مجلة الرسالة/العدد 824/فزان بين يدي الأتراك والطليان

مجلة الرسالة/العدد 824/فزان بين يدي الأتراك والطليان

مجلة الرسالة - العدد 824
فزان بين يدي الأتراك والطليان
ملاحظات: بتاريخ: 18 - 04 - 1949



للأستاذ أحمد رمزي بك

إيطاليا تسترد فزان:

حينما يتكلم جراتزياني تنصت السماوات العلا ويفتح الناس آذانهم، إلا أهل فرنسا فهم لا يتركونه من غير أن يناله رذاذ من نقدهم: أنظر إليه يقول: (لا توجد على الأرض دولة بوسعها إن تفخر أنها ختمت حملة استعمارية بالنصر الذي ختمنا به حملتنا على الكفرة وفزان: ليس بوسع الفرنسيين أن يدَّعوا شيئاً من ذلك، بل نؤكد أمام العالم تفوفقنا عليهم رغم الانتقادات التي توجه إلينا من سكان ما وراء الألب (يقصد فرنسا) أو سكان ما وراء المانش (يقصد بريطانيا).

ثم انظر إلى ردهم بعد فتحهم فزان في سنة 1943 فيما نشره الفرنسيون بسخريتهم المعروفة:

, ' ,

أنصت إليه في مؤلفه:

يحدثنا عن نفسه:

(ها قد أعطيت الكلمة لتحكيم السيف وإنها لكلمة مقدسة حينما نريد أن نفرض إرادتنا على خصم عنيد؛ إنها مقدسة ولمائة مرة حينما نقذف في وجه الأهالي الوطنيين الذين صمت آذانهم عن سماع أي منطق إلا ما توحيه إليهم عقولهم الهمجية، أولئك لا يقنعهم شيء سوى استعمال القوة تصحبها العدالة).

أرأيتم مثل هذا إلا في عهد قيصر!!!

فهو إذن يشيد بعمل الحكومة الفاشية التي قررت فرض إرادتها باستعمال السلاح يقول أن سياستها تتلخص في جملة واحدة (أصبح من المحتم الخروج من الحالة المبهمة السائدة في المستعمرة وأن تفرض إرادة الحكومة على كل جهة، وأن يكون فرض التسليم والخضوع شرطاً لكل عمل سياسي مع الأهالي، فعلى كل من يباشر أي سلطة حكومية أن يواجه أهل البلاد بهذه الحقيقة التسليم بلا قيد وشرط أو الحرب بلا هوادة).

وكانت هذه هي السياسة التي نادى بها فولى والذي وقف من أول الأمر ينادي (بأن حق إيطاليا من الناحية الدولية في امتلاك المستعمرة حق ثابت لا نزاع فيه، وأن عناد الأهالي ما هو إلا ثورة يحركها بعض الرجال المتعطشين للسلطة تقودهم أطماعهم الذاتية فليس هناك روح قومية أو حركة وطنية تحركها عواطف عالية أو روح جماعية، وإنما هناك أطماع وأغراض وأهواء: فلنضرب ضرباً قاسياً (وهل وجد المستعمرون في مدغشقر وفي إندونيسيا غير هذا المنطق؟

وجاء جراتزياني ينفذ خطته لاحتلال فزان على طريقته الخاصة وإلا فانظر إلى تعليماته للوحدات التي يقودها: فهي تعبر عن نفسية يجدر بنا تتبعها:

1 - توزع قوات الاحتياطي على أنحاء الجبهة بطريقة تمكن من الاستفادة منها بغير إضاعة وقت ولكي يسهل تجمعها واستعمالها إذا احتاج الأمر إليها لضرب العدو ضربات قاصمة.

2 - تقسم الجبهة إلى أقسام، وأن يتولى كل في دائرته مطاردة العدو بواسطة أفواج تبدأ عملها من نقط ارتكاز مختلفة ومتباعد ولكنها متجهة في سيرها إلى غرض واحد - أو تظهر أنها متجهة لأغراض متعددة في وقت واحد مع تلاقيها عند هدف واحد، وبذلك تتوزع قوات العدو المتجمعة أو تتفرق أو تثبت في أماكنها.

3 - يراعى أن تستعمل الوحدات على أساس العمل على جبهة واسعة الأطراف، أي تعمل كل واحدة على أنها مستقلة تماماً في تحركها إلى أبعد مدى وتترك كل قواعد وأساليب التعبئة القديمة، وتعتمد الوحدات على مرونتها في الحركة والتقدم والعودة بدون أن تلجأ إلى طلب مساعدة الوحدات الأخرى: يفهم من هذا أنه اتبع نظام دوريات دائمة متحركة بانتظام.

وقد تبين من كتابته رأيه في المقاتلين العرب، فهو لا ترهبه كثرتهم العددية بل يقرن النصر بالقرار الحازم والتقدم للهجوم، فالمهم لديه اكتشاف أماكن تجمع الثوار ومهاجمتها بغير تردد ويوصي بأنه عند التلاقي يجب أشغال العدو وقبول المعركة، فإذا حاول العرب الانسحاب لا تتركهم قوات الجيش ولا تمكنهم من الراحة واستعادة شجاعتهم، بل يجب مع انسحابهم إصابتهم مادياً والفتك بهم حتى تفنى قوة المقاومة لدى العدو ولا يستطيع استعادتها.

ثم عاد فقرر (أنه لا يصح احتقار شأن الثوار، بل يحسن إعطاؤهم ما يستحقونه وليذكر الطليان أن عزيمة العرب وإن بدا مظهرها قوياً في المبدأ إلا أنها لا تستند على قوة دافعة مستديمة، ولذلك تضعف وتهبط في النهاية فالمقاتلة من الثوار لا يسعهم أن يصمدوا في المعركة طويلاً أمام قوات نظامية مدربة تدريباً أوربياً)

ويهمنا أن نتعرف إلى جميع آرائه فينا فهو يتكلم بصراحة وبوسعنا أن نصلح أخطاءنا دائماً إذا اطلعنا على ما يكتبه عنا أمثال هؤلاء ويقرر (أن حاجات العرب في الميدان محدودة. ولذلك لديهم مقدرة فائقة على جمع وسوق قوات كبيرة واستعمالها في ميادين مختلفة والعربي مقاتل بغريزته وطبعه فهو لا يهاب المواجهة ولا يخشى التصادم، ويعتمد على عاملين: مقدرته على التضليل ليصل إلى توزيع القوة التي أمامه وتفرقها حتى لا تعمل كموحدة متكاتفة وقوية ثم يعتمد على المؤثرات الأفريقية التي تصيب الجيوش الأوربية وتسبب لجنودها التعب والإعياء حينئذ يضرب ضربته).

ثم يعقب هذا بقوله: (إنه في كل مرة من تلجئهم الظروف إلى مواجهة حالة قتال تقرب من أساليبنا الأوربية، ويتحتم عليهم قبول المعركة يدب الخلل في صفوفهم ثم يسهل لنا التفوق عليهم لعدم تمكنهم من الوسائل الفنية العديدة التي بين أيدينا (على ضوء هذه التعليمات الصريحة قاد جراتزياني جنوده في العمليات التي سبقت فتح فزان وهي عمليات بوليسية على حد تعبير إخواننا الهولنديين حينما يتحدثون عن جهاد الشعوب

وفي هذه الأثناء جاء بادوليو إلى ليبيا وتولى سلطتي الحاكم العام والقائد الأعلى (وكان هذا في نظر جراتزياني فتحاً جديداً عبر قوله (بعد عشرين عاماً من التلكؤ والتردد والهزائم تسلم الأمور ليد عسكرية ونضع لأول مرة برنامج منسجم جامع روعي تطبيقه بإرادة قوية).

وبهذا انتقلت السلطات العليا ليد العسكريين، فأمر بأن تكتب هذه العبارة وتعلق على بابه (ليس لدى هذه القيادة خزينة لدفع مرتبات). وذلك لاعتياد الحكومة الإيطالية على توزيع مرتبات نقدية وهدايا وأسلحة وذخيرة وقال إنه رفض من المبدأ الدخول في مفاوضات أو إعطاء مواثيق أو وعود، وصرح في كل مناسبة أن الحكومة تريد أن تعرف من هم أصدقاؤها ومن هم أعداؤها وأخذ يترنم بمقطوعة من شعر فرجيل الشاعر الروماني.

وتعريبه (تذكر أيها الشعب الروماني أنك ستدعى إلى حكم الشعوب فاعف عمن يلين لك واخضع الأقوياء لسلطانك).

وهكذا نرى أن فزان فتحت لنا آفاقاً بعيدة نطل فيها على حوادث متعددة ونتعرف على نفسية القواد وغرورهم ورأيهم فينا:

فلنقف قليلاً لنحدد أثر الحوادث وتسلسلها التاريخي في فاصل قبل الدخول إلى المقاطعة وحروبها الحديثة.

فنحن نعلم أن فزان كانت مستقلة تحت حكام من أمراء بني خطاب من قبائل الهوارة كما حكمها ملوك من السودان ولا تزال بقايا قصورهم وقبورهم قائمة. ونحن نذكر نقلا عن صاحب تاريخ طرابلس الغرب المسمى التذكار (حوادث عن أمراء فزان) في ولاية سليمان داي التركي وحروب صاحبها المنصور بن الناصر ابن المنتصر ورفضه دفع الإنارة وعراكه مع الوالي ثم حروبه وعودته وشكوى أهل فزان للسلطان أحمد بن السلطان محمد ابن مراد بن سليم بن سليمان فهذه حوادث تتكرر في كل عصر حتى عصر عبد الحميد. وكان أن أصبحت فزان منفى لرجال الأحرار من الأتراك في عهده والغريب أن يلجأ حكام روما الفاشيون إلى فزان والكفرة لفرض الإقامة الجبرية على فريق من أعداء العهد الفاشي، فإذا جنود فرنسا حرر بعضهم وكان قد مضى عليهم سنوات وهم مبعدون من أوطانهم.

لنذكر بعد ذلك أن إيطاليا جمعت أواخر سنة 1913 حملة قوامها1200 جندياً إيطالياً ووطنياً تحت قيادة الكولونيل ميامي ووجهتها من طرابلس إلى الجنوب واحتلت المراكز الهامة حتى وصلت إلى مرزوق ولكن هذا الاحتلال لم يدم طويلا كما ذكرنا ففي نهاية عام 1914 انسل الطليان منسحبين إلى الشمال تاركين الجنود الوطنيين وحدهم فدخل فزان السنوسيون مع حلفائهم من الطوارق وأقاموا بها حكما لم يدم طويلا لأن الأتراك أعدوا الكرة فزحزحوا السنوسيين عنها وعينوا إحسان ثاقب متصرفاً للإقليم وجعلوا المدعو خليفة زاوية في وظيفة محاسبجي للمتصرفية حدث هذا في سنة 1917 ثم تولى الأخير السلطة في نهاية سنة1918 ولما غادر الضباط الأتراك بعد عقد الهدنة - ثم ساد عهد الفوضى والتنازع بين الأخير وجماعة سيف النصر وشيخ يدعى عبد النبي انتهى باستيلاء الأخيرين على مرزوق وطرد خليفة من المقاطعة فلجأ الأخير إلى الطليان وهو بحالة يرثى لها فأعطاه جراتزياني منزلا وخادماً ووعده بأن يستخدمه في فتح فزان.

وضعت خطة الفتح بناء على إرشادات المارشال بادليو وروعيت فيها منتهى الدقة بحيث لم تتجاوز اعتمادات الصرف 21 مليون ليرة إيطالية أيما يقرب 200 ألف من الجنيهات المصرية يدخل تكاليف تعبيد الطريق لغاية سبها وإصلاح الطريق من سبها إلى مرزوق ثم منها إلى غات على الحدود الفرنسية.

ثم كل هذا ابتداء من النصف الأول لسنة 1929 وتحدد شهر ديسمبر لابتداء العمليات الحربية التي وضعتها القيادة العامة في طرابلس من ناحية تعبئة القوات المكلفة بالفتح وتهيئتها وإمدادها بعربات النقل وكل ما يتعلق بمراكز التموين والتجمع ونظام سوق الجيش وتركت على عاتق جراتزياني الناحية الفنية ناحية اختيار الضباط وتدريب القوة المكلفة بالزحف.

فحصر همه في اختيار أعوانه ووضع لذلك شروطاً ألزم نفسه باتباعها فاشترط.

1 - أن يكون الضابط على خلق قيم وجرأة وإرادة.

2 - أن يكون من المتحمسين للأمور الاستعمارية.

3 - أن يكون من الذين يتحملون المشاق ويرضون بالتخشن في العيش.

ولما عرف كيف ينتقي ضباطه فرض هذه الشروط على ضباط الصف ثم أخذ يختبر معلومات ومقدرة رجاله ففرض على القوة القيام بتمرينات متعددة على خاصيات حرب الصحراء واهتم بوسائل الارتباط والمخابرة مع الطائرات حتى يسهل الاتصال بين الوحدات وبعضها وبينها وبين القيادة وطبع كتاباً مختصراً عن فزان وأحوالها ووزعه على الجنود وضباط الصف وأخذ في تحضير خريطة مفصلة على أحدث ما وصل إليه علم السلطات عن طبيعة الأرض والمناطق وأسماء البلاد والمسافات التي تفصلها.

ولم ينسى خليفة زاوية الذي انضم مع الطليان على رأس مفرزة من الوطنيين ومعه مهدي موسى للانتقام من أعدائهما في مرزوق وتحركت. القوتان في نهاية شهر أغسطس وقاتلت جماعة من المجاهدين تحت قيادة سيف النصر واحتلت واحة براق الواقعة على طريق سبها.

ولما وصل خبر احتلالها إلى طرابلس أصدر بادوليو أمره بالتقدم إلى مرزوق وأن تكون المقدمة من فوج من السيارات المدرعة ومعه كتيبة من جنود إرتريا تحملها السيارات وتتبع كل هذا قافلة تحمل ما يكفي لمدة شهر من المؤن والذخائر ولما وصلت الحملة إلى براق وجدت أن سبها قد سقطت في يد خليفة وبهذا أصبح الطريق مفتوحاً إلى مرزوق.

يقف الطليان هنا موقفاً خاصاً يشيرون فيه إلى أخطائهم الماضية فهم يدرسون عمليات سنة 1913 ويقررون أن أسلافهم لم يفكروا في حماية مواصلاتهم وكان تقدمهم لاحتلال مراكز العدو دون التفكير فيما تتعرض جنودهم إذا تركوا جيوباً للعدو يشن الغارة منها عليهم وكان أن سقطت حامياتهم وعزلت واحدة تلو الأخر ويكشف جراتزياني عن فكره بقوله (إن هذه الأخطاء لن تتكرر مرة أخرى) ولذلك ترك الزعماء الوطنيين يتقاتلون في فزان. حربهم الداخلية الفانية التي تحضر للرق رؤوسهم وأخذ يستعد لحملة واسعة النطاق وكان ذلك في الشهور بين أغسطس و25 نوفمبر سنة 1929 حيث وصل فجأة إلى سبها وأصدر تعليماته التي تتلخص في

1 - إتمام تطهير الجزء الشمالي بأكمله واحتلال براق وسبها بالقوات النظامية.

2 - السير مرة واحدة إلى واو الكبير على طريق مرزوق - الكفرة ومنها كانت الحملة التي وجهها العابد إلى سبها سنة 1914.

3 - الهدف الأخير احتلال مرزوق - أوبارى - غات لحدود الصحراء الفرنسية.

إن القصد النهائي هو أن تتطور المعركة على شكل ديناميكي وينتهي للوصول إلى احتلال نهاية الحدود السياسية وإخضاع أبعد المناطق مما لا يتصور العرب أن في وسع الحكومة الإيطالية الوصول إليها1.

وقد نفذت هذه الخطة التي كان الكتمان رائدها بحذافيرها تامة فاستولت إيطاليا على واو الكبير ومرزوق وفي 35 فبراير سقطت غات التي غادرها الثوار منسحبين إلى داخل الأراضي الفرنسية وفي 30 مارس تركت مفرزة من قوات البادية مراكزها في فزان متجهة جنوبا فاحتلت جبال طمو في 2 إبريل أي على بعد1500 كيلو متر من الساحل وأتمت حركتها بأن عادت إلى مراكزها عن طريق بئر الوعر وبقيت إيطاليا تسيطر على فزان حتى قامت الحرب الأخيرة. أليس في ذكر هذا ما يحرك في النفس أشياء؟ نعم لقد انتهى عهد إيطاليا وانتهى جراتزياني وسلمت جيوشه في صحراء مصر ولكن الدروس التي ألقاها علينا في زحفه إلى فزان تستحق العناية أو تنبهنا إلى بعض الأخطاء التي وقع فيها أسلافنا أو وقعنا نحن فيها ألم يكن من الأوفق لنا أن نعرف أساليب الخصم العاتي وأن الاستعمار مجموعة تحارب والحروب سلسلة من الدروس القاسية والفرص تأتي ولا تعود.

والآن انتقل إلى الحلقة الأخيرة لفزان وهو احتلال فرنسا لهذا الإقليم:

(النهاية في العدد القادم)

أحمد رمزي