مجلة الرسالة/العدد 82/بنته الصغيرة

مجلة الرسالة/العدد 82/بنتُه الصغيرة

ملاحظات: بتاريخ: 28 - 01 - 1935


للأستاذ مصطفى صادق الرافعي

فرغ أبو يحيى مالكُ بنُ دينار، زاهدُ البَصْرة وعالمها، من كتابة المُصْحَف؛ وكان يكتبُ المصاحف للناس ويعيشُ مما يأخذ من أجرة كتابته، تعففاً أن يَطْعَم إلا كَسْب يده، ثم خرج داره وَجْهُهُ المسجدُ، فأتاه فصلى بالناس صلاة العصر، وجلسوا ينتظرونه، واستوى هو قائماً، فركع وسجد ما شاء الله حتى قضى نافِلَتَه، ثم انْفَتَلَ من صلاته فقام إلى اسطوانته التي يستند إليها، وتحلق الناسُ حوله جموعاً خلْف جموعٍ، يذهب فيهم البصر مرة هنا ومرة هنا من كثرتهم وامتدادهم، حتى تغطى بهم المسجدُ على رحبة. ومد الإمام عينه فيهم ثم أطرق إطراقهً طويلة، والناسُ كأن عليهم الطير مَما سكنوا لهيبته، ومما عَجبوا لخشوعه؛ ثم رفع الشيخ رأسه وقد تندت عيناه، فما نظر إليهم حتى كأنما اطلع على أرواحهم فجرٌ رطْبٌ من سِحْر ذلك الندى

وبَدَرَ شابٌ حدَثٌ فسأله: ما بكاءُ الشيخ؟ وكان قريباً يجلس من الإمام في سَمْتِ بصره، فتأمله الشيخ طويلاً يقلب فيه الطرْفَ كالمتعجب، ولبث لا يجيبه كأنما عَقِدَ لسانهُ أو أخذته عن نفسه حالٌ، فما يثبتُ شيئاً مما يرى

وازداد الناس عجباً؛ فما جَرّبوا على الشيخ من قبلها حصراً ولا عِيا، ولا قطعه سؤالٌ قَط، ولا تخلف قطُّ عن جواب؛ وقالوا إن له لشأنا وما بُدٌ أن تكون من وراء حُبْسَته شعابٌ في نفسه تهدر بسيلها وتعتلج، فما أسرع ما يلتقي السيلُ، فيجتمعُ، فيصوبُ إلى مجراه، فيتقاذف

وتبسم الإمام وقال: أما إني قد ذكرتُ ذكرى فبكيتُ لها، ورأيتُ رؤيا فتبسمتُ لها؛ أما الذكرى، فهل تعملون أن هذا المسجد الذي يفهق بهذا الحشْد العظيم، وتقع فيه الدينية المدينة لكل أّذَانٍ وتطير - هل تعلمون أنه خلا قط من الناس وقد وَجَبَت الفريضة؟ قالوا: ما نَعْلمه. قال: فقد كان ذلك لعشرين سنةً خَلَتْ، في مَوْت الحسن، فقد مات عَشيةَ الخميس، وأصبحنا يوم الجمعة ففرغنا من أمره، وحملناه بعد صلاة الجمعة، فتبع أهلُ البصرة كلهم جنازته واشتغلوا به، فلم تُقم صلاةُ العصر بهذا المسجد، وما تُركتْ منذ كان الإسلام إلا يومئذ؛ ومثل الحسن لا تموت ساعةُ موته من عُمرْ من شَهدَها، فذلك يومٌ عجيب قد لف نهاره البصرة كلها في كفن أبيض، فما بقيتْ في نفس رجلٍ ولا امرأة شهوةٌ إلى الدنيا، وفرغ كل إنسان من باطلة كما يفرغ من أيقن أنْ ليس بينه وبين قبره إلا ساعة؛ وظهر لهم الموتُ في حقيقة جديدة بالغة الروع لا يراها الأبناءُ في موت آبائهم وامهاتهم، ولا الآباء والأمهاتُ في موت من ولدوا، ولا المحب في موت حبيبه، ولا الحميم في موت حميمه؛ فإن الجميع فقدوا الواحد الذي ليس غيره في الجميع؛ وكما يموت العزيزُ على أهل بيت فيكون الموتُ واحداً وتتعدد فيهم معانيه، كذلك كان موتُ الحسن موتاً بعَدَدِ أهل البصرة!

ذاك يومٌ اشتد فيه الموتُ وكبر، وانكمشت فيه الحياةُ وصغرتْ، وتحاقرت الدنيا عند أهلها، حتى رجعت بمقدار هذه الحفرة التي يُلقى فيها الملوكُ والصعاليكُ، والأخلاطُ بين هؤلاء وأولئك، لا يَصغر عنها الصغير، ولا يكبرُ عنها الكبير؛ لا بل دون ذلك حتى رجعت الدنيا على قدر جيفة حيوانِ بالعراء، تنكشف للأبصار عن شوهاء نجسةٍ قد ارمت لا تُطاقُ على النظر ولا الشم ولا على اللمس؛ وما تتفجر إلا عن آفة، وما تتفجر إلا لهوام الأرض

تلك هي الذكرى، وأما الرؤيا فقد طالعتني نفسي من وجه هذا الفتى فأبصرتني حين كنتُ مثله يافعاُ مترعرعاً داخلاً في عصر شبابي، فكأنما انتبهتْ عيني من هذه النفس على فاتكٍ خبيثٍ كان في جناياته في أغلاله في سجنه، ومات طويلاً ثم بُعث!

إني مخبركم عني بما لم تحيطوا به، فارْعُوه أسماعم، واحضروه إفهامكم، واستجمعوا له، فانه كان غيب شيخكم، وأنا محدثكم به كيلا ييأسَ الضعيف ولا يقنط يائس، فإن رحمة الله قريبٌ من المحسنين

لقد كنتُ في صدر أيامي شرطياً، وكنت في آنفة الحداثة من قبلها أتفتى وأنشطر، وكنت قوياً معصوباً في مثل جبلة الجبل من غلط وشدة، وكنت قاسياً كأن في أضلاعي جندلةً لا قلباً، فلا أتذمم ولا أتأثم؛ وكنتُ مُدمِناً على الخمر، لأنها روحانية من عجز أن تكون فيه روحانية، وكأنها إلهيةُ يزورها الشيطانُ - لعنهُ الله - فيخلق بها للنفس ما تحب مما تكره، ويُثيبها ثواب ساعةٍ ليست في الزمن بل في خيال شاربها. وكأن جَهْلَ العقلِ نَفْسَه في بعض ساعات الحياة هو - في علم الشيطان وتعليمه - معرفةُ العقل نفسه في الحياة!

فبينا أنا ذاتَ يوم أجول في السوق، والناسُ يفورون في بيعهم وشرائهم، وأنا أرقب السارق وأُعد للجاني، وأتهيأ للنزاع - إذ رأيت اثنين يتلاحيان وقد لبّب أحدهما الآخر؛ فأخذت إليهما، فسمعت المظلوم يقول للظالم: لقد سلبتني فرح بنياتي، فسيدعون الله عليك فلا تصيب من بعدها خيراً، فأني ما خرجت إلا اتباعاً لقول رسول الله : (من خرج إلى سوق من أسواق المسلمين، فاشترى شيئاً، فحمله إلى بيته، فخص به الإناث دون الذكور - نظر الله إليه.)

قال الشيخ: وكنت عزباً لا زوجة لي، ولكن الآدمية انتبهت في، وطمعت في دعوة صالحة من البنيات المسكينات، إذا أنا فرحتهن، ودخلتني لهن رقة شديدة، فأخذت للرجل من غريمة حتى رضي، وأضعفت له من ذات يدي لأزيد في فرح بناته، وقلت له وهو ينصرف: عهدٌ يحاسبك الله عليه ويستوفيه لي منك، أن تجعل بناتك يدعون لي إذا رأيت فرحهن بما تحمل إليهم، وقل لهن: مالك بن دينار

وبت ليلتي أتقلب مفكراً في قول رسول الله ومعانيه الكثيرة، وحثه على إكرام البنات، وأن من أكرم بناته كَرُمَ على الله، وحرصه أن ينشأن كريمات فرحات؛ وحدثني هذا الحديثُ ليلتي تلك إلى الصبح؛ وفكرت حينئذ في الزواج، وعلمت أن الناس لا يزوجونني من طيباتهم ما دمت من الخبيثين؛ فلما أصبحت غدوت إلى سوق الجواري، فاشتريتُ جارية نفيسة، ووقعت مني أحسن موقع، وولدت لي بنتاً فشغفتُ بها، وظهرتْ لي فيها الإنسانيةُ الكبيرة التي ليست في، فرأيت بعدما ما بيني وبين صورتي الأولى؛ ورأيتها سماوية لا تملك شيئاً وتملك أباها وأمها، وليس لها من الدنيا إلا شبع بطنها وما أيسره، ثم لها بعد ذلك سرور نفسها كاملاً تشب عليه أكثر مما تشب على الرضاع؛ فعلمت من ذلك أن الذي تكتنفه رحمة الله، يملك بها دنيا نفسه، فما عليه بعد ذلك أن تفوته دنيا غيره، وأن الذي يجد طهارة قلبه يجد سرور قلبه، وتكون نفسه دائماً جديدة على الدنيا؛ وأن الذي يحيا بالثقة تحييه الثقة؛ والذي لا يبالي الهم لا يبالي الهم به؛ وأن زينة الدنيا ومتاعها وغرورها وما تجلب من الهم - كل ذلك من صغر العقل في الأيمان حين يكبر العقل في العلم!

كانت البنيةُ بدء حياةٍ في بيتي وبدء حياة في نفسي، فلما دبت على الأرض ازددت لها حباً، وألفتني وألفتها، فرزقت روحي منها أطهر صداقة في صديق، تتجدد للقلب كل يوم، بل كل ساعة، ولا تكون إلا لمحض سرور القلب دون مطامعه، فتمده بالحياة نفسها لا بأشياء الحياة، فلا تزيد الأشياء في المحبة ولا تقص منها، على خلاف ما يكون في الأصدقاء بعضهم من بعض واختلافهم على المضرة والمنفعة

قال الشيخ: وجهدتُ أن أترك الخمر، فلم يأت لي ولم أستطعه؛ إذ كنت منهمكاً على شربها، ولكن حب ابنتي وضع في الخمر إثمها الذي وضعته فيها الشريعة، فكرهتها كرهاً شديداً، وأصبحت كالمكره عليها، ولم تعد فيها نشوتها ولا ريها؛ وكانت الصغيرةُ في تمزيق أخيلتها أبرعَ من الشيطان في حَوِْك هذه الأخيلة، وكأنما جرتني يدها جراً حتى أبعدتني عن المنزلة الخمرية التي كان الشيطان وضعني فيها، فانتقت من الاستهتار والمكابرة وعدم المبالاة، إلى الندم والتحوب والتأثم، وكنت من بعدها كلما وضعت المسكرِ وهمت به، دبت ابنتي إلى مجلسي؛ فأنظر إليها وتنتشر عليها نفسي من رقة ورحمة، فأرقب ما تصنع، فتجيء فتجاذبني الكأس حتى تُهْرِقها على ثوبي، وأراني لا أغضب، إذ كان هذا يسرها ويضحكها، فأسر لها وأضحك

ودام هذا مني ومنها، فأصبحت في المنزلة بين المنزلتين؛ أشرب مرةً واترك مراراً، وجعلتُ أستقيم على ذلك، إذ كانت النشوة بابنتي أكبر من النشوة بالزجاجة، وإذ كنتُ كلما رجعتُ إلى نفسي وتدبرت أمري، أستعيذ بالله أن تَعقِل ابنتي معنى الخمر يوماً فأكون قد نجستُ أيامها، ثم أتقدم إلى الله وعليَّ ذنوبها فوق ذنوبي، ويترحم الناسُ على آبائهم وتلعنني إذ لم أكن لها كالآباء، فأكون قد وُجدتُ في الدنيا مرةً واحدة وهلكتُ مرتين

ومضيتُ على ذلك وأنا أصْلُح بها شيئاً فشيئاً وكلما كبرت كبرت فضيلتي، فلما تمَّ لها سنتان ماتت!

قال الراوي: وسكت الشيخ فعَلِقَتْ به الأبصار، ووقفت أنفاسُ الناس على شفاههم، وكأنما ماتت لحظاتٌ من الزمن لذكر موت الطفلة، وخامر المجلسَ مثلُ السكْر بهذه الكأس المُذهلة، ولكن الطفلة دبت من عالم الغيب كما كانت تصنع، وجذبت الكأس واهرقتها، فانتبه الناس وصاحوا: ماتت فكان ماذا. قال الشيخ: فأكمدني الحزن عليها، ووهن جأشي، ولم يكن لي من قوة الروح والإيمان ما أتأسى به، فضاعفَ الجهلُ أحزاني، وجعلَ مصيبتي مصائب. والإيمانُ وحده هو أكبر علوم الحياة، يُبصرُك إن عميتَ في الحادثة، ويهديك إن ضَلِلت عن السكينة، ويجعلك صديق نفسك تكونُ وإياها على المصيبة، لا عدوها تكون المصيبة وإياها عليك؛ وإذا أخرجتِ الليالي من الأحزان والهموم عسكرَ ظلامِها لقتال نفسٍ أو محاصرتها فما يدفع المالُ ولا تردُّ القوةُ ولا يمنع السلطان، ولا يكون شيء حينئذ أضعف من قوة القوي، ولا أضيعَ من حيلةِ المحتال، ولا أفقرَ من غِنى الغنيَّ، ولا أجهلَ من علم العالم، ويبقى الجهدُ والحيلةُ والقوة والعلمُ والغِنى والسلطانُ - للإيمان وحده، فهو يكسر الحادث ويقلل من شأنه، ويؤيد النفس ويضاعفُ من قوتها، ويَرُدُّ قَدرَ الله إلى حكمةِ الله، فلا يلبثُ ما جاء أن يرجع، وتعود النفس من الرضى بالقَدرَ والإيمان به؛ كأنما تشهد ما يقع أمامها لا ما يقع فيها

قال الشيخ: ورجعتُ بجهلي إلى شرٍ مما كنتُ فيه، وكانت أحزاني أفراحَ الشيطان؛ وأراد - أخزاه الله - أن يَفْتَن في أساليب فرحه، فلما كانت ليلةُ النصف من شعبان، وكانت ليلة جمعة، وكانت كأول نور الفجر من أنوار رمضان - سوّل لي الشيطان أن أسكر سكْرةً ما مثلُها؛ فبتُّ كالميت مما ثملت، وقذفتني أحلامٌ إلى أحلام، ثم رأيت القيامة والحشر، وقد وَلدت القبورُ من فيها، وسيق الناسُ وأنا معهم وليس وراء ما بي من الكرب غاية؛ وسمعت خلفي زفيراً كفحيح الأفعى، فالتفت فإذا بتنينٍ عظيم ما يكون أعظم منه؛ طويلً كالنخلة السحوق، أسود أزرق، يُرسل الموت من عينيه الحمراوين كالدم، وفي فمه مثلُ الرماح من أنيابه، ولَجوْفهِ حرٌّ شديدٌ لو زِفَر به على الأرض ما نبتتْ في الأرض خضراء، وقد فتح فاه ونفخ جوفه وجاء مسرعاً يريد أن يلتقمني، فمررتُ بين يديه هارباً فزعاً، فإذا أنا بشيخ هرم يكاد يموت ضعفاً، فَعُذْتُ به وقلت أجرني أغثني. فقال: أن ضعيفٌ كما ترى، وما أقدر على هذا الجبار، ولكن مر واسرع، فلعل الله أن يسبب لك أسباباً للنجاة. فوليتُ هارباً وأشرفتُ على النار وهي الهول الأكبر، فرجعتُ اشتد هرباً والتنين على أثري، ولقيتُ ذلك الشيخ مرة أخرى، فاستجرتُ به فبكى من الرحمة لي وقال: أنا ضعيف كما ترى، وما أقدر على هذا الجبار، ولكن اهرب إلى هذا الجبل، فلعل الله يحدث أمراً. فنظرتُ فإذا جبل كالدار العظيمة، له كوى عليها ستور، وهو يَبْرُقُ كشعاع الجوهر؛ فأسرعت إليه والتنين من ورائي، فلما شارفت الجبل فتحت الكوى ورفعت الستور، وأشرفتْ على وجوهُ أطفال كالأقمار، وقرب التنينُ مني، وصرتُ في هواء جوْفه وهو يتضرّم علي، ولم يبق إلا أن يأخذني، فتصايح الأطفال جميعاً: يا فاطمة! يا فاطمة!

قال الشيخ: فإذا ابنتي التي ماتت قد أشرفت عليّ، فلما رأت ما أنا فيه صاحت وبكتْ، ثم وثبتْ كَرَمْية السهم، فجاءت بين يديّ، ومدت إلي شِمالها فتعلقت بها، ومدت يمينها إلى التنين فولى هارباً. وأجلستْني وأنا كالميت من الخوف والفزع، وقعدَتْ في حجري كما كانت تصنع في الحياة، وضربت بيدها إلى لحيتي وقالت: يا أبت (أَلَمْ يَأنِ للذينَ آمنوا أن تَخْشَعَ قٌلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ؟)

فبكيتُ وقلتُ: يابُنيّة، أخبريني عن هذا التنين الذي أراد هلاكي. قالت ذاك عملُك السوء الخبيث، أنت موتيه حتى بلغ هذاالهول الهائل والأعمال ترجعُ هنا أجساماً كما رأيت. قلت: فذاك الشيخُ الضعيف الذي استجرْتً به ولم يُجرْني؟

قالت: يا أبتِ، ذاك عملك الصالح، أنت أضعفْتَه فضَعُفَ حتى لم يكن له طاقة أن يغيثَك من عملك السيئ، ولو لم أكن لك هنا، ولو لم تكن أتبعت قولَ رسول الله فيمن فَرّحَ بناته المسكينات الضعيفات - لما كانت لك هنا شمال تتعلق بها، ويمينٌ تَطْرد عنك

قال الشيخ: وانتبهتُ من نومي فزِعاً ألعن ما أنا فيه، ولا أراني أستقر، كأني طريدةُ عملي السيئ كلما هَرَبتُ منه هَرَبت به؛ وأين المَهْرَبُ من الندم الذي كان نائماً في القلب واستيقظ للقلب؟

وأملتُ في رحمة الله أن أربح من رأس مالٍ خاسر، وقلت في نفسي: إن يوماً باقياً من العمر هو للمؤمن عُمْرٌ ما ينبغي أن يستهان به؛ وصححت النية على التوبة، لأرجع الشباب إلى ذلك الشيخ الضعيف، وأسمنَ عظامه، حتى إذا استجرْتُ به أجارني ولم يقل (أنا ضعيف كما ترى!)

وسألتُ فدُللْتُ على أبي سعيد الحسن بن أبي الحسن البصري، سيدِ البقية من التابعين؛ وقيل لي: أنه جمع كل عِلم وفن إلى الزهد والورع والعبادة، وإن لسانه السحر، وإن شخصه المغناطيس، وإنه ينطق بالحكمة كان في صدره إنجيلاً لم ينَزل، وأن أمه كانت مولاة لأم سَلمَة زوجِ النبي ، فكانت ربما غابت أمه في حاجة فيبكي، فترضعه أم سلمةُ تعلله بثديها فيدِرّ عليه، فكانت بينه وبين بَركة النبوة صلة

وعدوتُ إلى المسجد والحسَن في حلْقته يقص ويتكلم، فجلست حيث انتهى بي المجلس، وما كان غيرَ بعيد حتى عَرتني نَفْضةٌ كنفضة الحمى، إذ قرأ الشيخ هذه الآية: (أَلَمْ يَأْنِ للذين آمنوا أن تَخْشَعَ قُلُوبُهم لِذكْر الله وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ)

فلو لفظتني الأرضُ من بطنها، وانشقّ عني القبرُ بعد الموْت - ما رأيت الدنيا أعجب مما طالعتني في تلك الساعة؛ وأخذ الشيخ يفسرُ الآية، فصنع بي كلامه ما لو بُعث نبيٌّ من أجلي خاصةً لما صَنَع أكثر منه

وكلامُ الحسن غيرُ كلام الناس وغيرُ كلام العلماء؛ فانه يتكلم من قلبه ومن روحه، ومن وجهه ولسانه؛ وناهيكم من رجل خاشعُ متصدعٍ من خشية الله لم يكن يُرَى مْقبلاً إلا وكأنه أقبل من دفن حميم قد أنزله في قبره بيده، ولا يُرى جالساً إلا وكأنه أسيرٌ أمروا بضرب عنقه، وإذا ذُكِرَتْ النار فكأنها لم تخلق إلا له وحده؛ رجلٌ كان في الحياة لتتكلم الحياةُ بلسانه أصدق كلماتها

فصاح صائح: يا أبا يحيى، التفسيرَ التفسير! وصاح المؤذنُ: الله أكبر. فقطع الشيخ وقال: التفسير إن شاء الله في المجلس الآتي

طنطا

مصطفى صادق الرافعي