مجلة الرسالة/العدد 810/النبوة والإلهام عند فلاسفة الإسلام
مجلة الرسالة/العدد 810/النبوة والإلهام عند فلاسفة الإسلام
للأستاذ عبد العزيز الكرداني
تقترن بفكرة النبوة فكرة الوحي - فما من نبي إلا وهو يوحي إليه، وما من نبي إلا وهو يستلهم الله أسرار الملكوت.
ولقد جاءت نصوص الكتب السماوية مؤيدة لذلك ومؤكدة له، غير أن فلاسفة الإسلام لم يقنعوا بمجرد التسليم بالمنقول، بل أرادوا - كدأبهم - أن يفسروا المنقول بالمعقول وأن يدللوا بمنطق العقل على منطق الوجدان؛ فتمخضت عن ذلك نظرية النبوة. . . ومن قبلها نظرية الألوهية؛ نقول (من قبلها) لأن إبداع نظرية للنبوة، يستوجب حتماً بحث فكرة الله باعث الأنبياء والرسل، والكلام في الموحى إليه يستلزم بالضرورة الكلام - بداءة - في الموحي الذي أوحى!
ولقد نظر فلاسفة الإسلام فوجدوا أن (أر سطو طاليس) يتعثر في هذه السبيل تعثراً ملحوظاً. والظاهر أنه شغل بدراساته في الأخلاق والنظم عن حل عقدة الخالق الأعظم موجد الوجود وبارئ الكون - ففضلاً عن أنها تردد بين الوحدة والتعدد مرات، فإنا نراه يصور (المحرك الأول) تصويراً يتنافى مع النظرة الدينية الإسلامية. حقاً لقد أجاد (أر سطو) تعليل الحركة، فبين أن كل متحرك يتحرك بشيء آخر، وأن الكائنات الحية المتحركة بذاتها في الظاهر، يختلف المحرك فيها عن المتحرك من حيث أنها مؤلفة من جملة وظائف تحرك الواحدة منها الأخرى. . . إلا أنه عندما انتهى إلى فكرة (المحرك الأول) تخبط تخبطاً كبيراً، فهو يقول عنه إنه (المحرك الساكن) أو المحرك اسماً لا فعلاً - يعني بذلك أن الله - جل شأنه - لا يحفل شئون الكون ولا يسيره بإرادته، وكل صلة الكون به أنه يتجه إليه في حركته ويستهدفه كغاية.!.
ولقد قال (أر سطو) أيضاً بسرمدية المادة. . . فكيف يتفق ذلك وما جاء بالقرآن من أن الله خالق المادة (فاطر السماوات والأرض)؟
. . . لذلك لم يتردد فلاسفة الإسلام في القول بخلق المادة وإن سلموا مع (أر سطو) بقدمها؛ وقد أدى بهم الاشتغال بهذا الموضوع إلى ابتداع نظرية تعرف بنظرية العقول العشرة. ومن خلال هذه النظرية نستشف تصويراً فلسفياً لفكرة الوحي والإلهام تنجلي به الصلة بي الله وأصفيائه من عباده.
ومجمل نظرية العقول العشرة أن الله بفيضه قد صدر عنه العقل الأول، وعن الأول صدر الثاني، وعن الثاني الثالث. إلى أن نصل إلى العقل العاشر أو العقل الفعال، وهو أدنى هذه العقول جميعاً وأقربها إلى عالمنا الأرضي. عن هذا العقل الفعال صدرت المادة فهي قديمة وهي حادثة في آن، ومن هذا العقل الفعال يستمد الأنبياء والهداة رسالائهم، لأن الله (يفيض) عليهم عن طريق هذا العقل الفعال.
. . . هذا هو التصوير الفلسفي لفكرة الوحي عند فلاسفة الإسلام، ويبقى الآن أن نستعرض الحجة الاقناعية التي ساقها أولئك الفلاسفة للتدليل على صحة ذلك التصوير. والواقع أن المستعرض لبراهينهم في هذا المجال، لا يشق عليه أن يلاحظ عن أسلوبهم في البحث. . . اقترابه - في طرائقه التدليلية. . . من أسلوب علماء النفس المحدثين، عندما يعالجون تعليل الظواهر الجديرة بالتأمل والملاحظة؛ فهم - أعني فلاسفة الإسلام - يقررون أنه باطراد التجربة وتواتر الرواية يمكننا أن نطمئن إلى صحة الزعم بأن هنالك طائفة من الأشخاص تتكشف لهم أستار الغيب حال نومهم، فيحلمون أحلاماً هي في جوهرها صوراً رمزية لحقائق ما تزال في ضمير الغيب مخبوءة. . . بل لقد يحصل أن نتجاوز هذه الرؤى لغة الرمز والتلويح، إلى الإفصاح والتصريح، فيشاهد الحالم الوقائع ويستمع إلى المحاورات والكلمات، كما لو كان يشاهد رواية الغيب تمثل على مسرح القدر! ثم هم لا يكتفون بالوقوف في استقرائهم لهذه الظاهرة الفذة عند هذا الحد، بل نراهم يجهرون بأن هذه القدرة على الاستيحاء. . . ربما واتت أشخاصاً حال يقظتهم، متى كان هؤلاء الأشخاص قد بلغوا - من صفاء الروح ونقاوة الضمير ورهافة الوجدان حظاً عظيماً. ولعل الأنبياء والرسل في الطليعة من أولئك الأشخاص.
يتبين من هذا جميعه أن نظرية الوحي والإلهام نظرية تعتمد على المشاهدة والاستقراء، وظاهرة يؤكدها - عند فلاسفة الإسلام - اطراد التجربة وتواتر الرواية؛ فإذا عن لنا بعد هذا الاستعراض السريع للنظرية، أن نقارن في أذهاننا بين ما يقول به فلاسفة الإسلام في هذا الخصوص، وما يقول به علماء النفس المحدثين في نظريتهم عن العقل الباطن - فإنه قد يخيل إلينا حيال هذه المقارنة أننا أمام رأيين يعارض الواحد منهما الآخر، فينبغي ترجيح واحد منهما على الآخر عند الانتخاب.
. . . غير أننا - في الواقع - لن نرى ما يسوغ عقد هذه المقارنة. . . إذا ما تنبهنا إلى أنه قد ثبت بالبحث العلمي أخيراً أن كلاً من الرأيين ينطوي على جانب من الصواب، ويساهم - بنصيب - في تجلية حقيقة الأحلام وتفسير حقيقة الوحي والإلهام، ذلك أن هناك اتجاهاً يميل إلى الحد من تعميم تطبيق نظرية العقل الباطن على جميع الحالات الفردية على زعم أنه قد ثبت أخيراً بالتجربة والمشاهدة قصور النظرية بمفردها عن تفسير بعض هذه الحالات. ومن الوجه المقابل، لوحظ أن ظاهرة استكناه المجهولات والغيبيات عن طريق الأحلام أو في أحوال الغيبوبة الروحية أو أحوال اليقظة الوجدانية - صارت - في هذه السنوات الأخيرة - موضع رعاية ومحل التفات من طائفة من العلماء الروحانيين والنفسانيين بعد أن كان الرأي عند جمهرة العلماء أنها من قبيل الضلالات والأوهام.
عبد العزيز الكرداني