مجلة الرسالة/العدد 828/صور من الحياة:

مجلة الرسالة/العدد 828/صور من الحياة:

ملاحظات: بتاريخ: 16 - 05 - 1949



قبعة. . .

للأستاذ كامل محمود حبيب

أتذكر - يا صاحبي - يوم لبست القبعة لأول مرة، يوم أن كنت ترسف في قيود أربعة: أبيك وهو جافي الطبع شيطاني الجبلة أرضي النزعة، وأمك وهي مستكينة واهية متداعية، ورئيسك وهو يستذلك بفضله وأياديه، وعميدك وهو يتخذك صنيعة له وداعية لأغراضه. لطالما استيقظت كرامتك فتراءيت في عين نفسك سقيم الوجدان مستلب الرأي والإرادة، وكنت لا تجد خلاصاً إلا أن تعق والديك فلا تزورها أبداً ولا تعني بأمرها، وإلا أن تستخذي لرئيسك وأن تتودد لعميدك عسى أن تكسب الرضا أو تدفع الأذى.

ورأيت الميناء يموج بالسفر من كل جنس، وإلى جانب كل مسافر ثلة من الأهل والأصدقاء يودعون وينصحون ويشجعون. وإن كلمات الوداع الحارة لتصاعد حواليك تصك مسمعيك، وإن عبرات الحب والإخلاص لتنهمر هنا وهنالك على خطوات منك لتكون قذى في عينيك. ولكنكأنت لم تجد صاحباً واحداً يرفه عنك وينفث فيك من روحه ومن شجاعته ومن حبه، فوقفت وحيداً تنظر.

وتحركت الباخرة فوقفت على ظهرها جامداً ترمق أرض الوطن وهي تتوارى خلف الأفق فما نبض قلبك بشوق ولا خفقت روحك بحنين ولا جاشت مشاعرك بعاطفة. ثم وليت وجهك شطر الغرب، ورحت تتنسم أول نسمات الحرية - كرأيك - حين خيل إليك أنك ألقيت عن نفسك قيوداً أربعة كبلك بها الوطن.

ترى هل استمتعت هناك بالحرية التي افتقدت هنا؟

وتقبلك عميد الجامعة هناك بقبول حسن لأنك صنيعة معهد (كذا) الأجنبي، وإن جناب العميد لرجل علم وأدب وإنه لذو حيلة ودهاء، ولكن ماذا أفدت هناك؟

لقد عشت هناك مثلما عشت هنا: منقبض الأسارير تأنس بالوحدة وتطمئن إلى الخلوة، تغدو إلى الجامعة وتروح إلى الحجرة، تصغي إلى الدرس - صدر النهار - في غير ملل، وتنكّب على الكتاب - شطراً من الليل - في غير ضجر، وإن عميد الجامعة هنا ليحبوك بعطفه ويغمرك بفضله لأنه يمتّ إلى عميد المعهد هنا بأواصر هي: الصداقة في الشباب والأخوة في الدرس والوحدة في الجنس والتآلف في الرأي. وأنت هناك طالب الجامعة مثلما كنت هنا طالباً في المدرسة ترضى بالقليل وتقنع بالتافه، وأنت هناك خامل الذكر مثلما كنت هنا وضيع الهمة، وأنت هناك بعيد عن لذائذ الحياة ومتعها مثلما كنت هنا تعاني الحرمان والضيق. ولكن عميد الجامعة أراد فأصبحت، بعد سنتين، دكتوراً في الفلسفة. وتراءيت في عيني رأيك فيلسوفاً وجرفتك الكبرياء، فما كان يليق بك أن تكون رجلاً ممن يعيش فيمضطرب الحياة ونوازعها، وأنت ابن سقراط وترب كنت وصاحب ديكارت. ولكن، آه - يا صاحبي - لقد عجزت الفلسفة عن أن تسوّى منك رجلاً آخر غير الذي كان منذ سنين، إلا أن تلوي لسانك بكلمات لاتينية فتزيدك عيّا على عيك، إلا أن تشوب لهجتك لكنة أعجمية بغيضة إلى القلب والنفس فتضيف حمقاً إلى حمق فيك، وإلا أن تجهر بآراء هدّامة تحسبها حديثة مبتكرة فتضم سفهاً إلى سفه فيك. ثم. . . ثم جلست إلى في ندوة ثقافية في القاهرة تحدثني بآرائك قائلا (أنا ابن الطبيعة وثمرة الحرية فدعني أهم في أرجاء الأرض لا يقيدني وطن، ولا يمسكني دين، ولا تربطني لغة. دعني أنطلق منها فهي أغلال ثقال تشل عقلي وتصعق خواطري وتبعث بأفكاري) فعجبت أن يكون هذا حديثك وأنت ابن الريف وثمرة الغيط وربيب الدين!

ماذا دهاك يا صاحبي؟ أفكان لسنتين أن تحولا عقلك من حال إلى حال فتنزل عن كرامتك وتنبذ المعاني السامية للوطن والدين واللغة، على حين قد عشت نيفا واربعين سنة في وطنك، عشتها جميعا نتنقل بين المدينة والريف، وأنت في المدينة لا تحس إلا العمل الشاق المظنى وإلا هذا الزقاق الضيق القذر الذي تسكن في ناحية منه، وأنت في الريف لا ترى إلا اهلك وهم من أواسط الناس وإلا دارك وان رائحة الروث لما تبرح تتأرجح في جنباتها. يا عجباً! فما بال الشباب يذهب إلى هناك ليعيش سنوات وسنوات، وهو في ثورة الشباب وفورة الصبا، يستمتع بالقوةوالتراث ويتألق في النضارة والذكاء. . . ما باله إلى وطنه فلا تحس في لسانه التواء ولا في كلامه لكنه ولا في آرائه جفوة، على حين أنه بلغ غاية العلم وتسنم ذورة الفلسفة.

قد كان لي أن أقول: لعل أضواء المدينة في الغرب قد خلبتك فمشى بصرك فما عدت ترى في الشرق إلا ذبالة توشك أن تنطفئ، أو لعل نور الثقافة الإفرنجية قد سلبك عقلك فما أصبحت تلمس هنا - في الشرق - إلا ظلمات من الجهل تكثف بعضها فوق بعض، أو لعل بهرج الحضارة هناك قد طمس على قلبك فرحت تحتقر الوطن والدين واللغة. . . قد كان لي أن أتلمس لك عذراً في شيء من هذا لو أنك أخذت منها بنصيب أو ضربت فيها بسهم، ولكنك عشت هناك على حيد الحياة لا ترى إلا الكتاب والدرس والحجرة، ولا تحس إلا العمل المرهق، ثم. . . ثم الوحدة والحرمان.

ورجعت - يا صاحبي - إلى وطنك لتتلقفك قيودك من جديد. ولكن القبعة التي لبست ترفعت عن القرية وتسامت عن الريف، وأبوك شيخ همّ عصفت به السنون فانحطت قوته ووهى جلده فهو يرنو إلى عطفك ويصبو إلى حنانك، وأمك عجوز شمطاء قد عبث بها الزمن فتقوس ظهرها وسقطت أسنانها فهي تهفو إليك، وقلبها يرف حواليك. لقد ترفعت القبعة عن القرية في حين أنها تعبدك لرئيسك القديم واستخذت لعميد المعهد الأجنبي. وهكذا تحررت من قيدين لترسف في قيدين.

وجاءك رسول أبيك يقول لك (إن أباك يكاد يلفظ آخر أنفاسه، وإنه ليهتف باسمك بين الحين والحين، وهو في غمرة المرض ووطأة الحمى. . .) وأصغيت إلى الحديث - يا صاحبي - بأذنك، وقلبك في شغل لا يحس معنى الإنسانية؛ فما انطلقت إلى القرية إلا حين جاءك البرق يقول (مات أبوك اليوم) مات أبوك وفي قلبه شوق يتأجج لأن يرى ابنه العاق.

وجلست إليك أمك في ضعفها وشيخوختها تستجدي عطفك ورجولتك، فأصغيت أنت إلى حديثها بأذنك، وقلبك في شغل لا يحس معنى الإنسانية. وجرفتك كبرياء القبعة فاستوليت على ميراثك من أبيك وهو ضئيل، ثم طرت عن القرية إلى الأبد لتذر أمك وحدها. . .

وجئت أنا - بعد أيام - لأعزيك في أبيك، فألفيتك تبسم - لأول مرة في حياتك - وأنت مسفر الوجه طلق المحيا. لقد كان يخيل إلى أنني سأراك منكسف البال شارد الذهن وقد أرمضك الحزن وهدّك الأسى، يفريك الندم على أن قصرت في حق أبيك، وامتهنت أمنيته الأخيرة وهو على فراش الموت. فما بالي أراك في نشوتك وسرورك لا يعنيك إلا أن تظفر ببعض ماله؟ لقد تراءيت في ناظري رجلاً نزل عن رجولتك وإنسانيته وكرامته في وقت معاً، فكرهتك واحتقرتك.

يا لقلبي! إن في الحياة أناساً يتشحون بثوب الإنسان وإن ضلوعهم لتنضم على مثل روح الثعلب! آه لو انسلخوا من إهابهم لتكشف نفوسهم عن مثل نتن الجيفة!

وهناك، في البلد الأجنبي، تعلمت فلسفات ثلاثاً نبعث كلها من القبعة التي لبست بعد أن نيّفت على الاربعين: فلسفة العقوق والجمود، وفلسفة الكفران والكنود، وفلسفة الاستسلام والخضوع. . .

وتلقفك هنا رئيسك وعميدك معاً. أما رئيسك فموظف كبير في الحكومة ذو شأن ومكانة، وأما عميدك فرجل أجنبي ذو جاه وسلطان. وتنازعك الرجلان حيناً، ثم ظفر بك العميد. ظفر بك لتتحدث بلسانه وتفكر برأيه وتتفلسف بعقيدته، ولتنفث سموم جنسه في شباب الجيل، ولتعلم النشء أن القبعة شيء مقدس يستهوي العقل ويسجد له الفكر، على حين أنها شيطان يتوثب مكراً وخداعاً.

وجلست إلى تلامذتك توحي إليهم بفلسفة القبعة. وبدا لأعينهم ما يتوارى خلف كلماتك فتلاقت نظراتهم في عجب، وتقابلت ابتساماتهم في سخط، ثم انصرفوا من لدنك وعلى ألسنتهم كلمات الاحتقار والسخرية. لقد سخروا منك أنت أيها الفيلسوف العظيم لأنك أردت أن تمكر بهم وتستلبهم من الوطن والدين واللغة فما انطلى عليهم أسلوبك ولا خدعتهم فلسفتك. وقال واحد منهم: إن أستاذنا الفيلسوف قد لبس القبعة ذات مرة. . . لبسها لينزل عن كرامته، ولينبذ المعاني السامية للوطن والدين واللغة. . .

كامل محمود حبيب