مجلة الرسالة/العدد 811/الفيلسوف القتيل:
مجلة الرسالة/العدد 811/الفيلسوف القتيل:
شهاب الدين السهروردي
للأستاذ أحمد أحمد بدوي
شخصية أضفي عليها مصيرها المحزن كثيراً من الخيالات. فمن معجب يدافع عنها ويضيف إلى محاسنها، ومن ناقم يحقرها ويزيد في مثالبها. وقد أختلف مؤرخوه حتى في اسمه؛ فقال بعضهم: هو أحمد، وقيل كنيته اسمه، وهي أبو الفتوح، وذكر ابن أبي أصيبعة أن اسمه عمر، وارتضى ابن خلكان أن اسمه يحيى ابن حبش الملقب بالمؤيد بالملكوت.
ولد في سهرورد، وهي بليدة في العراق المجمي، حول سنة 549، ودرس الفلسفة وأصول الفقه على الشيخ مجد الدين الجيلي بمدينة المرافة، من أعمال أذربيجان، حتى برع فيهما. ومجد الدين الجيلي هذا هو شيخ فخر الدين الرازي، عليه تخرج وبعلمه انتفع، وكان بارعاً في فنونه. وقد دارت بين تلميذيه: الفخر والشهاب مباحثات كثيرة. ودرس السهروردي إلى جانب الفلسفة علم الكلام والمنطق. ويقال إنه كان يعاني السيمياء وأبواب النيرنجيات، وهي أشياء تشبه السحر لا حقيقة لها، وأوردوا له في ذلك قصصاً.
والظاهر أنه كان على درجة عالية من الذكاء وفصاحة العبارة والمقدرة الجدلية؛ كان الشيخ فخر الدين المارديني يقول عنه: ما أذكى هذا الشاب وأفصحه! لم أجد أحداً مثله في زماني إلا أني أخشى عليه لكثرة تهوره واستهتاره وقلة تحفظه أن يكون ذلك لتلفه. ويبدو أن نظرة المارديني إليه كانت صادقة؛ فأن اندفاعه في إعلان آرائه كان سبب رداه، فقد مضى إلى حلب، وأعلن آراءه بها وكان ذلك سنة 575، واستمال خلقاً كثيراً تبعوه. ولست ادري إن كان أتباعهم إياه أتباعاً لآرائه الفلسفية، أو أتباعاً لسيميائه ونيرنجياته إذا صح علمه بهما. واتصل بالظاهر غازي بن صلاح الدين. وهنا يختلف المؤرخون؛ فمن قائل: إنه عندما اتصل بالظاهر أعجبه كلامه، ومال إليه، وأحضر أكابر المدرسين والفقهاء والمتكلمين، ليسمع ما يجري بينهم وبينه من المباحث، فناظره العلماء، فظهر عليهم بعبارته، فحسن موقعه عند الظاهر وقربه، فازداد تشنيع العلماء عليه، وكتبوا محاضرة بكفره وأرسلوها إلى دمشق إلى صلاح الدين، وقالوا: إن بقي هذا فانه يفسد الملك الظاهر، وكذلك إن أطلق، فانه يفسد أي ناحية كان بها من البلاد، وزادوا عليه أشياء كثيرة من ذلك. فبعث صلاح الدين إلى ولده كتاباً بخط القاضي الفاضل يقول فيه إن هذا الشهاب السهروردي لا بد من قتله، ولا سبيل إلى أن يطلق أو يبقى بوجه من الوجوه. ومن قائل: إنه عندما حضر إلى حلب أفتى علماؤها بإباحة قتله، بسبب اعتقاده، وما ظهر لهم من سوء مذهبه، وكان أشد الجماعة عليه الشيخان: زين الدين ومجد الدين ابنا حميد فحبسه الظاهر ثم قتله بإشارة والده.
ويختلفون في طريقة قتله، فقال بعضهم: قتل خنقاً، وقال آخرون: إنه اختار أن يترك في مكان منفرد، ويمنع من الطعام والشراب، حتى يلقى الله تعالى، ففعل به ذلك. وقال بعضهم: إنه قتل وصلب أياماً. والذي أرجحه من ذلك رواية ابن شداد من أن الظاهر قبض عليه لما بلغه من خبره، ثم عرف السلطان به، فأمر بقتله فقتله، وكان ذلك سنة 587 وسنه نحو ستة وثلاثين عاماً.
لم اقرأ كتب الشهاب كلها حتى أستطيع تحديد آرائه المخالفة لآراء الجمهور. ويبدو أن اندفاعه في إبداء أفكاره من غير تقييد لها كان سبب هذا القتل؛ فقد قال له العلماء: إنك قلت في بعض تصانيفك: إن الله قادر على إن يرسل نبياً، وهذا مستحيل. فقال: ما وجه استحالته؟ فأن الله القادر لا يمتنع عليه شيء. فلم يفرق لسائليه بين الممكن في حد ذاته، والممكن الذي أخبر القرآن بأنه لن يقع.
واتهموه بانحلال العقيدة والتعطيل، واعتقاد مذهب الحكماء المتقدمين. ولكن ما أثر عنه ينفي ذلك، فقد رووا من دعائه قوله: اللهم يا قيام الوجود، وفائض الجود، ومنزل البركات، ومنتهى الرغبات، منور النور، ومدبر الأمور، واهب حياة العالمين، أمددنا بنورك، ووفقنا لمرضاتك، وألهمنا رشدك، وطهرنا من رجس الظلمات، وخلصنا من غسق الطبيعة إلى مشاهدة أنوارك، ومعاينة أضوائك ومجاورة مقربيك، وموافقة سكان ملكوتك، واحشرنا مع الذين أنعمت عليهم من الملائكة والصديقين، والأنبياء والمرسلين). واثر عنه مناجاة جاء فيها: (إلهي وإله جميع الموجودات: من المعقولات والمحسوسات، يا واهب النفوس والعقول، ومخترع ماهيات الأركان والأصول، يا واجب الوجود، ويا فائض الجود، يا جاعل القلوب والأرواح، ويا فاعل الصور والأشباح، يا نور الأنوار، ومدبر كل دوار، أنت الأول الذي لا أول قبلك، وأنت الآخر الذي لا آخر بعدك. الملائكة عاجزون عن إدراك جلالك، والناس قاصرون عن معرفة كمال ذاتك. اللهم خلصتا عن العلائق الدنية الجسمانية، ونجنا من العوائق الردية الظلمانية. أرسل على أرواحنا شوارق أنوارك، وأفض على نفوسنا بوارق آثارك. العقل قطرة من قطرات بحار ملكوتك، والنفس شعلة من شعلات نار جبروتك. ذاتك ذات فياضة، تفيض منها جواهر روحانية، لا متمكنة ولا متحيرة ولا متصلة ولا منفصلة، مبراة عن الأحياز والأين، معراة عن الوصل والبين، فسبحان الذي لا تدركه الإبصار، ولا تمثله الأفكار. لك الحمد والثناء، ومنك المنع والعطاء، وبك الجود والبقاء، فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء واليه ترجعون).
والظاهر أن نسبته إلى التعطيل جاءت من إنه كان يرى رأي المعتزلة الذين لا يرون الصفات شيئاً خارجاً عن الذات، وهو يقول عن ذلك في كتابه: هياكل النور: (والصفة لا تجب بذاتها وإلا ما احتاجت إلى محلها، فواجب الوجود ليس محلاً للصفات ولا يجوز إن يوجد في ذاته صفات. فإن الشيء الواحد لا يتأثر عن ذاته. ونحن إذا تصرفنا في عقولنا يكون الفاعل شيئاً والقابل شيئاً آخر. فواجب الوجود واحد من جميع الوجوه؛ ولكن ليس معنى هذا نفي الصفات عن واجب الوجود. وقد اثبت لله هذه الصفات؛ إذ قال في هياكل النور: (وله من كل متقابلين أشرفهما، وكيف يعطى الكمال من هو قاصر؛ وكل ما يوجب تكثيراً من تجسيم أو تركيب ممتنع عليه تعالى، والحق لا ضد ولا ند له، ولا ينتسب إلى ابن، وله الجلال الأعلى، والكمال الأتم، والشرف الأعظم، والنور الأشد: ليس بعرض فيحتاج إلى حامل يقوم به وجوده، ولا بجوهر فيشارك الجواهر في حقيقة الجوهرية، ويفتقر إلى مخصص دلت عليه الأجسام باختلاف هيئاتها. فلولا مخصصها لما اختلفت أشكالها ومقاديرها وصورها وأعراضها وحركاتها. وما أوردناه من مناجاته ودعائه، وما قدم به كتابه هياكل النور يدل على أنه يثبت لله صفات الكمال الأسمى. . . . .
والشهاب يسير في إثبات وجود واجب الوجود، وما هو عليه من كمال على طريق الفلاسفة الذين يعتمدون على الدليل العقلي؛ كما ترى ذلك في كتابه المشارع والمطارحات (ص127) وكتابه هياكل النور.
لست ادري كيف نسبوه إلى الإلحاد وما أوردناه من كلامه لا يدل على الحاد ولا زندقة؟ وكيف نحكم بالإلحاد على رجل يقول: (فوحد الله، وأنت بتعظيمه ملآن، وأذكره وأنت من ملابس الأكوان عريان، ولو كان في الجود شمسان، لانطمست الأركان)؛ ويثبت وحدانية واجب الوجود بقوله في هياكل النور (ص5): (لا يصح أن يكون شيئان هما واجباً الوجود لأنهما لو اشتركا في جوب الوجود فلا بد من فارق بينهما، فيتوقف وجود أحدهما أو كليهما على الفارق، ولا يمكن أن يكون شيئان لا فارق بينهما فانهما يكونان واحداً) ويقول (ص12): (ويجب على المستبصر أن يعتقد صحة النبوات)؛ ويرى أرواحنا نوراً حادثاً خلقه الله إذ يقول (ص6 من هياكل النور): (ونفوسنا الناطقة أنوار حادثة ولها مرجح ولا توحدها الأجسام، إذ لا يوجد الشيء وما هو اشرف منه، فمرجحه أيضاً نور مجرد، فأن كان واجب الوجود فهو المراد، وإن أمكن فينتهي إلى واجب الوجود الحي القيوم. وكان يدعو واجب الوجود نور الأنوار، ولست أرى في ذلك اكثر مما أجده في قوله تعالى: (الله نور السماوات والأرض).
أما مذهبه في التصوف فمذهب الإشراقيين الذين يرون المعرفة إنما تنال بإشراق منه تعالى على قلوب مريديه، وله في ذلك كتاب حكمة الإشراق، ويحدثنا عن ذلك بقوله في الهيكل الثامن: (النفوس الناطقة من جوهر الملكوت، وإنما يشغلها عن عالمها هذه القوى البدنية ومشاغلها، فإذا قويت النفس بالفضائل الروحانية، وضعف سلطان القوي بتقليل الطعام والشراب، وتكثير السهر، تخلص النفس أحياناً إلى عالم القدس، وتتلقى منه المعارف والمغيبات، في نومها ويقظتها، كمرآة تنتقش بمقابلة ذي نقش. . . فيشاهد (المريد) صوراً عجيبة تناجيه، أو يسمع كلمات منظومة، أو يتجلى الأمر الغيبي)؛ ومن اجل ذلك يرى أجسادنا المظلمة لا تستطيع أن تلج ملكوت السماوات الذي تصل إليه الروح التي هي نور من أنواره تعالى، منه مشرقها وإليه مغربها، وهي لذلك تحن إلى مصدرها. وله في ذلك شعر قاله على مثال أبيات ابن سينا العينية بدأه بقوله:
خلعت هياكلها بجرعاء الحمى ... وصبت لمغناها القديم تشوقاً
وله أيضاً شعر على مذهب المتصوفة الذين يشتاقون الوصول إلى الحق، والاتصال بالنور الأسمى، كقوله:
أبداً نحن إليكم الأرواح ... ووصالكم ريحانها والراح
وقلوب أهل ودادكم تشتاقكم ... والى لذيذ لقائكم ترتاح
وارحمتا للعاشقين تكلفوا ... ستر المحبة والهوى فضاح بالسر إن باحوا تباح دماؤهم ... وكذا دماء العاشقين تباح
وإذا همو كتموا تحدث عنهمو ... عند الوشاة المدمع السفاح
وكان الشهاب يؤمن بكرامات الأولياء التي قد يكون منها أن تخضع العناصر لإرادة الصوفي، وقد قال عن ذلك في كتاب الهياكل (ص12). (وقد تطرب النفوس المتآلهة طرباً قدسياً، فيشرق عليها نور الحق الأول تعالى، فتخضع لها العنصريات، ولما رأيت الحديدة الحامية تتشبه بالنار بمجاورتها، وتفعل فعلها، فلا تتعجب إن أشرقت النفس، واستضاءت بنور الله تعالى، فأطاعتها الأكوان إطاعتها للقديسين).
فالشهاب - كما يبدو لي - رجل صوفي، جمع إلى ثقافته الدينية، وعقيدته الإسلامية، ثقافته بفلسفة الإغريق وحكمتهم، من غير أن يخرجه ذلك عن حدود الإسلام، ومن أجل هذا أرى صلاح الدين قد تسرع بإصدار الحكم عليه بالقتل، وأن العلماء الذين أفتوا بذلك، فتبعهم صلاح الدين - كانوا مخطئين؛ فليس ما خالف مذهب أهل السنة يعد كفراً وزندقة. ويقال: إن الملك الظاهر ندم على قتله، وانتقم من الذين أفتوا بإباحة دمه، وقبض على جماعة منهم واعتقلهم.
هذا، ولا بد أن قد كان لهذا القتل أثره في إخفات صوت الفلسفة، وخنق كل صوت لا يدين بمذهب أهل السنة.
وقد اختلف معاصروه في تقديره وفي حياته وبعد مماته؛ فهذا عبد اللطيف البغدادي يقول عندما دخل الموصل: وسمعت الناس يهرجون في حديث الشهاب السهروردي المتفلسف، ويعتقدون إنه قد فاق الأولين والآخرين، وإن تصانيفه فوق تصانيف القدماء، فهممت لقصده، ثم أدركني التوفيق، فطلبت من ابن يونس شيئاً من تصانيفه، وكان أيضاً معتقداً فيها، فوقعت على التلويحات واللمحة والمعارج، فصادفت فيها ما يدل على جهل الزمان، ووجدت لي تعاليق كثيرة لا أرتضيها، هي خير من كلام هذا الالوك.
أما سيف الدين الآمدي فيراه كثير العلم قليل العقل، ويروى أن الشهاب قال له: لا بد أن أملك الأرض، فقال الأمدي: من أين لك هذا؟ قال: رأيت في المنام كأني شربت ماء البحر. فقال الأمدي لعل هذا يكون اشتهاء العلم أو ما يناسب هذا. ولكن الامدي لم يرجع عما وقع في نفسه. وربما كان ذلك منسوباً إلى الأمدي كذباً، لأنا نستبعد ذلك على رجل مثل السهروردي أو كان ذلك صادراً عن رأيه في كرامات الأولياء، وقد سبق لنا عرضه.
أما بعد موته، فقد كتب كاتب على قبره بعد دفنه بظاهر حلب:
قد كان صاحب هذا القبر جوهرة ... مكنونة، قد براها الله من شرف
فلم تكن تعرف الأيام قيمتها ... فردها غيرةُ منه إلى الصدف
قال ابن خلكان: وأقمت بحلب سنين، للاشتغال بالعلم الشريف، ورأيت أهلها مختلفين في أمره، وكل واحد يتكلم على قد هواه، فمنهم من بنسبه إلى الزندقة والإلحاد، ومنهم من يعتقد فيه الصلاح، وإنه من أهل الكرامات؛ وأكثر الناس على أنه كان ملحداً لا يعتقد شيئاً.
وللشهاب من المؤلفات كتاب التنقيحات في أصول الفقه، وكتاب الألواح العمادية، وهو عجالة في المبدأ والمعاد على رأي الإلهيين، وكتاب التلويحات في ثلاثة علوم: المنطق، والطبيعي، والإلهي، وكتاب المقاومات، وهو لواحق على كتاب التلويحات، وكتاب هياكل النور، وقد شرحه جلال الدين محمد بن اسعد الدواني، وكتاب علم الهدى وأسرار الاهتداء، وكتاب اللمحات وكتاب المعارج، وكتاب حكمة الإشراق، وهو متن مشهور، شرحه الأكابر - كما قال في كشف الظنون - ومنهم قطب الدين الشيرازي، وكتاب المشارع والمصارحات. وهي كتب في المنطق والفلسفة والتصوف وله رسالة العزبة الغريبة على مثال رسالة الطير لابن سينا، ورسالة حي بن يقظان له كذلك، وقد أشار فيها إلى حديث النفس على اصطلاح الحكماء.
ونختم هذه الترجمة بذكر ما وصفه به بعضهم من إنه كان زري الخلقة، دنس الثياب، وسخ البدن، لا يغسل له ثوباً ولا جسماً ولا يداً، ولا يقص ظفراً ولا شعراً، وكان القمل يتناثر على وجهه، ويسعى على ثيابه، وكل من يراه يهرب منه. وعندي أن ذلك من وضع شانئيه، ولو كان كما وصفوا ما خشي صلاح الدين منه فتنة أن يتبعه أحد.
وبعد فارجوا أن أوفق إلى دراسة كتب هذا الرجل، فعساي أدرك سر قتله، لأني أرجح - إلى اليوم - إنه قتل مظلوماً.
أحمد أحمد بدوي
مدرس بكلية دار العلوم بجامعة فؤاد الأول