مجلة الرسالة/العدد 811/أبو خليل القباني باعث نهضتنا الفنية وهجرته إلى

مجلة الرسالة/العدد 811/أبو خليل القباني باعث نهضتنا الفنية وهجرته إلى

مجلة الرسالة - العدد 811
أبو خليل القباني باعث نهضتنا الفنية وهجرته إلى
ملاحظات: بتاريخ: 17 - 01 - 1949


الديار المصرية

للأستاذ حسني كنعان

- 4 -

خضع الوالي (فاضل باشا) لإرادة عبد الحميد جبار بني عثمان وأغلق مسرح القباني ومنعه عن العمل على كره منه، ولو توانى وقتئذ في تنفيذ الإرادة السنية، لكان طعمة للأسماك في بحر مرمرة مقبرة الأحرار السلبيين. . . ففرح خصومه الذين كان على أيديهم هذا الصغر، وجزع عليه عشاقه وعارفو فضله وهم الأغلبية الساحقة في البلاد، ولكنها إرادة الجبار المجتثة من إرادة الله. فلم يجرؤ أحد على ردها. وما كان علماء دمشق جميعهم راضين عن إقفال هذا المسرح، لأنهم كانوا يرونه مهذباً للأخلاق معواناً على الوعظ والإرشاد، وبث الأخلاق الفاضلة وتجنب الرذيلة، حتى أن شيوخ القباني الذين كانوا ينكرون عليه هذه النزعة في مطلع حياته إضراب المفتي الشيخ محمود حمزة ذي النزعة الصوفية، والشيخ واعظ السجدة وكبار العلماء المنقضين، كانوا لا يتورعون عن حضور مجالسه ومشاهدة رواياته الأخلاقية والتاريخية والاجتماعية المأخوذة من صور حياة البيئة التي ولد فيها ودرج في أفيائها، لأنهم ما كانوا ليروا فيها من الأمور المحرمة ما يخالف مبادئهم. أما الذين كانوا يناوئونه من أرباب العمائم الذين اتخذوا من هذه (الخرقة) التي تستر رءوسهم الفارغة وسيلة للتخلص من الخدمة العسكرية في ذلك العهد. . وهم ليسو على شيء من العلم، ولقد لاقى القباني من جور هذه الفئة وعثوها وفتنتها وشغبها ما زهده في الحياة وجعله يقيم في منزله معتزلاً الناس لا يرى أحداً ولا يراه أحد. .

ولقد طال اعتزاله الناس والبعد عنهم حتى كادوا ينسونه، وإذا ما فكر مفكر منهم فيه خاف جفوة السلطان وغضبه. . . وكان هؤلاء الخصوم المرتزقون المتكسون الذين طالما فادوا من أعطيات صاحبهم ومنحه ومبراته يغتنمون فرصة جور سلطانه وكلب زمانه فيركبونه بالشغب والإزعاج كلما أبصروه على سبيل المصادفة في طريقهم حتى أنهم كانوا يتبعونه الصبية المأجورين لهذه الغاية فيترسمون خطاه، ويسمعونه من المدائح (والقريديات) والأهازيج الموضوعة من أجل إغاظته وإزعاجه ما يندى له جبين الفضيلة والأخلاق كقولهم له:

أبو خليل النشواتي ... يا مزيف البنات

ارجع لكارك أحسن لك ... إرجع لكارك نشواتي

أبو خليل مين قال لك ... على الكوميدى مين دلك

ارجع لكارك أحسن لك ... إرجع لكارك قباني

أبو خليل القباني ... يا مرقص الصبياني

ارجع لكارك أحسن لك ... أبو خليل القباني

وكانت هذه الأهازيج تقض مضجعة ومضجع مر يديه، ولكن من ذا الذي يعارض ويدافع عنه وهو مجفو من السلطان والناس في مثل هذه الساعات يظهرون معاداتهم لمثل من يكون هذا شأنه معهم؟

وكان القباني كثيراً ما يبقى شارد النوم موزع الفكر واللب من جراء ما يلقاه إلى أن أخذ يفكر في الخروج من هذا المحيط الضيق الذي ضيقوا عليه فيه واسعاً. وفي ليلة من ليالي الشتاء العابس نبا به مضجعه وند النوم عن مقلتيه لشدة ما عراه من الفكر والهواجس؛ وما أكثر الليالي الطوال التي كان يشرد فيها النوم عن عينيه! وكان قد رنق النوم أجفانه في الفجر فهب بعد ساعتين من هجعته على أثر سماع هاتف خيل إليه إنه يهيب به قائلاً: أيها الراقد المتناوم المؤرق هب من ضجعتك واطرد عنك الهم والحزن، فأن مستقبلاً لامعاً يعد لك وهو ينتظرك في غير هذى البقعة الضيقة. . . قم وأبحث عن غير هذه المواطن التي تدفن فيها العبقريات:. . .

إذا ضاق صدرك من بلاد ... ترحل طالباً أرضاً سواها

فإنك واجد أرضاً بأرض ... ونفسك لم تجد نفساً سواها

فخف على أثر سماعه صوت الهاتف وجعل يخطر في غرفته ذهاباً وإياباً ويصيح بملء صوته: وجدتها وجدتها. . .

فصاحت به ربة الدار حانقة غاضبة ومن هي التي وجدتها يا رجل. . .؟ كفاك كفاك هراء، لقد أمرضتني والله وأزغت عقلي بهذه الموجات الجنونية التي تواتيك الفينة بعد الفينة لا نوم ولا راحة ولا استكانة ولا شغل لك إلا بهذه الهواجس والفكر. إن الذي ألقاه منك ويلقاه بنوك الصغار قد يضيق الصدر منه، ويعز الصبر عليه، لا عمل لك ولا شغل إلا هذه المهاترات. ارجع إلى صناعتك الأولى وأرحنا من هذا العناء وخلصنا من شبح الكوبة، قل لي: بالله ما الذي جنيته من الأموال وما الذي اكتنزته من وراء هذه الصناعة صناعة التمثيل؟ إنك والله ما جنيت منها سوى التعب ومعاداة الناس وجور السلطان، وعار الأبد. إنك منذ مزاولتك هذه الصناعة ألبستني ثوب العار، كما جلبت لنفسك ولرهطك مذلة الأبد بهذه (الضربويات) التي نسمعها والتي درجت على ألسن الناس مدرج الأمثال. وهل إنسان في الكون يطيق سماع عبارات كالتي توجه إليك، وفيها التحقير والتشهير، وأنت إلى هذا لا تستطيع أنت وصحبك أن تصنعوا شيئاً، أرأيت أن عبارة:

أبو خليل يا بومة ... يا بو اللفه الرومي

أعطيني من ذقنك شعرة ... لأصلح ها لبيتوني

لو وجه مثلها إلى أحقر إنسان في العالم أكان يصبر عليها ويرضى هذا الذل؟

وهنا استشاط القباني من الغضب والحنق وصاح بها مجيباً:

على رسلك يا امرأة، وما تضيرني هذه الأهازيج والأقوال، ولو كانت هذه العبارات تضر إنسانا أو تحول دون وصوله إلى غاياته وبلوغ أمنيته، لأضرت بالعظماء وبالنبيين قبلي، لأنهم كانوا يلاقون من عنت الناس وجورهم ما لا يقاس ما لقيته بشيء تجاه ما لقوه، ومع هذا فقد مضوا في عملهم. صابرين مستكينين إلى أن أدوا رسالتهم تامة غير منقوصة، وجنوا ثمار جهودهم بأن خلدوا لهم ولأمتهم أحسن الذكر. فكوني متفائلة يا امرأة. والذي أمله منك التشجيع، وليس كالمرأة الصالحة معوان للرجل. فاستحيت هنا (أم خليل) ولامت نفسها قائلة (وأنا مالي أم علي تندب علي) وهنا نهض القباني المؤرق المتعب المكدود الذهن من فراشه وهو يردد قوله وجدتها والله وجدتها وجدتها. . ثم أمسك بيده قلماً وورقة وكتب بها رسالة إلى صديق له في الإسكندرية يدعى (سعد الله بك حلابو) وهو حمصي الأصل ومن أكبر تجار هذه المدينة الساحلية العظيمة، وله مراكب تجارية تمخر عباب البحر وتنقل البضائع الصادرة والواردة إلى المدن والقرى الساحلية.

يستطلع رأيه في الرسالة بالشخوص إلى الإسكندرية. ولما أطلع حلابو على الرسالة وفهم فحواها طار فرحاً، وجعل يمر بها على أصدقائه ويزف لهم بشرى شخوص هذا النابع إلى الديار المصرية، وكانت شهرته قد بلغت مسامع الكثيرين من المصريين. ولم تكن فرحة صديقه بالتي تذكر أمام فرحة هؤلاء المشتاقين من هواة الفن الذين يرغبون في أجتلاء طلعة هذا النابع الذي طبقت شهرته الآفاق. وفي الحال أجابه صديقه التاجر الحمصي يزين له المجيء إلى الإسكندرية، وأفهمه أن القطر المصري في انتظار قدومه وفي انتظار الخطوة في مشاهدة روائع فنه. وكان على أهبة السفر ساعة أتاه الجواب بلزوم الهجرة إلى القطر العزيز (بوتقة) العبقريين، إذ ما من فنان أو مشرد طريد من بلاده مضطهد أمها إلا لقي في هذا القطر أهلاً يحضنونه ويحدبون عليه، وأنا أعرف كثيراً من الفنانين الطريدين الذين أنكرتهم بلادهم قد بسم لهم دهرهم على جنبات هذا الوادي الخصيب وكانوا من ألمع الشخصيات في فنهم. . .

لم يأخذ القباني معه أسرته ولم يأخذ معه جوقته إلى الديار المصرية يوم نزح إليها مهاجراً مشرداً طريداً كما ترى. . . بل ذهب بمفرده، وكان سرور القوم به عظيماً جداً، وما أستقر قدمه في الإسكندرية حتى خف إليه عشاق فنه من كل صوب، وبلغ من شهرته أن غدت الوفود المهنئة تفد إليه من القاهرة، وكان مغتبطاً مسروراً بما لقي من ضروب الكرم وحسن الوفادة

وأخيراً حبب إليه عشاق الفن أن يؤم القاهرة ويفتح بها مسرحاً. وهناك أقاموا له مسرحاً في الأزبكية، فاستقدم على الفور كبار رجالات جوقته من دمشق وأخذ يزاول العمل بهة لا تعرف الملل والكلل، ثم أستقدم أفراد أسرته وسكن القاهرة ناسياً بما لقيه من تشجيع وتنشيط كل ما لقيه في دمشق من ذل ومهانة. .

وكان التمثيل مجهولاً في هذه البلاد التي قطنها، ولذا أقبل أهلها على مشاهدة رواياته إقبالاً منقطع النظير، وعاد إليه حظه الباسم وحياته المرحة. ومن أشهر رواياته التي فتن المصريون بها رواية عنترة، أنس الجليس، ناكر الجميل، (متريدات) (عفيفة) ملتقى الخليفتين، (الكوكبين) (الأمير محمود) (السلطان حسن) (أسد الشري) (لويسا) وغيرها من الروايات التي سحر الناس بها، وزيادة في الافتتان بهذه الروايات طبعها عازفو فضله وتعاورتها الأيدي، وأمست شغل الناس الشاغل. . .

يتبع - دمشق

حسني كنعان