرفة، ويشتهي العلم للعلم في كثير من الأحيان؛ وبذلك يستبين لون جديد من ألوان التفكير لا نصادفه لدى العجماوات؛ ذلك هو التفكير النظري نضيفه إلى التفكير العملي الذي سبقت الإشارة إليه.

والإنسان في ذلك سواء: الطفل أو الرجل، البدائي الهمجي أو المدني المتحضر، المجنون أو العاقل. كل منهم قد يسعى إلى معرفة علل الحوادث والظواهر وغاياتها ونتائجها من اجل المعرفة، أي أنهم جميعاً يفكرون تفكيراً نظرياً إلى جانب التفكير العملي الذي يحفظ عليهم حياتهم.

ولكن المرء إذ يفكر تفكيراً نظرياً يذهب مذاهب ثلاثة، أو هو ينهج مناهج ثلاثة متباينة وإن اتحدت في الغاية وأعني بها المعرفة. فهو إما أن يلاحظ الظاهرة ويشاهدها ويفتش عن أسبابها ومسبباتها مستعيناً بالملاحظة المباشرة والمشاهدة الموضعية دون تأثر بالمخاوف والرغبات، أو الاستعانة بالأخيلة والأوهام، أو الخضوع للعقائد والآراء الشائعة؛ وحينئذ يقال إنه يفكر تفكيراً علمياً وينهج نهجاً موضوعياً. وإما إلا يكتفي بهذا التفكير الذي يرجع المعلولات إلى عللها والمسببات إلى أسبابها، بل يتجاوز هذا البحث في الجزئيات إلى البحث في أمور عامة لا ينالها الإدراك العادي كالخير والشر، والخلق والعدم، والروح والمادة، والأصل والمصير، بقصد الوصول إلى تفسير شامل للكون أو لجانب من جوانبه تفسيراً منطقياً لا تناقض فيه، بالاعتماد على الاستدلال أو الاستنتاج العقلي البريء من الخيال وتأثير الأهواء.

إن فعل المرء ذلك قيل إنه يتفلسف. أما الاحتمال الثالث فينصب على امرئ تحكمه أهواؤه، امرئ لا يخضع لمنطق العقل الذي يأبى التناقض، فلا يرجع المعلومات إلى عللها الحقيقية، ولا ينسب المسببات إلى أسبابها الملائمة، ولا يرد الظواهر الطبيعية إلى ظواهر من نفس العالم الطبيعي.

ولكنه امرؤ يفترض لهذه الأمور جميعاً أسباباً أو عللاً من ابتداع مخيلته، ومن نسج أهمته متأثراً بعقائد مغروسة في نفسه، مدفوعاً بأهواء متناقضة.

ولهذا نقول إنه يفكر تفكيراً خرافياً أو تفكيراً دينياً إذا قصدنا المعنى العام لكلمة دين الذي يطلق على أية عقيدة ترسخ في النفس دون مبرر منطقي أو ذريعة عقلية.

بعد هذه المقدمة التي لا مفر منها يحسن أن أتناول أساليب التفكير الثلاثة بالتفصيل مبتدئاً بأدناها، وأقلها قدرة على إصابة الحقيقة، وأسبقها ظهوراً في حياة الإنسان الفكرية: التفكير الخرافي الذي يسود تفكير الأطفال والمجانين والبدائيين من الشعوب أولئك الذين يتشابه أسلوبهم حين يعرضون لتفسير الظاهر.

الإنسان البدائي مثلاً يبدهه عديد من ظاهر الطبيعة يستوقف النظر ويدعو إلى التأمل: العواصف تطوح بمسكنه، والبرق يخطف الأبصار، والمطر يهمي بقوة لا تدفع، والظلام يبتلع كل شيء ثم لا يلبث أن يتقهقر من جديد أمام ضوء النهار، وتواصل الشمس رحلتها اليومية من جديد عبر الأفق؛ والكواكب والنجوم كل في فلك يسبحون، لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا القمر بمقدوره أن يبلغ الشمس. تغمر الأرض مياه الأمطار ثم لا تلبث أن تتلاشى في شعابها، وإن من الحجارة والصخر لما يتفجر منه ماء عذب سلسبيل، وإن من البذرة الضئيلة المدفونة في باطن الأرض لتخرج دوحة وارفة الظلال.

وهنالك الزلازل والبراكين والأعاصير تقض مضجعه وتجلب الخراب والدمار دون أن يستطيع لها دفعاً.

والموت يرزأ الكائنات فيخرسها ويسكتها سكوتاً أبدياً؛ وبطون الأمهات تأتي إلى العالم بمخلوقات جديدة من حيث لا يدري ولا يحتسب.

أمور تثير العجب والدهشة، وتدعو الطفل أو البدائي أو المتحضر إلى التأمل بغية الاهتداء إلى سرها.

أما البدائي القديم فيرتعد فرقاً من هذه الظواهر مجتمعة أو من بعضها على أقل تقدير، وذلك لقوتها وحتميتها وضعفه إزاءها وجهله بحقيقتها. ولكنه رغم خوفه منها، مشدوه بجبروتها، معجب بقدرتها، طامع في نعمتها، فناسب إياها إلى فعل إرادة خافية يتصورها على نحو ما يتصور إرادته هو، أو قوة مستورة، أو روح عظيم يحرك العالم دون أن يتبين، ويدبر الكائنات والأحداث على نحو تحريك أرواحنا للجسد، وتدبير نفوسنا للوظائف الحيوية. هذه القوى أو الأرواح أو النفوس أو الآلهة، لا بد أن تعبد ولا بد أن يبتهل لها ويتوسل إليها. ومن هنا كانت الطقوس والسحر والتعاويذ والعادات الغريبة، ومن هنا كان تفسير البدائي للظواهر التي يدركها يستند إلى خيال جامح، ويهتدي بخليط عجيب من المخاوف والرغبات ومتباين العواطف والأهواء، ويتنكب أية محاولة لدراستها دراسة واقعية موضوعية خوفاً وفرقاً من ناحية، واقتناعاً أو بالأحرى إيماناً ويقيناً بما أوحت به مخيلته وما صورت له التقاليد الموروثة من تفسيرات. تجد هوى في نفسه ولدى عقليته الساذجة قبولاً من ناحية أخرى.

وهذا هو السر فيما يتسم به التفكير البدائي من تناقض، وفيما تصادف التفسيرات الخرافية من قبول ويقين مكين لدى الإنسان في بداوته.

وليس ذلك عجيباً إذا فهمنا نفسية الإنسان على حقيقتها: إذا تحمس لرأي حماساً لا يقبل النقاش بأي حال فهو رأي أكثر استناداً إلى رغبات وأهواء كامنة منه إلى أسباب ومبررات منطقية، وإذا كان تفكيره مرده إلى عواطف ونزعات نفسية كان الخيال رائده وملهمه.

فالتعصب الأعمى مظهر من مظاهر الأهواء الخافية، والخيال خادم مطواع للعواطف والأهواء والنزعات.

تلك قاعدة عامة تصدق في كل زمان ومكان، لدى الأفراد وبين الشعوب.

تأمل معي طفلاً غريراً في الظلام، يملئوه الخوف والفزع، يسمع نأمة أو يلمح أمراً عارضاً فيندفع نحوك صارخاً مرتعداً ثم لا يلبث أن يحكي كيف رأى مارداً يدق الطبل في الظلام وما الطبل في حقيقة الأمر إلا دق رقيق على الباب؛ وما العيون القادحة بالشرر إلا شعاع من نور ضئيل نفذ من ثقب من خلال الباب، ولكن الخوف في جوانح الطفل والقصص المسمومة التي يحملها في ذهنه عن شياطين الجان ومردة الظلام، ثم رغبته في التهويل، كل هذه تتضافر على إثارة الخيال، والخيال جامح لدى الأطفال جموحه لدى الشعوب البدائية.

فكل جبل ناء، أو غابة كثيفة، أو كهف مظلم، أو شجرة ضخمة متشابكة الأغصان، أو جدول دافق، أو نبع منبجس، مسرح للأرواح التي لا ترى.

الأرواح في كل مكان: هنالك أرواح الأرض، وشياطين الهواء، وجنيات المزارع، وعرائس الماء. وكل ما يحدث في هذه البقاع إنما هو من أفعال هذه الشياطين.

وحيث أن الإنسان البدائي قديماً كان في غابر الأزمان، أو قائماً بيننا في المجتمعات الزراعية، تهدده الطبيعة بأحداثها من عواصف ومجاعات وأمراض، ويحدوه الجهل والخوف، وتسيطر عليه التقاليد والأوهام والخيالات، فلا بد أن يتصور هذه الأرواح أقرب إلى الخبث والمضرة منها إلى الخير والمنفعة، والى الطغيان والجبروت منها إلى الرحمة والوداعة.

ألا ترى إلى جموع الفلاحين في مصر أو غير مصر، أولئك الذين يقضون حياتهم نهباً للمخاوف ومسرحاً للعقائد الوهمية كيف يفسرون الحوادث بردها إلى علل خفية ما أنزل الله بها من سلطان؟ فالبقرة ماتت لأن فلاناً شهق في وجهها شهقة تنفث الحسد والحقد الدفين، وفلان لا يصيبه مرض لأنه يحمل حجاباً حصل عليه من مغربي يجيد السحر وفن التعاويذ، وفلان أصابه شلل عقب اجترائه على ولي من أولياء الله الصالحين، في حين يبرأ غيره من الفالج لأنه رأى ولي الله في منامه يدعوه إلى رحابه فلبى الدعوة وقدم النذر. ومالنا نذهب بعيداً وقد فسر كثير من عامة القوم وباء الكوليرا في العام الماضي بأنه ناجم عن فساد سيرة الناس ونذير بقرب وقوع الساعة، واستعباد الغرب للشرق بانتشار فساد الأخلاق في ربوع الشرق وغير ذلك من التفسيرات التي لا تشير إلى العلة الطبيعية، وهي الجرثومة التي أتت من مكان ما واستقرت في بلدة القرين فكان الوباء، وحاجة الغرب إلى مواد أولية وأسواق بكر ومواقع استراتيجية تحمي هذه المواطن فكان استعباد الغرب المتفوق بعلمه وعدده، للشرق الغني بثروته الدفينة، الفقير في علمه المتخلف في نظمه.

وهكذا كلما زدنا علماً وثقافة قل عنصر الخوف من الطبيعة وحل محله ميل إلى مواجهتها، وتتبع ظواهرها لتلمس عللها الحقيقية بدلاً من الهرب منها واجترار تفسيرات خيالية لها.

فالخوف - خالق الأوهام ومقيد الحريات - يتراجع دائماً أمام سلطان العلم، رفيق الأمن ومحرر العقول من الأوهام والأباطيل.

على أن تفكيرنا اليومي - نحن المثقفين - طالما تتسلل فيه نزعة خرافية خاصة إذا كنا في حالة من القلق النفسي أو الخوف أو الحزن، تلك الحالة التي يكون فيها المرء أكثر ما يكون عرضة للوساوس، وأقل ما يكون تحرزاً من الوهم، والتفسيرات الخرافية يتقبلها ليطمئن قلبه ويرد السكينة إلى نفسه.

فالإنسان مهما سما علمه ودق حسه وزكا عقله إنسان أولاً وأخيراً: ينخلع قلبه من الأهوال، ويخفق فؤاده بالحب والهوى، ويضيق صدره بالغيظ والحزن، فيهرع إلى رحاب القلب الحاني ليستريح من تمرد العقل الجاف ولو إلى حين.

وهنالك ينعم بأحلامه وأخيلته. ناهيك بقصور العقل الإنساني الذي لا يني عن السعي لتفسير الوجود تفسيراً خالياً من التناقض، ولكنه يعجز في كثير من الأحيان عن بلوغ غايته، فيقعد الإنسان ملموماً محسوراً، حائراً إزاء عوالم مغلقة مبهمة، غارقاً في بحر لجي من الظواهر والمشاهد والحوادث - لولا فضل من خيال يسارع إليه يستمد منه التفسيرات الخرافية وقد عزت عليه التفسيرات العلمية الواقعية. فيهدأ الصوت الثائر المطالب بالمعرفة إلى حين يتزود بالوسائل الأمتن والأدوات الفكرية الأقوى يهجم بها على ظواهر الطبيعة ويمزق الأستار ويقتحم ما وراءها من أسرار ليحيل في نهاية الأمر ظلام الرحاب النائية نوراً يبهر الأبصار.

فالتفكير الخرافي إذن - الذي يمتزج فيه التفكير بالخيال - ليس متاعاً تافهاً ولكنه على قصوره عنصر بالغ الأهمية في الحياة الفكرية، ومقدمة لا بد منها في تطور التفكير البشري، بل هو الوثبة الأولى في طريق العلم والعرفان، ومحاولة مجدية لكشف أسرار الطبيعة إذا تهذبت وتخلصت رويداً من تأثير المخاوف والأخيلة برز نور الفلسفة وضياء العلم.

عبد المنعم المليجي

مدرس الفلسفة بحلوان الثانوية