مجلة الرسالة/العدد 820/تعقيبات

مجلة الرسالة/العدد 820/تعقيبات

ملاحظات: بتاريخ: 21 - 03 - 1949



للأستاذ أنور المعداوي

حول العبقرية والحرمان:

أستاذي. . . . . . . . .

قرأت لكم مقالاً تحت عنوان (العبقرية والحرمان) بأحد أعداد الرسالة الزهراء. وكنت ككل كتاباتك ملهماً مبدعاً حتى أنني قرأت المقال مرات ومرات، واستوقف نظري بين ثناياه كلمات كتبتها عن (بيرون) الشاعر الإنجليزي العظيم عندما تقول: (إن بيرون في الأدب الإنجليزي قد أبدع أعظم آثاره الفنية وهو يتقلب في بحبوحة من العيش لا تتهيأ إلا لمن كان في مثل مركزه الاجتماعي العظيم). . . وفي الوقت نفسه تحاول السيدة أمينة السعيد في كتابها عن شاعرنا هذا، وهو أحد أعداد سلسلة (اقرأ) أن تنقض هذا الرأي وأن تقول إن التاريخ الأدبي لم يخلد (بيرون) وأشعاره إلا يوم أن كان يعيش تحت كآهل الحرمان! وإليك هذه السطور التي كتبتها عنه: (كانت طبيعة بيرون الحقة إذا حزن وتألم فاض بالشعر قلمه في سهولة وقوة وعذوبة، وإذا سعد وهدأت ثورته هدأ الوحي بهدوء نفسه وضعف بضعف ثورته، وظل على هذا الحال طوال حياته، فسجلت أيام الشقاء أروع قصائده وأكثرها خلوداً). إلى هنا ينتهي رأي الكاتبة الأديبة. وهو رأي يحتاج إلى التأمل العميق والحكم بأي الرأيين أصوب. . . إننا نقدس حرية قلمك ونزاهته، ونأمل أن يكون الرد على صفحات الرسالة.

عبد العال حسن إسماعيل

(معهد فؤاد الأول بأسيوط)

أشكر للأديب الفاضل كريم التقدير وأدب الخطاب، وأسجل إعجابي بهؤلاء الشباب المخلصين للأدب والفن من طلاب الأزهر في هذه الأيام؛ وإنها لظاهرة تبشر بالخير في مجال خلق جيل يقرأ ويناقش وينهل من ينابيع المعرفة في شتى فنون الفكر وألوانه. . . من حق هذا الجيل الجديد أن أحييه على صفحات (الرسالة)، لأن الكثرة الغالبة فيما أتلقاه من رسائل ممتازة هي من طلاب الأزهر لا من طلاب الجامعة! بعد هذا أجيب الأديب الفاضل بأن هذه الكلمات التي جرى بها قلم السيد أمينة السعيد تنطبق كل الانطباق على طبيعة شاعر مثل هنريك هاينى، وتبعد كل البعد عن طبيعة شاعر مثل لورد بيرون. . . ولقد كنت أرجو أن يكون رأي الأديبة المصرية قائماً على دراسة شعر بيرون مرتبطاً بحياته ومقترناً بطبيعته النفسية والخلقية، ولو أجهدت نفسها في هذه الدراسة لخرجي برأي غير الرأي ونظرة غير النظرة، ولكن كتابها في ميزان أدب التراجم لا يعدو أن يكون قصة طريفة تدور حوادثها حول شخصية بيرون ومغامراته ونزواته ورحلاته! ومعنى هذا أن الدراسة النقدية لشعره لم تحظ من قلمها بنصيب، وكذلك الدراسة النفسية في مجال الكشف عن صلة الفن بالحياة، هناك حيث تكون النفس الإنسانية أشبه بمرصد يسجل كل ما يتلقاه من هزات القلب والشعور!

شخصية بيرون الأدبية والإنسانية شخصية جليلة المعالم واضحة السمات. لقد انحدر من صلب أسرة ورث فيها الشذوذ في النفس والخلق أبناء عن آباء، ولكن بيرون خرج إلى الدنيا وفي دمه مزيج من شرور الوراثة ومواهب الفنان، ولقد خففت هذه من حدة تلك فلم يلق الحياة بالشر المطلق الذي يلغي الإحساس بالألم العارض والهم العابر ووخزات الضمير. . كان جل همه أن ينشد متعة النفس ولذة الجسد ونزوة العاطفة، لا يعنيه من دنياه غير اللحظة التي يعيش فيها وتعود عليه بكل ما يشتهيه الرجل الجميل المدلل الذي لا يمد عينيه أبداً إلى أمام! وفي محيط الشر والإئم كان (الفنان) الذي في دمه يستيقظ من حين إلى حين، ومن هنا كان بيرون يتألم ولكنه الألم العابر كما قلت، يطرق بابه ليرتد عنه بعد لحظات أمام جموح الشباب المترف الذي يحطم في سبيل غايته كل ما تعارف عليه المجتمع من حدود وقيود! الألم في حياة بيرون لم يكن ألماً بالمعنى المفهوم عند شاعر مثل هاينى، ولكنه كان لوناً من السخط على الحياة يزول وينقضي حين تفسح الحياة طريقها للفتى المدلل ليمضي إلى غيه وهواه! وما أكثر ما تنحت الحياة عن طريقه وهيأت له كل ما يصبو إليه من تحرر وانطلاق، وفي رحاب هذا التحرر كانت تنبعث أغانيه. . . حلوة، صافية، عميقة. لقد خلق بيرون وفي دمه طبيعة بلبل لا يجيد التغريد إلا إذا رأى الجو صحواً والسماء صافية، فإذا امتلأ الجو بالغيوم وتوارى النور خلف حجب الضباب سمعت منه بعض الغناء، ولكنه الغناء المختنق ينبعث من أوتار حنجرة ساخطة، ثائرة، تنعى هذا الظلام الذي لا يتيح لها أن تصدح كما تشاء! من هذه الكلمات الموجزة تستطيع أن تضع يديك على مفتاح هذه الشخصية التي لا غموض فيها ولا تعقيد. . . يقول بيرون: (لقد هببت من نومي ذات صباح فألفيتني مشهوراً بتردد اسمي على كل لسان)، قالها بعد أن دفع بديوان شعره الأول إلى أيدي الناشرين فدفعوا باسمه إلى السماء، وكان ديوانه هذا الذي حقق له أسباب الشهرة والمجد والخلود هو (تشابلدهارولد)، وإنه في رأي الفن لخير أعماله الأدبية على الإطلاق!. . . لقد جادت قريحته الوثابة بهذا الشعر في لحظات الصفاء، هناك حيث قضى بيرون في ربوع الشرق أجمل أيامه وأسعد لياليه: كأس خمر معتقة، وقلب غادة خفاق، وذهب يسيل بين يديه، وزورق يمخر به عباب البحر إلى إثينا وأزمير ومالطة واستانبول، وهذه هي الحياة. . الحياة التي كانت تفجر الشعر في أعماقه تفجيراً، وتهدي إلى عشاق الأدب والفن أروع ألحانه وأعذب أغانيه، هناك في (تشايلدهارولد)!

وإذا ما تردى بيرون في هوة الإثم والفسق والفجور سعدت نزواته وسعد فنه وسعد قراؤه. . إنها لحظات الصفاء بالنسبة لرجل يرى السعادة في إشباع رغبات الجسد، ولو تركزت هذه الرغبات الجامحة الشريرة في شخص (أوجاستا) أخته من أبيه. . ومن هذه النزوة المحرمة في شرع العرف والسماء يتدفق إبداع بيرون في (عروس أبيدوس)، وهي القصة الشعرية التي تصور قصة الهوى الآثم بين (زليخا) وأخيها (سليم) أو قصة الهوى الآثم بين (أوجاستا) و (بيرون) على التحقيق! صحيح أنه سجل ألمه المنبعث من وخز الضمير على ما اقترف من إثم في بعض شعره، ولكن الحقيقة التي بقيت لنا من شعره وحياته تؤكد لدراسيه أنه لم يكن يفرع من الآمه العابرة حتى يعود إلى لذاته الدائمة، فيسهب ويبدع هنا ويوجز ويفتر هناك. . يسهب حيث تطول اللذة ويوجز حيث يقصر الألم، وما الفن إلا انعكاس صادق من الحياة على الشعور.

إن العبقريات كما سبق أن قلت معادن: بعضها يتوهج في ظلال الترف والنعيم، وبعضها يتأجج في رحاب الفاقة والحرمان، وبعضها يخبو بريقه إذا ما انتقل من حال إلى حال. . ومن البعض الأول كان بيرون، ومن البعض الثاني كان هاينى، ومن البعض الثالث كان جوركي، ولعل في هذه العجالة ما يهدي الأيبة المصرية إلى معالم الطريق! إلى صديقي الفنان المجهول:

رسالتك القوية الروح نقلتني إلى عالمك.: إن عالمك كما بدا لي من خلال كلماتك ترفرف عليه الإنسانية بجناح من وقدة العاطفة واشتعال الوجدان. لقد ناديتني بهذه الكلمات العميقة: (أخي في الفن، أخي في النقد، أخي في العروبة، أخي في الإسلام، أخي في سماوات الفن الإنساني الرفيع). . وشاء ذوقك المصفى أن تفني على قلمي المتواضع من الثناء الجم ما لا طاقة لي على ذكره!

لماذا آثرت ألآ تذكر لي اسمك؟ إنني أود أن أعرفك أيها (الإنسان). . ويسرني أن تبعث إلي بشيء من إنتاجك لأراك رأي الفكر حين يعز علي أن أراك رأى العين!

تسألني ما هي الأبحاث التي تغلغلت إلى الأعماق وحازت قبولي، وما القصص الذي قدرته وما التراجم والدواوين والأبحاث النقدية التي أرى فيها ومضاً من فكر ونوراً من حس، وإدراكاً للقيم الحقيقية دون التفات إلى البهرج الزائف والغلاف المصنوع؟

معذرة إذا قلت لك إن هذا السؤال يحتاج إلى شيء من التحديد، فأنا لا أدري إذا كنت تريد الجواب عن هذا كله في نطاق الأدب العربي أم في نطاق الأدب الغربي أم في نطاقيهما معاً! إنني في انتظار رسالة منك تحدد لي فيها ما تريد الجواب عنه.

ولك يا صديقي المجهول تحية ملؤها الود الخالص والتقدير العميق

لحظات مع ايليا أبي ماضي:

قلت في عدد مضى من (الرسالة) إن في شعر المهجر شيئاً يثير إعجابي، وأوثره بتقديري، وأشعر نحوه بتجارب الفكر والعاطفة. . . ذلك هو عمق الصلة بين الفن والحياة! الحياة في شعر المهجر نفس عميق، وهمس رفيق ونبع شعور متدفق. ولعل هذه القصيدة التي صدح بها أو ماضي في الحفلة التكريمية التي أقيمت له في دمشق من خير ما قرأت إشراقة لفظ، ورحابة أفقن وأصالة شاعرية. . . عنوان القصيدة (عجباً لقومي)، ومطلعها هذه الأبيات:

حي الشآم مهنداً وكتاباً ... والغوطة الخضراء والمحرابا

ليست قبابا ما رأيت وإنما ... عزم تمرد فاستطال قبابا

فالثم بروحك أرضها تلثم ... عصوراً للعلى سكنت حصى وترابا هنا وفي كثير من شعر أبي ماضي تلمس الصدق في الفن كما تلمس الصدق في الشعور، وحسب الشاعر المطبوع أن يعبر عن وقع الحياة على وجدانه فيصدق في التعبير، وحسبه أن تمر به التجربة الشعورية فيسجلها في صدق وأمانة، وحسب الناقد أن يقنع بمظهر الصدق الشعوري في تلوين الصورة، وأن ينشد بعد ذلك مظهر الصنعة الفنية في إبراز الإطار! أرأيت إلى التناسب النادر بين ضخامة اللفظ والمعنى والخيال في البيت الثاني، وإلى قوة الوثبات التعبيرية والنقلات الموسيقية في البيت الثالث؟ إن الإيقاع هنا يتعاون مع التعبير فإذا الشعور ينساب مع رنين الكلمات ويهتز تجاوباً مع درجات السلم الموسيقي: فالثم بروحك أرضها - تلثم عصوراً للعلى - سكنت حصى وترابا. . إن التوزيع الإيقاعي هنا أشبه بتوزيع الضوء في يد مهندس فنان!

وانظر إلى هذا التوزيع الممتاز مرة أخرى حين يخاطب (بردي) بهذه الهمسات:

روح أطال في السماء عشية ... فرأى الجمال هنا فحن فذابا

وصفا وشف فأوشكت ضفاته ... تنساب من وجه به منسابا

بردي ذكرتك للعطاشى فارتووا ... وبني الهوى فترشفوك رضابا

مرت بك الأدهار لم تخبث ... ولم تفسد وكم خبث الزمان وطابا

وإذا ما انتقل أبو ماضي من مناجاة (بردي) إلى مناجاة (شهيد ميسلون) نقلك معه من أفق إلى أفق. . إن صوته الهامس هناك قد بدأ يعلو هنا في نبرات قوية صاخبة، وكذلك موسيقاه. إنها لم تعد تلك الأنغام الهادئة الوديعة التي تنطلق من ناي أشبه بناي الرعاة، ولكنها تستحيل هنا أنغاماً أخرى تهز مسمعيك منها ضربات موسيقية عاصفة، كتلك التي تطالعك من (صوناته) لبيتهوفن قبل أن تشرف على الانتهاء:

إني لأزهى بالفتى وأحبه ... يهوى الحياة مشقة وصعابا

ويضوع عطراً كلما شد الأسى ... بيديه يعرك قلبه الوثابا

ويسيل ماء إن حواء فدفد ... وإذا طواه الليل شع شهابا

وإذا العواصف حجبت وجه السما ... جدل العواصف للسما أسبابا

هنا لون من الغناء، ولكنه الغناء الحماسي الملتهب الذي يتلاءم وشعر الملاحم، وهكذا يكون شعر: همساً في مواضع الهمس، وحرقاً في مواقف الحنين، وارتفاع نبض وجهرة صوت في لحظات التوهج والتوئب والانطلاق!. . وقف طويلاً أمام هذه الصورة الفنية التي اكتملت لها الأبعاد والزوايا في مجال التسلسل التعبيري: يضوع عطراً إذا ما عرك قلبه الأسى - يسيل ماء إذا ما حواء فدفد - يشع شهابا إذا ما طواه ليل - يجدل العواصف أسباباً للسماء إذا ما حجبت العواصف وجه السماء. . . إن الشاعر هنا لا ينظم فحسب، ولكنه يشرف من قمة الفن على الحركة النفسية في شعره، كما يشرف الجندي البارع من فوق منصته على حركة المرور في ميدان يموج بالعابرين!

بعد هذه المناجاة الحارة لشهيد ميسلون يضرب أبو ماضي بجناحيه القويين في أفق أخر، حين يعرض لموقف العرب المتخاذل من القضية الفلسطينية. . . ومعذرة إذا ما اقتصرت على ترديد أبياته في هذا المجال بيني وبين نفسي لأن قلم الرقيب هناك! حسبي أن أثبت هنا هذه الصرخات:

دنياك يا وطن العروبة غابة ... حشدت عليك أراقماً وذئابا

فالبس لها ماء الحديد مطارفاً ... واجعل لسانك مخلباً أو نابا

لا شرع في الغابات إلا شرعها ... فدع الكلام شكاية وعتابا

هذي هي الدنيا التي أحببتها ... وسقيت غيرك حبهاأكوابا

إن وراء هذا الشعر شاعراً جبار الجناحين مكتمل الأداة!

رأي في ترجمة آلام فرتر:

في جلسة جمعت بين نفر من أسرة (الرسالة) وزائري ندوتها الأدبية، دار حديث عابر حول الكلمة التي عقبت بها على رأي الأستاذ سلامه موسى في ترجمة آلام فرتر للشاعر الألماني جيته. . . وكان التعليق الوحيد من الأستاذ صاحب (الرسالة) هو أن مد يده إلى أحذ أدراج مكتبه، ثم أخرج منه رسالة بعث بها إليه المستشرق الألماني الدكتور جولياس جرمانوس حول ترجمته العربية لآلام فرتر. وتناولت الرسالة وقرأتها فإذا هي قطعة من التقدير العميق والإعجاب البالغ، بترجمة يقول عنها الدكتور جرمانوس إنها تستحق منه خالص التهنئة على مطابقتها للأصلين الألماني والفرنسي، مطابقة بلغت الغاية في الأمانة والصدق وبلاغة الأداء!

ولم أجد بداً في سبيل تحديد القيم ووضع كل شيء في مكانه، من أن أطلب إلى الأستاذ الزيات أن يأذن لي بترجمة هذه الرسالة التي فرض عليه التواضع أن تبقى في مكتبه دون أن يطلع عليها الناس. . . وفي العدد المقبل أقدم الترجمة العربية لرأى المستشرق الألماني في ترجمة صاحب (الرسالة) لآلام فرتر.

من الأعماق ولوعة الذكرى:

لو علم الأستاذ كامل محمود حبيب أي جراح أثارتها في نفسي قصته، لتردد طويلاً قبل أن يتفضل مشكوراً بإهدائها إلي. . . أيها الأديب الصديق، لماذا يبعث بلكلماتك من طوايا حلم دفنته، أشلاء ماض جريح؟ إن هذا الماضي الذي تنهد يوماً في سحيق عظامي، ستجيبك أطيافه في العدد المقبل وتناجيك رؤاه!