مجلة الرسالة/العدد 814/القوة الحربية لمصر والشام في عصر الحروب
مجلة الرسالة/العدد 814/القوة الحربية لمصر والشام في عصر الحروب
الصليبية
للأستاذ أحمد أحمد بدوي
- 1 -
كون المعز لتثبيت عرشه جيشاً لجباً كان أكثره من قبيلة كتامة التي ساعدت الأسرة المالكة وأخلصت لها في بلاد المغرب، وعلى يديها تم فتح مصر، ولكن جيش الفاطمية لم يحتفظ بوحدة عنصره خوفاً من استبداد هذا العنصر فكون خلفاؤهم فرقاً أخرى من الديلم والأتراك حتى إذا كان عهد المستنصر استكثرت أمه من السودان. حتى بلغوا نحو خمسين ألفاً، وأستكثر هو من الأتراك فلما جاء بدر الجمالي من عكا أقام له جنداً من الأرمن أبناء جنسه، وصاروا معظمهم الجيش، وشبت الحروب الصليبية، والجيش في مصر مكون من هذه العناصر المختلفة، إليها عنصر البدو من بلاد الحجاز، ويظهر أن الفاطميين لم يكونوا من أبناء مصر فرقاً في جيشهم، فلم يرد ذكر لفرقة مصرية في كتب التاريخ، ولم يحدثنا عنها ناصري خسرو الذي وصف الجند في عهد المستنصر؛ وإنما اعتمدوا على هذا المزيج الأجنبي مما يسر لصلاح الدين قلب دولتهم من غير أن ينهض المصريون للدفاع عنها.
كان الجيش في مصر مكوناً من هذه العناصر المختلفة التي ظلت تغذيه في المدة الباقية من الحكم الفاطمي وسميت فرقه بأسماء مختلفة تدل على موطنها حيناً كطائفة البرقية الذين قدموا من برقة أو على من كونها حيناً آخر من خليفة أو وزير كطائفة الحافظية والآمرية والجيوشية والأفضلية، نسبة إلى الخليفة الحافظ والخليفة الآمر وأمير الجيوش بدر الجمالي وابنه الأفضل، أو على جنسها كالفرقة الرومية والسودانية، أو قبيلتها كفرقة المضامرة المكونة من إحدى قبائل البربر، أو زعيمها كطائفة الميمونية نسبة إلى ميمون.
لم تذب هذه العناصر بعضها في بعض لتكوين وحدة متسقة، ولكن احتفظ كل عنصر بشخصيته، وسكنت كل طائفة في حارة خاصة بها ولم تكن الصلة بين هذه الطوائف صلة حب ووئام دائماً وإنما كانت المنافسة هي المظهر السائد بينها. وكثيراً ما أدت المنافسة إلى الاشتباك في حرب بين هؤلاء المتنافسين، كتلك الحرب التي شبت بين الأتراك والسودان في عهد المستنصر والتي لم تهدأ إلا بعد أن جلبت الخراب على مصر. وقد يثير الطامعون في الحكم الفتن بين هذه الفرق ليستنصروا ببعضها على بعض، فتندلع نيران الحرب بين الفريقين كما فعل الأمير حسن ابن الحافظ لدين الله الذي كان يبغي أن يكون ولي العهد يدل أخيه حيدرة، فإنه أثار الفتنة بين الطائفة الجيوشية والطائفة الريحانية، والتقى الفريقان في معركة قتل فيها ما يزيد على خمسة آلاف نفس؛ وكانت الوقعة هذه أول مصائب الدولة الفاطمية وكما حدث في الحروب التي قامت بين شاور وضرغام.
هذا المزيج إنما يصلح لدفاع الصليبين إذا وجد القائد القوي المدرب، أما وقد ضعف الخلفاء، وأصبح هم وزرائهم الأول الاحتفاظ بالسلطة في أيديهم، فقد أبقى الوزراء الجيوش الموالية لهم في مصر لتوطيد شوكتهم في البلاد، فلم يكن موقف الجيش المصري من الحروب الصليبية الأولى ناشئاً من قلة كما سنرى وقد حاول الأفضل بن أمير الجيوش أن يستعين بالمغاربة على حرب الصليبين ولكن لم ينجح.
وكان الجيش بالشام في تلك الفترة من الزمن بالإمارات المختلفة مكوناً من العرب ولا سيما البدو، ومن الترك.
والظاهر أن أقوى الفرق بمصر عندما جاء إليها صلاح الدين كانت الفرقة السودانية التي أعتز بها السودانيون، فنزحوا إلى مصر، وصار لهم بها شوكة وقوة، وكونوا لهم في كل قرية ومحلة وضيعة مكاناً مفرداً لا يدخله وال ولا غيره احتراماً لهم، ويبدو أنه عز على الطائفة أن ترى صلاح الدين وجيشه الجديد يغتصب مالها من القوة والنفوذ، فدبر زعماؤها المكائد له، ولكنه بادر بقتل زعيمهم، ومهاجمتهم في حيهم، فهزمهم وخرب حارتهم المنصورية وتتبعهم في بلاد الصعيد حتى أفناهم.
كون صلاح الدين جيشاً معظمه من الأكراد. قال ابن إياس: (لما ملك صلاح الدين أزال ما كان بمصر من العناصر الملفقة وكانوا بين صقالبة وكدانة ومصامدة وأرمن وثنائرة العرب والعبيد السود، فمحا تلك الطوائف جميعها، واتخذ بمصر عساكر من الأكراد خاصة، فكان عدتهم أثنى عشر ألف فارس من شجعان الرجال الذين لا يكلون من الحروب، ولكن يظهر أن الجيش في عهد صلاح الدين أيضاً لم يكن موحد العنصر من الأكراد بل كان فيه ترك وعرب، وربما كان صلاح الدين قد فسح المجال للمصريين فالتحقوا بسلك الجندية وكونوا فرقاً، بل يظهر أن صلاح الدين لم يسرحوا جيش الفاطميين تسريحاً تاماً، بل أبقوا على بعض فرقه، ففي عهد العزيز بن صلاح الدين يسجل التاريخ قتالاً دار بين الطائفة المحمودية واليانسية، وهما من فرق الجيش الفاطمي.
وحافظ خلفاء صلاح الدين على تكوين جيوشهم من الأكراد والترك والعرب، وقسمت الجيوش فرقاً نسبت كل واحدة منها إلى أحد القواد العظام كالفرقة الأسدية نسبة إلى أسد الدين شبركوه، والصلاحية نسبة إلى صلاح الدين، الأشرفية نسبة إلى الأشرف موسى.
وكما لم تذب العناصر بعضها في بعض أيام الفاطميين لم تذب كذلك في عهد الأيوبيين، وكان النزاع يحدث أيضاً بين هذه العناصر والفرق، أو ينحاز بعضها إلى زعيم وينحاز بعضها الآخر إلى زعيم غيره كما حدث ذلك في أيام العزيز، وفي عهد العادل الثاني، غير أن القيادة القوية في عهد الأيوبيين لا تلبث أن تعيد النظام إلى نصابه، وتقبض بيدها القوية على الزمام، فيعود السلام ويسود النظام.
وظل العنصر الكردي هو الغالب على الجيش طوال عهد الدولة الأيوبية حتى عهد الصالح أيوب الذي أستكثر من شراء المماليك، وكان معظمهم من الأتراك، وسبب استكثاره منهم أنه لمس إخلاصهم ووفاءهم له في الشدة التي ألمت به في حرب لأخيه العادل، فإنه عندما أعتقل بالكرك، انفض من حوله جنده من الأكراد، ولم يبق معه سوى مماليكه الذين اشتراهم، فعندما استولى على عرش مصر حفظ لهم ذلك الجميل، واستكثر منهم حتى صار منهم معظم الجيش، وارتفع عددهم في معركة المنصورة إلى عشرة آلاف وظل المماليك حفظة أوفياء للصالح وذكراه ومنذ ذلك الحين إلى أن انتهت الحروب الصليبية والعنصر الغالب في الجيش النظامي الدائم هو عنصر الأتراك المماليك وإن كان في الجيش أكراد وعرب، أما عندما هوجمت مصر وبدا خطر استيلاء الفرنج عليها في عصر الكامل والصالح فقد هب المصريون للدفاع عنها، واجتمع عنها واجتمع منهم عدد ضخم ساهم مساهمة فعلية في الذود عن حياض الوطن، وفي الحملات الحربية التي شنتها في جنوب الوادي أو ضد المغول أو الفرنج في عصر المماليك لم تتكون جيوشها من المماليك وحدهم، بل شاركهم في ذلك المصريون والسوريون والبدو من العرب، وكان عددهم يزيد على عدد المماليك ومن ذلك يبدو لنا أن المصريين والعرب قد ساهموا - ولا مريه في ذلك - بنصيب كبير في الحرب ضد الصليبيين والمغول في عصر الأيوبيين والمماليك فإن هذه الأرقام الضخمة التي يحفظها التاريخ للجيش الإسلامي المهاجم أو المدافع لا يمكن أن تفهم إلا على أساس اشتراك المصريين والعرب في هذا الجيش الذي يجب أن نميز فيه بين جيش نظامي ثابت قد يكون للعرب والمصريين فيه نصيب متواضع، وبين جيش قائم بحملة حربية، يساهم فيه هؤلاء بالنصيب الأوفى.
كان الجيش في العصر الفاطمي مقسماً إلى درجات ثلاث رئيسية: أولاها طبيعية الأمراء وأعلاهم ذو الأطواق الذهبية، ثم حملة السيوف الذين يحرسون الخليفة في موكبه، ثم القواد العاديين. وثانيها رجال الحرس، وأرقاهم الأستاذون الذين يوكل إليهم مهام الأمن، ثم شباب الحرس وهم نخبة ممتازة من شباب الأسر عدتهم خمسمائة، ثم فرق ثكنات الخليفة ويبلغون زهاء خمسة آلاف وثالثهما فرق الجيش كل فرقة تحمل أسماً خاصاً بها كما ذكرنا.
وتكون الجند زمن الأيوبيين والمماليك من طبقتين: هما المماليك السلطانية وأجناد الحلقة. أما المماليك السلطانية فكانوا أعظم الأجناد شأناً وأرفعهم قدراً وأشدهم إلى السلطان قرباً وأوفرهم إقطاعاً ومنهم تؤمر الأمراء رتبة بعد رتبة.
وأما أجناد الحلقة فهم عدد جم وخلق كثير، ولكل أربعين نفساً منهم مقدم ليس عليهم حكم إلا إذا خرج العسكر في الحرب، فإن مواقفهم معه، وترتيبهم في مواقفهم إليه
ومن الأجناد طائفة ثالثة يقال لهم البحرية يبيتون بالقلعة وحول دهاليز السلطان في السفر كالحرس، وأول من رتبهم وسماهم بهذا الاسم الملك الصالح نجم الدين أيوب. وللجيش هيئة أركان حرب كان السلاطين يعتدونها لرسم الخطط وإعداد العدة ولم يكن للسلطان بد من أن يعني برأيهم ويعمل به، وكثيراً ما كان يخبرهم أنه كأحدهم يكفيه فرس واحد وجميع ما عنده لمن يجاهد في سبيل الله.
وكان الجيش مقسماً خمسة أقسام: مقدمة، وتكون أمامه لتبدأ المناوشات وتتعرف الطرق وترتاد المواضع وهي غالباً من الفرسان؛ وقلب وسط الجيش وفيه يتخذ القائد العام مركزه غالباً حتى يراه جميع الجند لتنفيذ أوامره، أو في المقدمة ليثير حماسة الجند ويلقى الفزع في نفوس أعدائه وفي عريش له على ربوة يشرف منها على جيشه. أما الكتيبة الثالثة فتوضع يمنة وتسمى الميمنة، كما توضع الرابعة على يسارها وتسمى الميسرة، ويطلق عليهما الجناحان، وتوضع الكتيبة الخامسة في الخلف وتسمى ساقه الجيش. وكان لكل فرقة من هذه الفرق الخمس أمير يأتمر بأمر القائد يقال له صاحب الميمنة أو الميسرة وهكذا.
ويتكون الجيش من المشاة والخيالة ومن أجل هذا عظمت العناية بأمر الخيل.
يتبع
أحمد أحمد بدوي