مجلة الرسالة/العدد 814/عقوق. . .

مجلة الرسالة/العدد 814/عقوق. . .

ملاحظات: بتاريخ: 07 - 02 - 1949



للأستاذ كامل محمود حبيب

يا بني، أي شيطان ثار في دمك وسيطر على رأيك فأعمى بصيرتك وأطاش عقلك وأصم أذنيك، فذهبت تولي أباك العقوق والجحود والنكران بعد البر والطاعة والشكر. لقد كان حديث أبيك - وهو يقص قصتك - يتقطر أسى ولوعة، وإن قلبه ليبكي بكاء يسمع ويرى!

إني لا أخالك تذكر يوم ماتت عنك أمك طفلاً تدرج في فناء الدار، وإن الأبدي لتتلقفك في شفقة حيناً وفي شماتة حيناً والأبصار تحوم حواليك ساعة ثم تنصرف، إلا بصراً واحداً ما يبرح يتعلق بك، هو بصر أبيك، وإن العبرات المصطنعة لتتدفق باردة هينة فيها الكذب والخداع، إلا عبرات إنسان واحد كانت تنكف ساعة وتنهمر ساعات، وهي في الحالين تتضرم وتتوقد لأنها عبرات القلب، تلك هي عبرات أبيك! وإن الأذرع لتنفرج لتضمك في فتور وتراخ، ثم تلقى بك جانباً في غير اكتراث، إلا ذراعين تودان لو استطاعتا بضمة واحدة أن تدفعا بك إلى داخل القلب، هما ذراعا أبيك! وإن الألسن لتتحدث حديثاً طويلاً فيه الثرثرة واللغو، إلا لساناً واحداً لم ينطق بكلمة واحدة لأن حديث قلبه كان يشغله، ذلك هو لسان أبيك!

وكان أبوك - إذ ذاك - فتى في ريق الشباب وعنفوان الصبا لا يستطيع أن يكبت نوازع جسمه، ولا أن يكتم ثورة دمه، وهو أراد التوي عليه الأمر وتعسر، وما به فاحشة ولا فجور وتنازعه أمران: أفيتزوج فيلقي بك في قفر ويضيعك في تيه، أم يقتل شيطانه بين جنبيه وما بذلك طاقة؟ وأصطرع الرأيان في رأسه سنوات حتى بلغت سن المدرسة، فأرسلت إلى المدينة وتزوج هو.

ولم تصرفه الزوجة عنك ولا شغله الأولاد فأحاطك برعايته وعنايته، ورأت زوجة أبيك شدة حدبه عليك، فأمسكت عن أن تتناولك بحديث إلا لماماً خشية أن تجد منه الجفوة والغلطة، وهو صعب المراس وعر المرتقى. فما استشعرت - في يوم ما - فقد أمك ولا افتقدت حنانها.

وعشت عمر المدرسة والجامعة بين أخوتك في الذؤابة لا تجد مس الغربة وأنت في دار أبيك، ولا تحس الوحدة وأنت بين أخوتك، وأبوك يحبوك بعطف الأب وحنان الأم، ويجد اللذة والسعادة في أن يراك قرير العين هادئ البال. وتخرجت في الجامعة، والجامعة تعلم الحذر والحيطة، وتسمو بالعقل ليكون قيداً يغل اليدين والرجلين، وترتفع بالفكر ليكون سداً بين الشباب والحياة، فهي تلفظ الشاب من بين جدرانها لتذره يضرب - على غير هدى - في بيداء مطموسة المعالم، إلا أن يجد إلى باب الوظيفة.

تخرجت أنت في الجامعة، وجلست على حيد الطريق تنتظر أن ينفتح أمامك الباب السحري - باب الوظيفة - وقد عز عليك أن تجد مفتاحه. وأبوك من ورائك يعينك على أمرك برأيه وجهده، ويخفف عنك صدمة التعطل بكلمات فيها الرحمة والعقل.

وطال بك الانتظار وأنت ملتصق بباب الوزير مرة وبباب المدير مرة، ولج بك الشوق إلى الوظيفة فبذلت من ماء وجهك ونزلت عن حياتك وتغاضيت عن كبريائك، ثم بدا عليك الوجوم والضيق من أثر اليأس، ونسيت أن الوهن والضعف قد تسربا إلى العمل الحكومي في غير هوادة ولا لين، وأن الأمر الهين ليقف بين الموظف الحكومي وقرطاسه وقفة ينطوي دونها العمر. والموظف لا يجد إلى العمل دافعاً من نفسه ولا من رئيسه، والرئيس لا يعنيه من العمل إلا أن يحس بالعزة في مكتبه وبالكبرياء في ديوانه، وهو يتلذذ حين يتعبد مرءوسيه في غير سبب، ثم تضيع حاجات الناس بين إهمال الموظف وغطرسة الرئيس

ومضت الأيام وطلبك نائم، فهو لن يتحرك إلا بيد الوسيط، والوسيط أحد الرجلين: رجل يتغفلك ليسلبك من مالك ثم يطير عنك إلى غير رجعة؛ ورجل يساومك ليتقاضى ثمن الوظيفة على دفعتين. . . وكلاهما كاذب محتال!

وعيل صبرك فوقعت على أحد الرجلين يخدعك عن وقتك ومالك فاندفعت إلى أبيك تطلب زيادة من المال في لغة الرجاء والاستجداء، ثم في أسلوب الإصرار والعناد، على حين لم تكشف له عن حقيقة الأمر. وعجب أبوك أن تزيد حاجتك إلى المال زيادة تبعث الشك وتوقظ الريبة، وهو رجل ذو دين وورع، يوقن بأن الإسراف مرض لا يصيب إلا رجلين: رجلاً به لوثة، فهو يطمع أن تكون كل حاجات الأرض ملكاً له، فهو يشتري هذا وذاك ليشبع بهم نفسه فحسب؛ ورجلاً به خلل أخلاقي، فهو يبعثر ماله بين الخمر والنساء، وخشي أن تكون قد ترديت في الهاوية، فأرسل إليك يقول: (إنني أحس منك إسرافاً جاوز القصد، وإفراطاً تعدى الحد، فإما اعتدلت من تلقاء نفسك، وإما قومتك بطريقة لا ترضيك).

وأخذتك العزة بالإثم أن جاءك كتاب من أبيك يتهمك بأمر، وخشيت أن يقبض يده فيبدو عجزك أمام الوسيط المحتال وله عندك حاجات ما تنتهي؛ فما تنفس الصبح حتى كنت قد أرسلت إلى أبيك خطاباً تقول فيه: (أبي، آلان، وقد بلغت مبلغ الرجال، أرجو أن تحدد لي ميراثي من أمي تحديداً لا يدع مجالاً للشك، وأن تنزل لي عنه أشرف عليه بنفسي وأستغله لصالحي. وأظنك لن تجد في ذلك غضاضة على نفسك، فهذا الميراث بين يديك منذ نيف وعشرين سنة، أنال منك فضلة لا تشفي غلة ولا تنفع صدى على حين أن غيري يرتع فيه كيف يشاء، ينعم بغلاته، ويتقلب في نعمائه. وهذا ظلم لن أقيم عليه بعد اليوم. . . لهذا فأنا في انتظار يوم قريب تسميه لي لأستلم أرضي كلها. . .)

لا ريب - يا بني - فلقد كانت كلماتك جافة قاسية أصابت هدفاً من قلب أبيك، فأحس بالأسى ينسرب إلى نفسه أن رأى أبنه الأكبر يغلظ له في الحديث، ويسف في العبارة، ويجازي النعمة بالكفران، ويقابل الإحسان بالعقوق!

لقد كانت كلماتك تتلضى لهيباً يكوي قلب أبيك ويفري كبده، وشعر - والحزن يوشك أن يقتله - أنه يريد أن يفضي بذات قلبه إلى رجل من خلصائه، وخشى - بادئ ذي بدء - أن يتحدث بأمر خطابك إلى واحد من الناس فتكون أنت عاره إلى الأبد، فعزم على أن يطوي عن الناس خلجات قلبه، ولكنه ناء بأن يحمل العبء وحده بعد أن رزح تحته أيام، فجلس إلى أخيه - عمك أنت ينشر خطابك وفي عينيه عبرات، وفي قلبه هم!

وانزعج عمك لما قرأ، وشمله الوجوم والبث، فما تلبث حتى كان إلى جانبك يستوضح الأمر!

وضل عقلك الفج، وانحط منطقك الوضيع، فخيل إليك أن عمك جاءك يستجدي مالك وتراءت الحياة أمامك أعداداً من الجنيه والعشرة والمائة، فأخذت تدفع حجج عمك وبراهينه في ضلال وقحة وأنت تقول: (أما أبي فأنا لا أنكر فضله فهو قد دفعني عن القرية صغيراً لألمس لذع الغربة، ومرارة الوحدة، وقسوة الحياة، وقذف بي بين ناب الخادم، وظفر صاحب الدار التي أسكنها، ثم هو يرسل إلي الطعام والمال، فلا أجد ريح الطعام، ولا ألمس لذة المال، فعشت ضائعاً جائعاً، والخادم وصاحب الدار يستمتعان معاً بالمال والطعام، وأبي لا يراني إلا مرتين في السنة. ولي أنفة لا تسمح لي بأن أشكو. . وهكذا قضيت طفولتي - وهي أسعد أيام العمر - منطوياً على نفسي في ذله وانكسار، أدفن همي - رغم أنفي - في كتاب خشية أن يشي بي الخادم لأبي فيذيقني وبال أمري، وله عصا تفري الجلد وتحطم العظم. . . وساقتني الظروف إلى المدرسة وأرغمتني على أن أفرغ إلى الدرس، ووجد أبي اللذة والراحة في أن أعيش بعيداً عن أهلي وداري وأترابي. . . وأغلقت قلبي على حسرات، ومرت السنون. . . والآن، أراه يريد أن يسلبني مالي، فإن كانت هذه هي الأبوة، فما علي من بأس إن أنا قطعت هذه الوشيجة، أو صرمت هذه الصلة. . .)

وأراد عمك أن ينزع عنك الأفكار السود بمنطقه القروي، فترفع منطق المدينة وعقل الجامعة عن أن يلقيا السمع إلى حديث القلب النابض من أعماق القرية، فانطلق عمك من لدنك في شجوه وشجونه ينفض جملة حديثك أمام أبيك!

ليت عمك أطلع على الغيب فرأي بعيني بصيرته ما تخبئه الأقدار إذن لكتم هذا الحديث عن أبيك!

وسمع أبوك الحديث كله في صمت ثم أنتفض انتفاضة الجزع والخيبة، فأصابته إغماده شديدة، فما انجابت عنه الغمرة إلا ليجد نفسه مصاباً بالشلل! وذهبت أعوده، فقص لي قصتك. . . وإن حديثه ليتقطر أسى ولوعة، وإن قلبه ليبكي بكاء يسمع ويرى على أن فقدك أنت. . . أيها العاق!

الآن أصبحت موظفاً حكومياً، وبين يديك أرضك تستغلها كيف شئت، فهل وجدت السعادة والطمأنينة؟

لقد مات أبوك من أثر صدمة العقوق، فقل لي بماذا كانت تحدثك نفسك وأنت تسير على رأس جنازته لأنك ابنه الأكبر؟ هل ذاب قلبك حسرة حين أفزعتك لذعات الندم؟

واهاً لك يا من يركبك الغرور والشيطان، فيخيل إليك أنك شيء، فتأمن سخط أبيك وغضب إلهك ونقمة السماء. . . وما هي كلها عنك ببعيدة!

كامل محمود حبيب