مجلة الرسالة/العدد 826/تعقيبات

مجلة الرسالة/العدد 826/تعقيبات

ملاحظات: بتاريخ: 02 - 05 - 1949



للأستاذ أنور المعداوي

الفن بين واقع الفكر وواقع الحياة:

إني لمغتبط إذ أرى شخصية أدبية ممتازة كشخصيتك، تقف في (الرسالة) الغراء طارقا بأسلوبك التحليلي النفيس شخصية الأستاذ توفيق الحكيم الأدبية. . الواقع أن هذا الكاتب الكبير الذي تربى في أحضان القانون واجتذبه الأدب إلى أحضانه وانتزعه من البيئة التي نبت فيها وعاش في كنفها، كان شمسا جديدا ضمت إلى شمس الأدب فزادت الأدب العربي نورا وبهجة ورواء!.

إنني لا أوافقك على رأيك عندما تقول: (إن توفيق الحكيم في واقع الحياة يعيش في دنياه هو لا في دنيا الناس). . إن أمامنا مثلا واضحا يظهر جليا في كتابه (يوميات نائب في الأرياف) الذي ألفه بعد أن كان وكيلا للنائب العام. يقرأه الإنسان فيحس إحساسا عميقا من قرارة نفسه أن الأستاذ الحكيم في هذا الكتاب أديب وفيلسوف. . . تارة يتهكم على بعض مفارقات الحياة، وتارة أخرى يسمو بفكرته ويحلق بالقارئ فيخيل إليه أنه في قلب المحكمة يسمع ويرى المتقاضين والمتهمين، ويعالج بقلمه بؤس الفلاحين فيؤكد لنا أنه يعيش في دنيا الناس لا في دنياه هو كما تقول!.

فهل للأستاذ أن يتناول بقلمه الرائع لمحة خاطفة عن شخصية الأستاذ الحكيم في كتابه (يوميات نائب في الأرياف)، الذي يصدره بتلك الكلمات: (أيتها الصفحات التي لم تنشر، ما أنت إلا نافذة مفتوحة أطلق منها حريتي في ساعات الضيق)؟.

محمد رضوان

كلية الحقوق جامعة فؤاد

الفن في ميزان القلب والشعور:

إن كلمتك التي طالعناها في (الرسالة) عن الأستاذ توفيق الحكيم رغم قصرها وتركيزها قد أطلعتنا على كثير من الحقائق والقيم التي لم يطلعنا عليها كاتب من قبل، إننا نهنئك من أعماق نفوسنا على أنك لم تتأثر في نقدك - كما يفعل الغير - بالصداقة وما نفرضه من مجاملات! ولكن الحقيقة الكبرى التي أحب أن تفسرها لنا تفسيرا كاملا وصريحا هي قولك: (صراع نفسي وهذا هو العجب، وقلب إنساني وهذا هو الأعجب). . . هل نفهم من هذه اللمسة السريعة العابرة أن الأستاذ توفيق الحكيم لا يهتز بين جنبيه قلب قوي الخفقات مكتمل النبضات؟ إن هذه النقطة هي أهم ما يجب أن تكشف لنا عنه في كلمات حاسمة وفاصلة، لأنها في الواقع مثار كل خلاف بين أنصار فن الأستاذ الحكيم وبين خصومه!.

مصطفى عبد العليم

دبلوم معهدي الصحافة والتربية

ناحيتان جديرتان بالبحث والدراسة بعد أن عرض لهما في هاتين الرسالتين أديبان فاضلان. . . الواقع أنني كنت أشعر وأنا أكتب عن الأستاذ توفيق الحكيم أن هناك قراء سيدفعهم التركيز فيما كتبت إلى شئ من الاستفسار، لأنني كنت أحرص كل الحرص على إبراز القواعد العامة وأعنى كل العناية برسم الخطوط الرئيسية. ومرجع هذا إلى أن الأديب الفاضل الذي رغب إلى أن أكتب في هذا الموضوع، قد ألزمني أن أدور حول هذا الهدف وأن أتحدث في حدود هذا النطاق. . . وإذن فلا بأس من العودة إلى ما سبق أن عرضت له من آراء وأحكام، لأتناول بالتوضيح بعض ما لم يتضح عند الإشارة العامة واللمحة العابرة، لينتفي في رحاب الشرح والتفضيل ما غمض في رحاب الإيجاز والتركيز!.

أول شئ أقرره في مجال الرد على الرسالة الأولى هو أنني أوافق صاحبها على ما أبداه من رأي في شخصية الأستاذ الحكيم الأدبية. . . الواقع أن هذا الفنان مهما وجه إليه من نقد ومهما أخذ على فنه من نقص، فستبقى حقيقة يقررها كل منصف حين تؤرخ هذه الفترة من أدبنا العربي المعاصر، وهي أن توفيق الحكيم هو واضح الدعامة الأولى للأدب المسرحي الحديث في مصر. قد يأتي بعده في هذا الجيل أو الجيل الذي يليه من يرفع البناء الفني لهذا الأدب طبقات، ولكن توفيق سيضل في ميزان التاريخ الأدبي هو الباني الأول هو الموجه الأول، فلولاه ما كان عندنا قصة فنية، لما كان عندنا مسرحية ناضجة، ولما كان عندنا نفير من كتاب الشباب يستطيعون أن يحملوا الراية حين يخلو لهم الميدان. . . إن لم يكن اليوم ففي الغد القريب على كل حال. والفضل كل الفضل لأن هذا الفنان قد حمل المشعل منذ سنين فأنار الطريق، ودفع السالكين بكلتا يديه إلى الأمام!.

إنني حين أعلم أن بعض جوانب هذه الشخصية الأدبية لا يرضيني فليس معنا هذا أن توفيق الحكيم يقف وحده في مجال النقص والقصور، كلا. . . فما يسلم كاتب في الشرق ولا في الغرب من هذا الذي يأخذه النقد على توفيق الحكيم! إن (أوديب الملك) التي أخرجها منذ شهور لم تبلغ الغاية التي كنت أرجوها من كاتب يدرك تمام الإدراك ما ينتظره من صعاب وهو يطرق أبواب سوفو كليس، ولكن هذا العمل الفني الذي أخفق فيه توفيق الحكيم وهو يواجه عميد الترتديجيا اليونانية يعلو فوق مستوى أمثاله عند من حاولوا نفس المحاولة من كتاب المسرحية في أدب الغرب، وسأقف في كل وقت وفي كل مكان لأقول إن (أوديب) توفيق الحكيم أفضل بكثير من (أوديب) جان كوكتو , أندرية جيد!

بعد هذا أعود فأقول للأديب الحقوقي الفاضل إنني حين قلة عن توفيق الحكيم إنه يعيش في دنياه هو لا في دنيا الناس كنت أرمي إلى أدبه المسرحي لا إلى هذا الأدب الذي يدخل في باب اليوميات. . . إن الكتاب الذي أشار إليه لا يعد قصه بالمعنى المفهوم من القصة، ولكنه مشاهدات نقلها الأستاذ الحكيم من واقع الحياة إلى الفن بعد أن لونتها ريشة القصاص بألوان العرض الفني الذي يأخذ من القصة ثوبها الخارجي ولا يتعداه. ومع ذلك فأنا أحب أن أوضح نقطة تدخل في صميم هذا الجانب الذي نبحث فيه، وهو أن توفيق الحكيم قد مضى يعالج فن المسرحية في الوقت الذي ابتعد فيه عن الحياة وانطوى على نفسه. إنك عندما تقرأ أعماله الفنية الأولى التي سجلها ليصور بها تلك البيئات المختلفة التي عاشه فيها بالجسم والفكر والروح والحواس تلمس أن الحياة تتنفس تنفسا عميقا في فنه، وأن عدسة القصاص قد بلغات من دقة اللقطات ما لا يتهيأ إلا لكل فنان مفتوح العينين والقلب والذهن. . . اقرأ مثلا (عودة الروح) و (يوميات نائب في الأرياف) تحس أن الحياة فيهما تكاد تنتقض بين يديك وتتحرك أمام ناظريك؛ تنتفض بمواكب لا تحصى من الصور النفسية والنماذج البشرية! لقد كانت العدسة البارعة تنتقل من الشوارع إلى الأزقة، من المدينة إلى القرية، من القصر إلى الكوخ؛ ترقب، وتتأمل، وتسجل. . . وإذا حرارة التعبير قد ارتفعت لتلفح إحساسك على الورق، وإذا لمحة الخاطر قد استحالت فكرة في ثنايا العرض وإذا ركب الأحياء قد انتقل في حركة نابضة إلى السطور والكلمات!

لقد كان توفيق الحكيم يعب الحياة عبا إن صح هذا التعبير ويوم أن كان بطل على ميدان الحياة الفسيح المترامي أمام عينية كان يطل من نافذة مفتوحة، هي نافذة الحواس المتحفزة للتقاط كل ما تقع عليه من صور في دقة ووعي وانتباه، وهذه هي الفترات المستيقظة في فن توفيق الحكيم. . . فترات مستيقظة نقلت عن كتاب الحياة سطورا فيها عمق وروح وأصالة، فإذا (عودة الروح) و (يوميات نائب في الأرياف) نسختان أمينتان تغمض عينيك بعد الفراغ منهما لتبدأ الحياة سيرها في دروب النفس ومسارب الشعور، ولا بأس من أن تغمض عينيك فإن الصورة قد انطبعت على صفحة الفكر والخيال!. . . هذا هو الفن الرفيع حين يتصل بالحياة وحين يقبس من الحياة، ليعيدها إليك لوحة تكتمل فيها الزوايا وتأتلف الأبعاد.

في حي السيدة زينب جلس توفيق الحكيم إلى مائدة الحياة فتذوق من ألوان الطعوم ما شممت رائحته في (عودة الروح). وفي مدينة دسوق قضى فترة من شبابه وكيلا للنائب العام، يتحدث إلى الحياة وتتحدث إليه، حتى نقل إليك حديثهما ذلك الطلي النابض في (يوميات نائب الأرياف). . وفي مدينة النور قدمت إليه الحياة كأسا غير الكأس وسقته من رحيق غير الرحيق، وكان مذاق هذه الكأس الجديدة هو تلك الجرعة الملهبة في (زهرة العمر) و (عصفور من الشرق). في كل عمل من هذه الأعمال الفنية خامة قصصية تستمد نفاستها من هذا المعدن الممتاز الذي لا يخبو له ضوء. . . معدن الحياة!

ولكن توفيق الحكيم ينتقل من حال إلى حال. . . يغلق النافذة المفتوحة التي كان يطل منها على ميدان الحياة الفسيح المترامي أمام عينيه، وكأني به قد سئم ضجيج الحياة والأحياء! ولا بأس عنده من أن يرقب هذا المسرح الزاخر بالنظارة والممثلين من وراء هذه النافذة ذات الزجاج (المصنفر) الذي يحجب الرؤية عن الأنظار، ولكن هذا الزجاج (المصنفر) لا يتيح له الرؤية الكاملة لتلك الفصول المتعاقبة من رواية الحياة. . . وإذن فلا مناص من الرجوع إلى المخيلة في تمثل حركات النظارة والممثلين! وهنا مفرق الطريق بين عهد وعهد في أعمال توفيق الحكيم الفنية. . . فن يأخذ مادته من الحياة في فترة من فترات شبابه، وفن آخر يأخذ مادته من المخيلة في فترة من فترات ما بعد الشباب، ويسدل الستار أو يكاد على تلك الألوان التي تستمد عناصرها ومقوماتها من واقع الحياة، ليرفع مرة أخرى عن تلك الألوان التي تستمد عناصرها ومقوماتها من واقع الأساطير!. . . قد يقول بعض النقاد إن الأسطورة في فن توفيق الحكيم مرجعها إلى أنه يريد أن يحلق في كل أفق ويريد أن يطرق كل ميدان؛ وقد يبدو هذا التفسير مقبولا لو كان هناك شئ من الاقتصاد في العمل الفني الأسطوري ولكنه إغراق له دلالته ومرماه، وأبلغ الدلالة فيه أن توفيق الحكيم قد ابتعد عن الحياة وأن الحياة قد ابتعدت عنه، وحين غاب عالم الصور الحية عن ناظرية لجأ إلى عالم الرؤى والأطياف؛ عالم المخيلة التي ترتب المنظر، وتحرك الشخوص، وتصنع الحوار، من وراء النافذة المغلقة لا في رحاب الهواء الطليق!

ومن يدري فلعل توفيق الحكيم يعود مرة أخرى إلى الحياة بعد هذا الهجر الذي طال أمده واتسع مداه، ولعله يكون قد عاد في هذه المسرحية التي تعرض منذ أيام على مسرح الأوبرا الملكية. . . إنني لم أشاهدها بعد، وأرجو إذا مشاهدتها أن تتحقق هذه الأمنية التي أنتظرها منذ بعيد، وهي رؤية فن توفيق يعب الحياة عباً كما كان. عندئذ سألهب قلبي من الإعجاب وكفي من التصفيق!

بعد هذا أعود إلى الرسالة الثانية لأقول لصاحبها إن مسألة القلب الإنساني في فن توفيق الحكيم هي مشكلة المشكلات. . . هل يملك قلباً إنسانياً أم لا يملك؟

هذا هو السؤال! إنه يملك هذا القلب، ولكنه القلب الذي لا يفتح على مصراعيه لتندفع النبضات قوية جياشة متدفقة. إنه قلب يفتحه صاحبه للحياة بمقدار، ويفتحه للناس بمقدار، ويفتحه للفن بمقدار. . . وفي غمرة هذا الضعف في الخفقة القلبية تطغى الموجة الفكرية والومضة الذهنية، هذا الطغيان الجارف في قصصه ومسرحياته!

في (عودة الروح) و (زهرة العمر) و (عصفور من الشرق) و (الرباط المقدس) و (شهرزاد) و (بجماليون) و (أهل الكهف) تحس إحساسا عميقا أن نافذة القلب الإنساني في فن توفيق الحكيم لم تكن تفتح لتهب منها رياح الوجدان، حتى تعود فتغلق أمام عواصف الفكر المنبعثة من تأملات الذهن وسبحات الخيال! أما في (سليمان الحكيم) فقد انتصر القلب على العقل. . . وهذه هي المعجزة التي دفعتني إلى القول بأن هذه المسرحية تقف منفردة باكتمال (الصراع النفسي) وقوة النبضات في القلب الإنساني، ودفعتني إلى الظن بأن توفيق الحكيم كان يعيش في نفس التجربة الشعورية التي صورها بقلمه لقلب (بلقيس) بين حب (منذر) وجاء (سليمان)!. . . من هنا قلت وأنا في معرض الحديث عن (سليمان الحكيم): (صراع نفسي وهذا هو العجب، وقلب إنساني وهذا هو الأعجب)؛ لقد كان مصدر العجب البالغ أن توفيق قد خلا إلى قلبه خلوة طويلة، تمت في غفلة من عين هذا الرقيب الصاحي الذي لا يغفل، وأعنى به الفكر!.

إن الفن في ميزان الذهن المجرد شئ، وفي ميزان القلب النابض شئ آخر؛ هناك هزات فكرية، وهنا هزات شعورية. وما أبعد الفارق بين الفنين في حساب النفس وحساب الزمن!.

دفاع مضحك عن سلامة موسى:

لي صديق أديب هو في الوقت نفسه صديق للأستاذ سلامة موسى، ولكن يظهر أن إخلاصه للكاتب (الجبار) يفوق إخلاصه لي. . . والدليل على ذلك كتب في الرد على مقالين أحدهما في (الأديب) والآخر في (المقتطف)، حاول فيهم بكل ما أوتي من علم أستاذه أن يرفعه إلى السماء؛ ولكن السماء كانت قد امتلأت بضحكات الساخرين فلم يبق فيها مكان للكاتب الجبار فبقى كما تركته منذ أسابيع. . على الأرض!! إن سلامة موسى في رأي تلميذه الذي لا أعرف له تلميذا سواه (مفخرة خمس أجيال في تاريخ مصر، وإذا كان لكل كاتب مدرسة فإن المدرسة الأولى للدكتور طه حسين بك بلا منازع، والمدرسة الثانية منسوبة إلى الأستاذ سلامة موسى بغير شك). . . هكذا والله العظيم! ولو سئلت النملة رأيها في الذبابة لقالت: هذا فيل كبير!!.

أنور المعداوي