مجلة الرسالة/العدد 822/أساليب التفكير:

مجلة الرسالة/العدد 822/أساليب التفكير:

ملاحظات: بتاريخ: 04 - 04 - 1949



التفكير الفلسفي

الأستاذ عبد المنعم عبد العزيز المليجي

فوضى التعريف:

عودتنا كتب الفلسفة التي تقدم لعامة القراء أن تطالعنا في السطور الأولى بمعنى كلمة فلسفة فتردد إنها كلمة من أصل يوناني مركبة من (فيلو) أي محب و (سوفيا) أي الحكمة، وتنتهي من ذلك إلى أن الفلسفة معناها (محبة الحكمة). ثم تمضي لتؤكد في جرأة أن أول من أستعمل الكلمة للدلالة على علوم الفلسفة عالم يوناني من أعلام الرياضة والفلك والموسيقى، فيثاغورس الذي توفي في القرن الخامس قبل الميلاد؛ إذ قال: (لست حكيماً، فالحكمة لا يتصف بها غير الآلهة وما أنا إلا محب للحكمة). تردد الكتب ذلك القول مع أنه لم يثبت بالدليل التاريخي البات أن فيثاغورس أول من أستعمل كلمة فلسفة بمعنى اصطلاحي، فالمؤرخ (هيرودوت) يذكر أن (كريزوس) قال (لصولون) إنه سمع أن صولون قد جاب كثيراً من الأقطار يتقلسف، وأن الذي دفعه إلى ذلك رغبته في المعرفة.

ولذلك يحق لنا أن نرجح أن هيرودوت أول من استعملها للدلالة على علم من العلوم، أو - على الأقل - أن نشك في نسبتها إلى فيثاغورس.

وعودنا جمهور المثقفين أن يتساءل عن معنى الفلسفة، ويتطلب تعريفاً جامعاً مانعاً لها في كلمات قلائل، ولما كان موضوع الفلسفة غير واضح المعالم، غير محدود الأفق، ولما كانت المعرفة الفلسفية متشعبة الأطراف، متنوعة الاتجاهات حتى ليستحيل أن تقضي إلى نتائج ثابتة نهائية شأن العلوم المختلفة، لما كان الأمر كذلك تعذر تعريف الفلسفة على اعتبار أنها لون من ألوان التفكير البشري، أو فرع من فروع المعرفة الإنسانية.

وإذا كان الفلاسفة قد تصدوا لتعريفها فإن تعريفاً واحداً من تعريفاتهم لم ينج من النقد فضلا عن التقريع، حتى ليتعذر علينا أن نجد فيلسوفين يتفقان على تعريف واحد. سر ذلك أن كل فيلسوف إذ يتصدى للتعريف إنما يكون واقعاً تحت تأثير فلسفته الخاصة فيكون التعريف الذي ينتهي إليه مجرد عبارة قصيرة توجز فلسفته، وتركز مذهبه.

أفلاطون، مثلا، يصف الفيلسوف بأنه شخص غايته معرفة الأمور الأزلية، أو الوصول إلى حقائق الأشياء، أو الارتقاء من العلم بشئون حياتنا الوهمية إلى إدراك مسائل الحياة الأزلية. وهو يصدر في ذلك عن نظرية عرف بها، نظرية المعاني أو المثل، التي ترى العالم المحسوس الذي نحيا فيه حياتنا الراهنة عالم أشباح زائلة، لحقائق أزلية أبدية لا تحس وإن لم يكن من المستحيل إدراكها إن اصطنعنا التأمل العقلي الخالص من أوهام الحس والبدن. فيصبح العلم بأمور هذا العالم تافهاً، في حين يصبح العالم الحق هو الإحاطة بعالم الحقائق الأزلية الروحية، وما ذلك العلم غير الفلسفة. بل نراه يقول: (الفيلسوف الحق هو ذلك الذي يسعى إلى انتزاع الروح من الجسد) ألا يلخص ذلك القول نظريته في العلاقة بين الروح والجسد التي ترى الإنسان لا مركباً من روح وجسم، بل تراه روحاً حلت عرضاً في جسد هو سجن لها ينبغي أن تتحرر منه؟

وشيشيرون، الخطيب الروماني، ينافح عن الفلسفة الرواقية التي تدين بالفضيلة غاية للحياة، وترى السعادة في الخضوع لمحتوم القضاء، والإذعان للقدر، والابتسام للخطوب، والرضا بواقع الأمور. ذلك أن الأمور ليست فوضى إنما هي وفق إرادة عليا خيرة عاقلة، ثم هي فضلا عن ذلك منبثة في أرجاء الكون، حالة في جنباته. حتى لتصبح السعادة شأناً من شئون النفس لا يتوقف على الظروف الخارجية، ولا يرتهن باعتدال الأمور أو تقلب الأحوال، إنما هي طوع أمرك إن ارتضيت حكم الإرادة الكلية، وازدريت اللذات الجسدية. ينافح شيشيرون عن الفلسفة الرواقية هذه، فهل نعجب حين يذكر في معرض الحديث عن الفلسفة: (أيتها الفلسفة! أنت المدبرة لحياتنا: أنت صديق الفضيلة وعدو الرذيلة، ماذا تكون حياة الإنسان لولاك؟!) أو حين يضع حدود المعرفة الفلسفية بقوله: (إن الفلسفة هي العلم بأفضل الأشياء، والقدرة على الانتفاع به لكل وسيلة ممكنة).

إن شيشيرون بقوله هذا لم يعرف الفلسفة بقدر ما عرفنا وجهة نظره الخاصة.

وأرسطو، المعلم الأول، يقسم الفلسفة إلى فروع عدة جميعها حكمة بيد أن (ما وراء الطبيعة) أحق تلك الفروع باسم الحكمة وهو يسمى علم ما وراء الطبيعة (الفلسفة الأولى) في مقابلة (الفلسفة الثانية) ويعني بها العلم الطبيعي. ويعرف الفلسفة الأولى بأنها العلم الإلهي الذي يبحث في الله، المحرك الأول، مسبب الأسباب وعلة العلل، ذلك أن دراسة الله عبارة عن دراسة الموجود من حيث هو كذلك، فضلاً عن أن الطبيعة الحقة للوجود تتجلى فيما هو دائم لا فيما هو زائل.

وإليك مثل من الشرق العربي، عالم مسلم مشبوب العاطفة الدينية، ذلك هو الجرجاني، بطل التعريفات، يعرف الفلسفة بأنها (التشبه بالإله بحسب الطاقة البشرية لتحصيل السعادة الأبدية). فيأتي تعريفه خير معبر عن نزعته الفكرية فكيف ننتظر منه أن يكون تعريفاً للفلسفة في ذاتها؟!

وإذا كان معنى الفلسفة يختلف من فرد إلى آخر فهو يختلف كذلك من عصر إلى آخر. كان في القرون الوسطى العلم الذي يصل إليه العقل بطريق النظر الفكري الصرف في مقابلة العلم الإلهي الذي يصل إليه الإنسان بطريق الوحي.

وهكذا صار معنى الفلسفة العلم العقلي المنظم. وفي العصور الحديثة تدل كلمة فلسفة على مجموعة العلوم النظرية التي تستند إلى النظر العقلي الصرف في مقابلة مجموعة العلوم المستندة إلى الملاحظة والتجربة.

ناهيك بشتى التعريفات التي تنكر الفلسفة وتزدري الفلاسفة يطلقها نفر من المتزمتين الحرفيين في تدينهم، يصدرون في تعريفهم لها عن تهيب من العقل وخشية على إيمانهم السطحي من عمق التأمل العقلي؛ أو يتفكه بها قوم من المازحين الجهلاء يصدرون في تعريفهم لها عن العداء لما يجهلون: فمن تعريف لها بالفكر والزندقة، إلى القول بأنها تعقيد البسيط، إلى اتهامها بتهمة الثرثرة والقدرة على الحديث حين ينبغي وحين لا ينبغي، أو قوة الحجة في مجال الحق أو مجال الباطل على حد سواء.

فقد اتضح إذن بعد هذا العرض السريع أن لا سبيل إلى الوقوف على حقيقة الفلسفة من تعريفاتها، كما أنه لا سبيل إلى حقيقة المرء من بطاقته، أو الكتاب من عنوانه. وإن نم التعريف عن أمر ما، فعن اتجاه صاحبه العقلي أو نظريته الفلسفية أو شعوره نحو النهج الفلسفي منكراً كان أو مؤيداً.

المنهج الفلسفي

إن تعريف الفلسفة قد يوهم القاريء أنها مجرد علم من العلوم، ابتدأه أو ابتدعه ذلك النفر من الحكماء، وتعاون على إقامته وتطوره أجيال الفلاسفة؛ في حين أن الحقيقة التي تخفى على الكثيرين من طلاب الفلسفة المبتدئين، أن الفلسفة أسلوب من أساليب التفكير البشري، وناحية من نواحي النشاط الفكري. فالإنسان المنطوي على طلب المعرفة، المطبوع على تفسير الظواهر، المتلهف على تلمس العلل والأسباب والغايات كما ينهج النهج الخرافي في تفكيره، قادر إذا ما بلغ طوراً من التقدم العقلي أرقى، وإذا ما تهيأت له ظروف مادية خاصة، على أن ينهج نهجاً فلسفياً. بل إن بذور التفكير الفلسفي لتبرز في طفولة المرء وفي طفولة البشرية. وقد انتهيت في مقال سابق من رسالة بعد استعرض أمثلة من الشرق القديم إلى أن الخرافة أو الأسطورة وإن كانت تطبع التفكير الشرقي القديم، فإن الفلسفة كانت تطل برأسها بين الفينة والفينة، وفي ذلك المحيط من ظلام الفكر حيث تتراقص المردة والأشباح والشياطين التي تراها عين الخيال وتذكيها العاطفة والهوى، كانت تنبثق أحياناً بروق فلسفية ومحاولات لتفسير الأمور تفسيراً عقلياً، فتغالب الأشباح وتبدد الخرافات إلى حين.

وأضيف إلى ذلك أن الفلسفة كثيراً ما كانت تبلغ الأوج دون أن تبدد الأشباح تبديداً تاما. وكثيراً ما ألمت بها نكسات لا يزال التاريخ يذكرها فقد أعقب العصر الذهبي للفلسفة اليونانية إِبان القرنين الثالث والرابع قبل الميلاد ذبول هو ارتداد إلى الفكر الشرقي القديم من حيث الامتزاج بالدين والاقتصار على مباحث الأخلاق والميل إلى التصوف، وما التصوف في حقيقة الأمر إلا نوع من الإعراض عن العلم العقلي الذي يستند إلى الدليل والبرهان، والاكتفاء باليقين القلبي والإيمان. وفي عام 529 بعد الميلاد أغلق الإمبراطور يوستنيانوس مدارس الفلسفة في أثينا، وكانت قد أقفرت من التلاميذ، وتناقص عدد العلماء فيها وخمد الفكر الفلسفي في اليونان ليذكر في الشرق، في ربوع فارس حيث كسرى أنوشروان، صديق الفلسفة الذي فتح ذراعيه للنازحين من ربوع الاضطهاد الفكري.

(البقية في العدد القادم)

عبد المنعم عبد العزيز المليجي