مجلة الرسالة/العدد 828/الغريزة
مجلة الرسالة/العدد 828/الغريزة
للدكتور فضل أبو بكر
الغريزة عبارة عن ميل خاص ونزعة مجبولة في نفس الكائنات الحية منذ ظهورها إلى عالم الحس والوجود. وقد تكون نتيجة المعرفة وليدة التجارب حيناً، كما قد تتجرد عن كل ذلك في معظم الأحيان، وأن ذلك الميل وتلك النزعة تمليهما ضرورة الحياة والكفاح من أجلها.
ذلك الميل وتلك النزعة يتجليان في صورة نشاط تبدو بواكره في مستهل حياة الكائن، ويكون أشبه بالنشاط الفسيولوجي كما يظنه الإنسان لأول وهلة نتيجة لعقل أوروبية. وعمل الغريزة يكون أوضح في الحيوانات ولا سيما الدنيا منها مثل الحشرات مثلا.
أما موضوع الغريزة، فهو من المسائل التي كثر حولها الجدل وتضاربت الآراء إلى حد بعيد، إذ يرى البعض فيها عملا آلياً ميكانيكياً كعمل الساعة، أو فسيولوجياً بحتاً غير إرادي كعملية الهضم، وفريق آخر يعتبرها ناتجة عن معرفة وفهم، أو على الأقل فيها مسحة من الذكاء.
كذلك هم يتساءلون مختلفين عن نشأتهم ووجودها في الكائن: يظن البعض أنها تنشأ كاملة من أول وهلة ومن غير حاجة إلى صقل وتهذيب. ويقول البعض إنها تولد ناقصة بدائية ثم تنمو وتتطور بنمو الكائن. ويقف فريق آخر موقفاً وسطاً بين هذا وذاك ويعتقد بأن بعض الغرائز - وهي الموروثة - تولد كاملة من غير حاجة إلى تطور، وبعضها - وهي المكتسبة - تكون ناقصة تتم وتكتمل شيئاً فشيئاً بمرور الزمن.
يقف الإنسان حائراً إزاء هذه الآراء المتضاربة المتنافرة، وسبب هذا التنافر - كما اتضح أخيراً للباحثين - هو أن بعضهم يخلطبين الغرائز وبين بعض المظاهر الحيوية الفسيولوجية لما يوجد بينها من تشابه يشتد في بعض الأحيان. وأول من ألمع إلى هذا اللبس هو العالم السيكولوجي البلجيكي (لوي فرلين) وفرق بين الغرائز والظاهرات الفسيولوجية، وأن هذه الظاهرات وإن كانت في بعض الأحيان تحتم وجود الغرائز وتدعو لخلقها إلا أن هنالك عوامل أخرى غير العوامل الفسيولوجية كما سيتضح لنا جلياً فيما يلي:
خواص الغريزة ومميزاتها: يقول البعض إن الغريزة لها صفة (نوعية) بمعنى أن كل الحيوانات التي تنتمي إلى نوع واحد تشترك في الغرائز، ويكون عمل الغريزة فيها بطريقة واحدة، والأدلة على ذلك كثيرة نذكر منها أن لحشرة الزنبور نحو ألف من الأنواع، وكل نوع له طريقته الخاصة في صيد الفريسة التي يقتات منها، فالنوع المسمى يفترس حشرة من ذوات الأربعة أجنحة، والتي تعيش على البقول الجافة والحبوب واسمها النوع من الزنابير - وكل الأفراد التي تنتمي إلى نوعه - له طريقة خاصة فيما يتعلق بالصيد، إذ يلسعها ويحقنها بمادة يفرزها، ومفعول هذه المادة هو شل حركة الفريسة فقط دون موتها، ثم ينقلها إلى مأواه ويبيض عليها، حتى إذا ما فقست البويضات، وجد صغار الزنابير طعاماً جاهزاً من دون سعي ولا مشقة. ونوع آخر من أنواع الزنابير هو دائماً على حشرات الذباب، وضرب آخر منها هو لا يأكل غير حشرات العنكبوت، إلى غير ذلك من الأنواع الكثيرة ولكل نوع طريقة خاصة في اقتناص الفريسة ونوع الفريسة.
كذلك لكل نوع طرقة خاصة فيما يتعلق بالمسكن، فمنها ما يحفر جحره في هامات الصخور، أو على أديم الأرض، أو فوق الجدر والحيطان، أو جذوع الأشجار؛ ومنها ما لا يحفر ولا يشق، ولكنه يعيش في مخابئ طبيعية بين لحاء عيدان الأشجار، أو داخل ما تجوف من الأصداف والمحار.
غير أن نوعية الغريزة لا يمكن أن نقبلها إلا بشيء من التحفظ، إذ هي ليست بنوعية مطلقة، ولكنها نسبية لحد ما، تعتريها بعض الشواذ، كما أشار إلى ذلك (فرلين) بعد تجاربه التي أجراها في الإناث من طير الكناري تولد في أقفاص الأسر، وجد أن بعض الإناث لا تكون عندها غريزة بناء العش كاملة، إذ تبني عشها بطريقة مشوهة ناقصة، وقد تخفق إخفاقاً تاماً، بينما البعض الآخر - وهو من نفس النوع - يعشعش بطريقة عادية تامة. كذلك يروي العالم السيكولوجي (أشيل يوربان) في كتابة (سيكولوجية الحيوانات المتوحشة) بأن لأشبال الأسود وصغار الفهود عادات وغرائز ليست ثابتة كما هو المتوقع.
هذا، ونجد العكس في بعض الحيوانات والحشرات بمعنى إنه رغماً من انتمائها إلى أنواع مختلفة، تتحد في بعض الغرائز أحياناً كعادة تصنع الموت، وهي حيلة تلجأ إليها بعض الحيوانات والحشرات بقصد الدفاع أو الهجوم. مثال ذلك حشرة من ذوات الأربعة أجنحة حمراء مبرقشة بنقط سوداء، وهي أشبه شكلا بحشرة (الجعران) وهذه الحشرة اسمها وإذا ما أسرها الإنسان ووضعها على كفه مثلا أو فوق سطح مستو، فإنها تستلقي على ظهرها وتقبض أرجلها ولا تبدي أي حركة أو علامة للحياة، وإذا ما تركتها وشأنها استعادت حيويتها وأطلقت أنفاسها ثم ولت هاربة طلباً للنجاة. وهذه طريقة دفاعية مدهشة حقاً قد يحسدها عليها الإنسان في بعض الأحيان كما أن هنالك بعض الحيوانات من ذوات الثدي أشبه بالفار الصغير واسمه لأنه لا يأكل شيئاً إلا إذا غمسه وغسله في الماء، ويسميه الأنجلوسكسون النوع من ذوات الثدي يلجأ إلى نفس الحيلة ويشترك مع الحشرة المذكورة في هذه الغريزة، ولكنه يستعملها طريقة للهجوم على صغار الطيور.
نشأة الغريزة:
يقول عالم الحشرات الفرنسي (فابر) بأن الغريزة تولد كاملة منذ وجود الحيوان وعليه فهي ليست في حاجة إلى صقل وتهذيب مستشهداً بما أجراه من تجارب في مجموعة من حشرات الفراش والزنابير؛ غير أن الكثير من العلماء نذكر منهم (بول مارشال) لا يرى رأي (فابر) إذ يقول (مارشال) بأن بعض إناث الزنابير وإن كانت حقيقة كما شاهد (فابر) بأنها تلسع الفريسة لسعة من غير أن تميتها ثم تتركها لصغارها لتأكل منها طعاماً شهياً يقيم الأولاد ويسد الرمق بعكس ما إذا كانت الإناث تميت فريستها وتتركها جثة هامدة، إذ يكون الطعام في هذه الحالة أقل إثارة للشهية وأضعف قيمة غذائية، كما أن هذه الغريزة عند إناث الزنابير والتي تبدو لأول وهلة وليدة عقل مدبر؛ إلا أنه يظن أن الإناث لم تصل إلى هذا الحد من الإتقان إلا بعد مرور أزمان سحيقة خلال تطورها ونشوئها.
كذلك العالم البيولوجي الإنجليزي (بريد) يعتبر الغريزة ناقصة في أول نشأة الحيوان تتطور وتنمو بنموه. مثال ذلك ما نشاهده في صغار الدجاج إذ هي لا تجيد في حداثتها عملية (التنقير) الأزمة لقوتها، فتراها تخطيء كثيراً حين تنقر الحبوب إذ لا تصل إلى هدفها إلا بعد محاولات ثم تزداد مهارة شيئاً فشيئاً خلال نموها.
ويوافق (بريد) (فرلين)؛ إذ هو أيضاً يؤمن بتطور الغريزة؛ إذ شاهد أن إناث بعض الطيور لا تتقن بناء الأوكار في حداثتها ولا تصل إلى حد الإجادة إلا بعد أن تبلغ من عمرها حداً يؤهلها لذلك.
غاية الغريزة وأهدافها:
إن المرمى البعيد الذي تهدف إليه الغرائز إنما هو بقاء النوع على مدى الأزمان. وتتخذ لذلك عدة وسائل: منها ملائمة البيئة، وهي غريزة سبق أن تكلمنا عنها في مقال سابق وتعرضنا إلى آراء (دروين) و (لامارك) و (اسبنر) فيما يتعلق بها. ونضيف إلى ذلك أنه كلما كان الحيوان أرقى كانت ملاءمته للبيئة أوضح وأكبر. وعلى ذلك فهي عند الطيور دائماً ملاءمة البيئة في بناء أوكارها من حيث طقس المكان الذي تعيش فيه وباختلاف الفصول في ذلك المكان. أما عند الحشرات فهي أقل وضوحاً. مثال ذلك ما شاهده (فرلين) في بعض أنواع الحشرات التي تبني بيوتها من الطين أو الصلصال، يقول (فرلين) إذا أدخل بعض التعديلات داخل تلك البيوت فإن بعض الحشرات لا تعيره انتباهاً وتستمر في حياتها كما لو لم يحدث شيء؛ ولكن البعض الآخر - وهو من نفس النوع - لا يحلو العيش ولا يطيب له المقام في هذه البيئة الجديدة فيعيد هندسة ويقدم ما قوض من أركانه مهما طال أمد التجربة ومهما كلفه من مشقة وعناء.
قلنا إن المرمى البعيد للغريزة هو بقاء النوع فهي في خدمة النوع أكثر مما هي في خدمة الفرد، ولو تراءى العكس في بعض الأحيان. والأدلة على ذلك كثيرة نذكر منها ما شاهده (فابر) و (فرلين) في هذه الحالة إذ تبين لهما أن إناث الدبور عند ما تدخر لصغارها الحشرات التي تشلها وقبل أن تفقس البويضات وتظهر الصغار إلى عالم الحس والوجود في هذه الفترة شاهد أن الإناث قد تجوع وتشتد بها غائلة الجوع إذ يندر الصيد أحياناً ويتعذر الطعام. وقد شاهدا أيضاً أن تلك الإناث تلف وتدور حول الفريسة المشلولة وتتلمسها في حالة عصبية. ولم يشاهد قط عنها أن التهمت ما نذرته لبنيها من طعام، فتؤثر بنيها على نفسها رغماً عما بها من خصاصة وحرمان.
غير أن (أشيل بوربان) في كتابه سيكولوجية الحيوانات المتوحشة يقول أن هذه القاعدة قد ينتابها بعض الشذوذ أحياناً، إذ شاهد بعد تجارب أجراها في بعض الحيوانات المتوحشة المأسورة لهذا القصد، شاهد بعض إناث النمور والأسود والدببة تتخلى عن صغارها يوم ولادتها وتنفر منها نفوراً تاماً، وسمى هذه الظاهرة الشاذة (بالغريزة الضالة) وقد عزاها غير إلى حالة مرضية تنتاب تلك الإناث. وقد يكون الأسر دخل في ذلك وشبهوها بما يحدث للمرأة النفساء أحيناً بما يسمى (جنون الولادة) وهو نوع من الذهان والهلوسية الحسية والشعور بالاضطهاد يقودها إلى التخلي عن مولودها بل وقتله إذا اشتدت وطأة الداء ولم تتخذ الاحتياطات اللازمة بإبعاده عنها.
وهنالك ظاهرة أخرى غربية تشبه من حيث الشذوذ - الغريزة الضالة وتسمى (بغريزة الروتين) بمعنى أنها لا ترمي - كغيرها من الغرائز - إلى هدف يستفيد منه الحيوان وهو ما نشاهده عند الكثير من الكلاب وهي عادة دفن الأطعمة كاللحوم أو العظام أو غيرها بعد أن تحفر له حفرة بمخالبها الأمامية ثم تواريه التراب. وقد تلجأ أو لا تلجأ إليه بعد ذلك مع أن بعض الكلاب التي تفعل مثل هذا قد تكون كلاباً مدللة من أصحابها ولم تعرض إلى الجوع يوماً ما!!
ولكن (روسل) يقول إن الكلاب إنما تخبئ ما زاد على حاجتها وتدخره مهما توفرت الأطعمة، وفي هذا شيء من بعد النظر بلا شك، وهو ما يطابق المثل العربي الذي يقول: (أن ترد الماء بماء أكيس).
قد يكون (روسل) مقبولا لحد ما، ولكن هنالك فريقاً من الكلاب يدفن أشياء غير قابلة للأكل مثل الحجارة، أو قطع الأخشاب، أو الملابس، وهو يدفنها بنفس الاهتمام كما لو كانت ذات فائدة غذائية. وفي هذا المثل الأخير تتضح غريزة الروتين بصورة أوضح. ثم إن الكلاب في دفنها الأشياء من غذائية أو غير غذائية تختلف، فتارة تلجأ إلى مكان بعيد وتختفي عن الأنظار، وتارة تدفن ما تريد بمرأى ومسمع عن الناس بغض النظر عما إذا كان المدفون مما يؤكل أو مما لا يؤكل!!
أسباب الغريزة ودوافعها:
إن للغريزة أسباباً داخلية وأخرى خارجية مؤثرة على الحيوان. ويقول (رابو) إن عمل الغريزة يتوقف على استمالات خارجية ومؤثرات حسية، فإناث بعض الحيوانات حين تتهيأ للحبل وتكون في حالة فسيولوجية قابلة له تبعث منها روائح خاصة من شأنها جلب الذكور وإغرائها جنسياً، وحاسة الشم عند تلك الحيوانات تلعب دوراً أهم من غيره فيما يتعلق بالناحية الجنسية، والدليل على ذلك ما قام به (فابر) من تجارب. وضع (فابر) أنثى من أنواع الفراش هو ما يسمى داخل إناء مقفل الجوانب عدا نافذتين صغيرتين تسمحان للهواء بالمرور ووضع الإناء وما يحوي في مكان منعزل، فوجد بعد مضي ثلاثة أيام نحو ستين من ذكور الفراش تلتف حول الإناء لما ينبعث منه روائح جلبت ذلك الجيش من الذكور، ثم وضع بعد ذلك نفس الأنثى في إناء من زجاج يشف عما بداخل الإناء، ولكنه محكم القفل لا يسمح بمرور الهواء، ثم تركه في مكان منعزل مدة ثلاثة أيام، فلم ير غير اثنين من الذكور، وقد أجرى العمليتين عدة مرات، وكانت النتائج دائماً واحدة. أما لدى بعض الحشرات مثل العنكبوت، فإن حاسة السمع تلعب دوراً أهم من غيره من بقية الحواس، إذ تعتمد عليها في اصطياد الفريسة.
من هذا يحق لنا أن نقارن عمل الغريزة بظاهرة عبارة عن قوة طبيعية تؤثر على الكائن وتجذبه إليها فتكون إيجابية، أو تصده عنها وتقصيه فتكون في هذه الحالة سلبية مثل ذلك (الجذب الأرضي)، إذ يكون إيجابياً في النبات بالنسبة للأصول والعروق، إذ هي تتجه نحو الأرض وتندفن في جوفها، وسلبياً بالنسبة للسيقان والجذوع والأوراق، إذ تتجه اتجاهاً مضاداً وتنفر عن جوف الأرض، وكذلك ظاهرة (الجذب الضوئي) تكون في النبات عكس ما يحدث بالنسبة إلى ظاهرة الجذب الأرضي.
كذلك نشاهد مفعول تلك الظاهرة، أي بعض أنواع الحشرات من ذوات الأجنحة النصفية تعيش على عصير النباتات واسمها فإذا وضعتها في مكان فهي تتجه دائماً نحو النور. وكذلك نوع من أنواع الذباب الروائح الأثيرية والحمضية المنبعثة من الفواكه المختمرة، وهذا ما يسمونه بالجذب الكيمائي.
وقد حاول العالم الإنجليزي (لوب) تعليل مثل هذه الظاهرات، ولكنه عللها تعليلا ميكانيكياً خالياً من الإدارة، بل ومن مظاهر الحياة، وزعم بأن كل أنواع ما هي إلا إحدى مظاهر الجاذبية العامة خاضعة لها، وهي كذلك أشبه بالجذب المغناطيسي.
لقيت آراء (لوب) شيئاً من الرواج حيناً ولكنها هوجمت وتبين خطأها. خذ مثلا حشرة العثة فهي تنجذب نحو النور ولكن حين يحين موعد البيض تبحث عن مكان مظلم لا يتطرق إليه بصيص من نور. والأمثال كثيرة في هذا الصدد مما دعا الباحثين إلى أن يعتقدوا بأن عملاً ميكانيكياً كما يظن (لوب) وأن الغريزة ليست إلا نوعاً منه كما كان يعتقد.
كذلك توجد عند الحيوانات غريزة التوجيه تعتمد فيها على الذاكرة وعلى حاسة البصر أكثر من سواها من الحواس؛ فإذا فصلت النحل من خلاياه وباعدت بينه وبينها نحو أكثر من أربعة كيلو مترات ثم أطلقت سراحه بعد ذلك فإنه يرجع بسهولة إلى خلياه من غير ما يضل طريقه إليها، كما تتفاوت درجة غريزة التوجيه لدى الحيوانات.
الغريزة والعقل:
رأينا مما تقدم أن الحيوانات حتى الدنيا منها مثل الحشرات كالنحل والزنبور والطيور تقوم بأعمال يظنها الإنسان لأول وهلة ناتجة عن عقل مفكر مدبر مما دعا إلى الخلط بين العقل والغريزة في كثير من الأحيان. فبرجسون يقول إن العقل والغريزة ينشآن جنباً لجنب ويتشابهان في كثير من الأحيان ويكمل بعضها عمل البعض الآخر ولكنهما يختلفان في كثير من الأوجه، ويعتقد بأن الغريزة أميل إلى الآلية وإن كانت لا تخلو من مهارة وشيء من الإلهام.
فالغريزة تتوغل داخل الأشياء، بينما العقل يطرقها من الخارج ويعلم ما يربطها ببعضها البعض، فهو يبتكر ويحلل ولكنه مع ذلك يفتقر إلى موهبة فلسفية وفنية لفهم الحياة على وجهها الصحيح.
كذلك كان يظن (أسبنسر) (ودانتك) بأن الغريزة عبارة عن صفة فسيولوجية يرثها الفرد من النوع الذي ينتمي إليه؛ ولكن المتفق عليه الآن هو أن الغرائز عبارة عن ميول سيكولوجية وفسيولوجية بعضها موروث وآخر مكتسب، تولد ضعيفة مترددة ثم تتهذب وتنصقل بنمو الحيوان.
ولنذكر الآن بعض الغرائز عند الإنسان:
غريزة الملك:
وهي تظهر جلياً عند الطفل إذ يحاول أن يمتلك كل ما تمتد إليه يده أو يقع تحت بصره. وسبب ذلك تنازع البقاء وطلب الخلود؛ وهذه الغريزة تشمل عدة غرائز أخرى مثل غريزة الصيد؛ فإذا أتيحت للطفل الفرصة أن يقتحم عشاً للطير أو قفصاً للدجاج فإنه يأسر صغارها ويستولي على بيضها، كما يحلو له أن يتصيد الحشرات مثل الجراد والفراش وتبدو عليه سيماء الغبطة؛ وقد يكون ذلك بدافع من غريزة التملك أو يكون ذلك نتيجة لبقايا وآثار وراثية كامنة في نفسه وقتما كان الصيد ضرورة حيوية للإنسان الأول يقتات منها.
غريزة الحروب:
كثيراً ما نشاهد الأطفال من مختلف الأجناس والبيئات مولعين بتنظيم صفوفهم في هيئة جنود محاربة، ويشنون الحرب بعضهم على بعض متسلحين بالطوب والحجارة أو العصي الرفيعة في حرب هجومية قد يكون الدافع لها غريزة التملك إذا كان هنالك من الأشياء ما ينازعون من أجله ويود كل فريق أن يكون له دون غيره، أو بدافع حب السيطرة، أو تكون حرباً دفاعية بمواعز من غريزة حب البقاء.
غير أن بعض السيكولوجيين يرى في حروب الأطفال هذه عاملاً جنسياً؛ إذ أن الطفل يتهيأ بهذه الحروب الصغيرة إلى حرب أكبر وهي حرب الغرامية بكرها وفرها، بعنفها ولينها، مع المرأة، أو حرب دامية من أجل المرأة إذا ما حاول غيره أن يتملكها أو يغتصبها منه. غير أن هذا التأويل قد يكون بعيداً لا يخلو من المبالغة حتى أن (فرويد) نفسه الذي يعزو كثيراً من مظاهر سيكولوجية الإنسان إلى دوافع جنسية لا يرى في غريزة الحروب عاملاً جنسياً. ويقول فرويد: إن غريزة الحروب عند الأطفال ناشئة عن غريزة الاعتداء والميل إلى الخراب والتدمير.
الغريزة التناسلية
كان الرأي السائد قديماً أنها تبدو عند سن المراهقة، ولكن المسلم به الآن أنها تظهر عند الطفل وهو في مهده رضيعاً كما يقول (فرويد) كما تدخل في طور جديد عند ما يبلغ الطفل الخامسة من عمره، ومن الخامسة إلى أن يبلغ سن المراهقة يسمونه (بالطور الكامن) تكون فيه الغريزة مكبوتة بدافع من الحياء وحب قواعد الأخلاق والعرف، ثم بعد سن المراهقة بعامين أو ثلاثة يكون ميل الشاب أو الشابة أقرب إلى الحب الأفلاطوني والهوى العذري البريء إلى الحب المادي. والسبب في ذلك أن الشاب في مثل هذه السن يكون ميالاً إلى المثالية (والرومانتزم) وتحوله الأحلام وقد يتهرب من لقاء المرأة مكتفياً بالطيف محتقراً - إلى حد ما - الملذات الجسدية. وقد عزا السيكولوجي (مندوس) هذه الظاهرة إلى حصانة من جانب الطبيعة ترمي إلى التراث حتى تنضج الأحياء الملقحة فتكون وقتئذ أقدر على أداء وظيفتها. وقد شرح (مندوس) هذه الظاهرة وغيرها في كتابة الممتع (عقلية المراهق).
والغريزة التناسلية كما يعلم الجميع ترمي إلى بقاء النوع. وكلما كان الكائن الحي من حيوان أو نبات ضعيفاً كان لزاماً عليه أن يكثر من النسل؛ لأن أغلب ذراريه - لضعفها - عرضة للفناء على حد قول الشاعر العربي:
بغاث الطير أكثرها فراخا ... وأم الصقر مقلاة نذور
دكتور فضل أبو بكر
عضو بعثة فاروق الأول السودانية بفرنسا