مجلة الرسالة/العدد 822/(وقعة صفين)

مجلة الرسالة/العدد 822/(وقعة صفين)

ملاحظات: بتاريخ: 04 - 04 - 1949



للدكتور جواد علي

واقعة صفين الوقائع الهامة التي يجب دراستها بعناية، لأن لها ولسائر الوقائع الأخرى التي وقعت في صدر الإسلام أثراً كبيراً في التاريخ العربي. وقد عنى جماعة من الرواة بأخبارها وألفوا في ذلك كتباً، تعد في نظر المؤرخ المراجع الأولى التي يجب الرجوع إليها لمعرفة العوامل السياسية والظروف التي لعبت دوراً جسيما في إثارة تلك الأحداث التي أثرت في مستقبل العرب والإسلام.

وتلك المصنفات التي ذهب الدهر بأكثرها عامة جداً لأنها المراجع الأولى التي يجب أن يعتمد عليها المؤرخ في تدوين التاريخ وليس لكتب اليعقوبي والطبري والمسعودي وابن مسكوية، وابن الأثير وغيرهم تلك القيمة - على جلالتها وأهميتها - التي يضعها الناقد الحديث للأصول. ثم إن هذه الكتب نفسها قد رجع إليها واغترف منها. وقد أخذت أكثر أخبارها من شهود عيان. وليس الخبر كالعيان.

من أجل هذا ومن أجل رغبتنا في تدوين تاريخ نقي للعرب صاف يعيد إلى ذهننا صفاء الإسلام وصفاء تلك العقيدة التي حاربت الحمية الجاهلية والتفكير الجاهلي والعصبية القَبلية، ومن أجل أن يكون لنا تاريخ مكتوب وفق الأساليب العلمية الحديثة مستمد من المصادر الأولى وجب علينا التفتيش قدر الطاقة عن أقدم النصوص لدراستها دراسة علمية حديثة، ولا سيما تلك النصوص التي دونت في البيئات المحايدة التي لم تنجرف مع التيارات السياسية ومن أشخاص عرفوا بالعلم والإطلاع، في الأماكن التي حدثت فيها تلك الأحداث أو كانت قريبة منها. ويؤسفني أن أقول إن أكثرها قد فقد وأتلف عمداً أو سهواً، فنحن لا نملك من الكتب التي وضعت في الصدر الأول شيئاً، ولا نملك من المؤلفات الأصول غير مؤلف أو مؤلفين.

فالعالم العربي والعالم الإسلامي بل والعالم الغربي في حاجة إلى هذا التاريخ، إلى تاريخ علمي منظم دقيق يكتب بروح حيادية على نمط الكتب المؤلفة في الغرب، ولا يمكن أن يكون ذلك إلا بالاعتماد على الأصول، وعلى تحسين فهم الأصول عقول، ولأجل هذا لا يمكن الاعتماد بعد اليوم على مؤلفات المستشرقين لأن ما فيها إما أن يكون غير حياد وإما أن يكون ناقصاً لا يعبر عن نفسيه هذا الشعب. لأنهم لا يستطيعون التعبير عن نفسيته ولا فهم عواطفه. ثم إن من العار على أمة تريد النهوض ومجاراة الأمم الأخرى الاعتماد على المستشرقين وفيهم الغالبية من الصهاينة أعداء العرب والإسلام. من أجل هذا كان سروري عظيماً بكتاب (وقعة صفين) لنصر بن مزاحم المنقري المتوفى سنة 213 للهجرة؛ لأنه أصل من تلك الأصول التي أبحث عنها والتي كتبت عن وقعة واحدة وجمعت مختلف الروايات التي قيلت عنها. وأرجو أن نوفق إلى روايات أخرى تمثل وجهة نظر أهل الشام مثل روايات عوانة الكلبي الذي كان يعرفها بحكم اتصاله بكلب التي كان لها نفوذ هناك، كما أتمنى العثور على كتب أخرى عن هذه الوقعات وعن الحوادث المهمة التي وقعت في صدر الإسلام.

ولنصر بن مزاحم مؤلفات قيمة تناولت الأحداث التي وقعت في العراق، وهو ثقة فيها وقد نقل عن مؤلفاته جماعة من المؤرخين فأعتمد على كتابه (كتاب الجمل) الذي تناول أحداث وقعة الجمل أبو جعفر محمد بن جرير الطبري المتوفى سنة 310 للهجرة.

أخذ ذلك عن علي بن أحمد بن الحسن العجلي عن الحسين ابن نصر العطار وهو ابن نصر ابن مزاحم المنقري. ووضع رواياته هذه مع الروايات الأخرى التي أخذها عن السرى عن شعيب عن سيف بن عمر الأسدي الكوفي المؤرخ الشهير وصاحب الكتب المعروفة في الفتوح والردة والجمل وغير ذلك، والذي هو موضع ثقة الطبري فيها حتى أنه رجحه على الواقدي، وهو سند نصر بن مزاحم بنفس الوقت.

وقد ألف غير واحد من المؤرخين في وقعة صفين، منهم ابو مخنف لوط بن يحيى المتوفى سنة 158 للهجرة. وهو من أنشط الرجال الذين عنوا بتاريخ العراق؛ وهو من مشائخ نصر أبن مزاحم بنفس الوقت. وقد اعتمد عليه الطبري في وقعة صفين والتاريخ الأموي والأحداث التي وقعت قبل صفين وأورد من كتب أبى مخنف قطعاً طويلة تعطينا فكرة مهمة عن الأسلوب المشرق الذي أتبعه في تدوين التاريخ وفي الإنشاء العربي وفي ذلك العهد وهو مرجع لأكثر المؤرخين. ويمكن جمع أقواله المشتتة في كتب الواقدي والبلاذري والمسعودي وغيرها وتكوين فكرة عامة عن هذا المؤرخ القديم.

وألف أبو عبد الله محمد بن عمر الواقدي المتوفي سنة 207 هـ وهو مؤرخ شهير ومرجع لا يحتاج إلى تعريف في وقعة صفين وقد أشار إليه والى أبي مخنف الأستاذ عبد السلام محمد هارون في مقدمته لكتاب صفين. وألف غيرهما ممن لم يشر إليهم الأستاذ مثل إسحاق بن محمد بن عبد الله بن سالم أبو حذيفة البخاري المتوفي سنة 206 للهجرة فهو من معاصري نصر بن مزاحم، وكان مثله صاحب مؤلفات في الأحداث الإسلامية. فله كتاب الفتوح وكتاب الردة وكتاب الجمل وكتاب الألوية وكتاب صفين وكتاب حفر زمزم وكتاب المبتدأ وهو في مبدأ الخلق، ومثل إبراهيم بن محمد بن سعيد الثقفي الكوفي المتوفي سنة 283 للهجرة وهو مؤلف صنف في هذه المواضيع كتباً مثل كتاب الجمل وكتاب صفين وكتاب الحكمين وكتاب أخبار عمر إلى غير ذلك من الكتب التي ذكرها أصحاب التراجم. ومثل الغلابي أبو عبد الله محمد بن زكريا بن دينار أحد الرواة للسير والأحداث والمغازي وله من الكتب كتاب مقتل الحسين بن علي وكتاب وقعة صفين وكتاب الجمل وكتاب الحرة وكتاب مقتل أمير المؤمنين فهو من المؤلفين في تواريخ أحداث العراق.

ولقد عنى الكوفيون عناية خاصة بتدوين الأحداث الإسلامية التي وقعت في العراق وبأمر الفتوحات، وهم يتفوقون في ذلك على أهل الشام وعلى أهل المدينة الذين عنوا بالسيرة والمغازي وأحداث الحجاز وبالدولة بقدر ما للدولة من علاقة بالمدينة. فلم يهتم رواتهم بما كان يقع في العراق أو الشام أو ما إلى ذلك. ويشبه أهل الكوفة في ذلك رواة أهل اليمن الذين حافظوا على الرواية التاريخية وأحيوا القصص الشعبي وخلقوا لليمن قصصاً اصطبغ الصبغة المحلية وبالعصبية القبلية. ولوجود عدد كبير من الرواة الذين يرجعون أنسابهم إلى اليمن في مدينة الكوفة دخل ولا شك في تقدم فن التاريخ في هذا المكان.

ونصر بن مزاحم راوية من رواة أهل الكوفة من الطبقة الممتازة وقد فقدت اكثر مؤلفاته مع الأسف، وإن كانت لا تزال بعض قطع منها محفوظة في بطون الكتب التي اقتبست منها. وقد كان ولده (الحسين) من الرواة وقد سجل له أبو الفرج الأصبهاني شيئاً من الأقوال في كتابه (الأغاني). وفي كتاب صفين قطع أخذت من كتب الفت في أيامه أو في أيام مضت قبله. فحفظ نصر لنا بذلك نماذج من النثر ترينا كيف كان المؤرخون يكتبون.

وقد عرف كتاب صفين بين الناس واقتبس منه، قديماً وحديثاً. وممن نقل منه عز الدين أبو حامد عبد الله المدائني الشهير بابن أبي الحديد شارح كتاب (نهج البلاغة) وقد أدخل في كتابه (وقعة صفين) لنصر وجزأه إلى أقسام جعل كل قسم في الموضع الذي يليق به من الخطبة أو الإشارة. وقد أدخل في كتابه في الواقع كتباً أخرى من الكتب التي ألفت قبله ولا مجال للبحث عنها في هذا المكان.

وقد دفعني البحث الذي أقوم به الوقت الحاضر عن المصادر التي أخذ منها الطبري في تاريخه المعروف لمجلة المجمع العلمي العراقي على مراجعة كتاب (وقعة صفين) في جملة كتب كثيرة رجعت إليها فكان تحقيق الأستاذ السيد عبد السلام محمد هارون محقق هذا الكتاب الذي طبع عام 1365 للهجرة في القاهرة هو الحافز لي على الكتابة في هذا الموضوع.

والحق أن الأستاذ قد أجهد نفسه وبذل عناية تستحق التقدير في إخراج هذا المؤلف الثمين، وقد وضع لرجال السند ولأشخاص الرواة تراجم مختصرة تناسب المقام وزينه بفهارس أحيت الكتاب، وهو عمل متعب لا يعرف مشقته إلا المساكين الذين دفعهم القدر إلى الاشتغال بالتحقيق في بلاد تقيم للتحقيق العلمي وزناً ولا تضع له أية قيمة.

وقد حملني إعجابي بالإخراج على إبداء بعض الملاحظات البسيطة التي جاءت في المقدمة. من ذلك قول المحقق (طبع هذا الكتاب لأول مرة على الحجر في إيران سنة 1301 وهذه الطبعة نادرة الوجود عزيزة المنال حتى أنها لم تدخل خزائن دار الكتب المصرية إلا منذ عهد قريب، وهي نسخة مروية تقع في ثمانية أجزاء في صدر كل منها سند الرواية التي تنتهي إلى نصر بن مزاحم وهذه لأجزاء الثمانية في 305 صفحة. . . الخ. . .).

وقد تحدث السيد عبد السلام محمد هارون عن حالة الكتاب في مصر؛ أما في العراق فهو موجود يباع عند الوراقين بثمن زهيد وكنت أود أن يشير إلى ما ذكره المستشرق (بروكلمن) عنه في كتابه (تاريخ آداب اللغة العربية) فعندي أنه يستحسن من كل محقق أو مؤرخ الإطلاع على ما جاء عن الكتب وأصحابها وان كان البحث لا يخلو من أوهام في بعض الأوقات. فقد أشار (بروكلمن) إليه وذكر أنه طبع سنة 1301 (1884) بمدينة طهران طبعه (فرج الله الكاشاني). وكنت أود أن يشير إلى ذلك اعترافاً بخدمة من سبقنا من الباحثين. والظاهر أن الأستاذ لم يراجع كتاب هذا المستشرق وإلا كان في مقدمة من أشار إليهم.

والواقع أن الأستاذ لو قرأ الصفحة الأولى من كتاب (وقعة صفين) المطبوع بإيران لوجد أسم الناشر إذ جاء فيها: (يقول الراجي عفو ربه الغني فرج الله بن هاشم العلوي الفاطمي الحسيني ان كتاب الصفين في شرح غزاة أمير المؤمنين. . . الخ) وجاء في آخر الكتاب اسم الخطاط الذي طبع الكتاب على الحجر واسمه محمد حسن في سنة 1300 هـ لا سنة 1301 كما ذكر ذلك بروكلن والأستاذ عبد السلام محمد هارون.

وجاء في مقدمة السيد هارون (وهناك نسخة ثالثة كانت في ضمير الغيب وأمكنني أن أكشفها شيئاُ فشيئاً بمطالعتي في شرح نهج البلاغة لأبن أبي الحديد الذي جرت عادته على أن يضمن تأليفه جملة من الكتب ينثرها في تضاعيف كتبه. . .)

وكنت أود أن يطلع الأستاذ على كتاب بروكلمن فقد أشار فيه إلى أخذ أبن أبي الحديد لكتاب صفين ونثره في تضاعيف كتابه كما أشار إلى النسخة التي أشار إليها السيد عبد السلام محمد هارون وهي المطبوعة في بيروت عام 1340 بعد حذف الأسانيد منها وكنت أود ألا يكتفي الأستاذ بقراءة النص المطبوع بإيران، بل كنت اطمع أن يقرأ الصفحة الأولى منه وهي مقدمة أشار فيها إلى كتاب آخر حوى وقعة صفين وهو كتاب شهير جداًُ يقال له (بحار الأنوار) وقد قرأ (بروكلمن) الصفحة الأولى من طبعة (وقعة صفين) التي أعتمد عليها السيد عبد السلام محمد هارون فأشار إلى هذا الكتاب.

وكتاب (بحار الأنوار) دائرة معارف في العلوم الشرعية والتاريخ وهو من مؤلفات محمد باقر بن محمد تقي المجلسي الأصفهاني المتوفي سنة 1110 للهجرة (1700م) ويقع في 26 مجلداً بديء بطبعه طبعاُ حجرياُ سنة 1303 وانتهى منه سنة 1315، وقد حوى المجلد الثامن منه وهو المجلد الخاص بالإمام علي بن أبى طالب على وقعة صفين، فأدخل المجلسي كتاب وقعة صفين في هذا المجلد وشغل حيزاً واسعاً منه من صفحة 484 حتى صفحة 621. ولو طالع الأستاذ هذا الكتاب الذي أشار إليه (بروكلمن) وقبله ناشر كتاب وقعة صفين الأولى منه لوجد الكتاب كاملا ولوجد له نصاً ثانياُ يساعده كثيراً على التحقيق. والظاهر أنه لم يعثر عليه في دار الكتب المصرية وفي مكتبات مصر.

وقد أشار المجلسي في كتابه إلى وجود زيادات في كتاب صفين لم ترد في كتاب شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد. وقد استفاد المجلسي وهو عالم محقق واسع الاطلاع من نسخة قديمة لكتاب وقعة صفين. كما استعان بكتب أخرى عن هذه الوقعة مثل (كتاب صفين) لإبراهيم بن ديزبل الهمذاني الذي من رواته (حبة العرفي) وهو من رواة نصر بن مزاحم. وكذلك سيف ابن عمر الصنيعي الكوفي المتوفي سنة 180 للهجرة الراوية الشهير صاحب الكتب في الردة والفتوح والجمل ومسير عائشة وعلي. وقد نقل عن الصعب بن حكيم بن شريك بن نملة الكوفي. ومثل كتاب شرح نهج البلاغة لابن ميثم البحراني وغير ذلك.

وقد سبق لعالم آخر أن أعتمد على كتاب (سفين) فأخذ منه شيئاً حذفت منه الأسانيد هو الشيخ السيد محسن الأمين من علماء الشام أدخله قي كتابه (أعيان الشيعة) في الجزء الخاص بالإمام علي المطبوع سنة 1354 للهجرة والظاهر أن الأستاذ لم يقف عليه.

هذه ملاحظات بسيطة دفعني على تدوينها موضوعي الذي أشتغل فيه في الوقت الحاضر عن (مصادر تاريخ الطبري) لا تغض من قيمة الكتاب سجلتها رغبة مني في التعقيب لأن العلم بحر لا يحاط به مهما أوتي الإنسان من علم. أرجو من القارئ ألا يسيء ظنه في قيمة التحقيق والإخراج.

(بغداد)

جواد علي