مجلة الرسالة/العدد 829/تعقيبات

مجلة الرسالة/العدد 829/تعقيبات

ملاحظات: بتاريخ: 23 - 05 - 1949



للأستاذ أنور المعداوي

شاعرة حائرة تسأل عن الفن والحياة:

أحييك وأهنئك، فقد سموت بفن النقد الذي لم نكن نعرف عنه سوى أنه أما مدح أو تملق يحط من كرامة الكاتب، وأما ذم وتحقير مغرض لا هوادة فيه ولا رحمة. . . لقد أعجبني وأفادني مقالك عن الأستاذ توفيق الحكيم تحت عنوان (الفن بين واقع الفكر وواقع الحياة) ولكنه لسوء الحظ ساءني وأفزعني!

لقد قرأته مراراً ثم قلت لنفسي: إذا كان إنتاج الأستاذ الحكيم قد تأثر بسبب انطوائه على نفسه وابتعاده عن الحياة، وإغلاقه (تلك النافذة المفتوحة التي كان يطل منها على ميدان الحياة الفسيح المترامي أمام عينيه)، إذا كان هذا قد حدث مع الأستاذ الحكيم فكيف آمل أنا أن أكون شاعرة ناجحة؟! أنا ربيبة الانطواء المرير والعزلة الطويلة، أنا التي لم أرى العالم ولم أعرف المجتمع إلا عن طريق الصحف والكتب والخيال!

لقد كان أملي في الحياة أن أتعلم إلى آخر مرحلة من مراحل التعليم، ولكنني حين أتممت تعليمي الثانوي بوحش ضار أعترض طريقي إلى الجامعة وقال بصوته الرهيب: إلى أين أيتها الحالمة؟ قلت إلى الجامعة. قال: حذار وإلا أشقيت أسرتك، ألا تعلمين أن سلطاني عليهم عظيم؟ وأنني سأقلق مضاجعكم جميعاً إذا لم تتبعوني؟ وسألته واجفة خاشعة: ومن أنت أيها السلطان الجبار؟ قال: أنا سلطان التقاليد: تفقدت الوجوه الواجمة من حولي وعز علي وجومها، وقلت لن ألتحق بالجامعة ولأكن كبش الفداء. . . وما أنا بأول ضحية من ضحايا التقاليد ولم تئن تلك المحنة القاسية من عزيمتي وداومت على القراءة ليلاً ونهاراً. . .

وأخيراً أخذت الغيوم الكثيفة تنقشع عن سمائي، وأذن لي بنشر شعري بالجرائد اليومية. ولكنني ما كدت أشعر بالسعادة وبأن حلم حياتي قد تحقق حنى هب الكثيرون والكثيرات يهيبون بي أن أترك انطوائي وعزلتي، وأن أخرج إلى المجتمع وأن أتردد على زيد وعبيد من كبار الكتاب والشعراء. وقيل لي إن لم تفعلي ذلك فسينحط إنتاجك وينضب معينك. ومما زاد في شقوتي وارتباكي وكاد أن يطيح بي إلى هوة سحيقة من اليأس القائل ما أقرأه لك حول هذا المعنى في هذه الأيام. فهل من المحال أن يكون الأديب أو الشاعر قديراً ناجحاً ما دام منطوياً عل نفسه بعيداً عن دنيا الناس؟ وهل الكتب لا تكفي ولا يمكن لأن تكفي ليكون الإنسان مثقفاً كما يقول الدكتور مندور؟

إذا كانت هذه هي الحقيقة فيا لمرارتها ويا لقسوة المقادير ويا لظلم التقاليد!. إذا كانت هي الحقيقة فسلام علي وفي ذمة الله آمالي وأحلامي ومستقبلي الأدبي لقد حلمت به السنين الطوال!

إن رجائي الحار هو أن تجيب عن هذين السؤالين على صفحات مجلتي الحبيبة (الرسالة) ولست أدري لماذا أشعر شعوراً قوياً أنك لن تخيب رجائي ولن تهمل الرد علي.

شاعرة حائرة

إنسانة فنانه، وشاعرة حائرة. . . وكلمات أحس فيها لوعة القلب وألمس حيرة القلم، وأكاد أشم رائحة الدموع! وأعود بذاكرتي إلى الوراء وأستعرض ما قرأت من شعر على صفحات الجرائد اليومية، عسى أن أضع يدي على مفتاح هذه الشخصية المجهولة التي تعرض على قضيتها في انتظار الجواب. . . وقد يسأل سائل عن سر هذا الاهتمام فأقول له: أنه شغف الملكة الناقدة بتتبع سير الحياة الأدبية، والكشف عن ظواهر هذه الحياة، والربط بين شخصية الكاتب وما كتب!

وأقف في الذاكرة طويلاً عند صحيفة من صحف المساء، لأسترجع عن طريق التمثل الفكري بعض ما كنت أقرأ فيها من شعر لآنسة مجهولة. . لآنسة كانت ترمز إلى شخصيتها بالحروف الأولى من أسمها ولا تزيد! لماذا لا تفصح عن أسمها صاحبة هذا الشعر؟ لماذا أحس في روحها هذه التهويمات التي يئن فيها النبض وتختنق العاطفة؟ لماذا تهب علي من شعرها رائحة الفن السجين؟ أسئلة لم أكن أجد لها غير جواب واحد أطمئن إليه، هو أن صاحبة هذا الشعر إنسانة منطوية على نفسها قد فرضت عليها التقاليد أن تبتعد عن الحياة!.

وكم قلت لنفسي: هنا أقباس من وهج الشاعرية ولكن لماذا تطل من تحت الرماد؟ وهنا جناح يملك القدرة على التحليق ولكن لماذا تحد الرياح من رفاته؟ وهنا روح تود أن تنطلق، ولكن لماذا المح في انطلاقها أثر القيود والأصفاد؟! هذه الخواطر التي كانت تجيش في النفس منذ حين قد ردتني إليها اليوم رسالة الشاعرة الحائرة، وجعلتني أتساءل بيني وبين نفسي: ترى أتكون صاحبة هذه الرسالة التي تلقيتها منذ أيام هي صاحبة الشعر الذي طالعته في إحدى صحف المساء منذ أسابيع؟ إن الروح هي روح ممثلة في التحدث إلى الحياة من وراء حجاب، وأن اللوعة هي اللوعة مصورة في شكوى التقاليد وظلم التقاليد. . . رباه، هل يقدر لهذه الإنسانة الفنانة أن تحطم قيودها يوماً ما، وأن تستشعر حرارة الحياة كما يستشعرها كثير من الأحياء؟!

إنها تسألني هل من المحال أن يكون الأديب الشاعر قديراً ناجحاً ما دام منطوياً على نفسه بعيداً عن دنيا الناس.؟

إن الجواب يا آنستي هو أن الفن بعيداً عن الحياة جسد تنقصه الحركة، وفكرة يعوزها الروح، ولوحة تخلو من الأضواء والظلال. . والفن كما قلت غير مرة ما هو إلا انعكاس صادق من الحياة على الشعور، ولن يتحقق الصدق في الفن ما لم يستخدم الفنان كل حواسه في تذوق الحياة: يرقب، ويتأمل، ويهتك الحجب، وينفذ إلى ما وراء المجهول. فإذا استطاع أن ينقل كل ما يلهب الخيال فيها إلى لوحات من التصوير الفني فهو الفنان. . . وإذا استطاع أن ينقل إلى هذه اللوحات كل ما في القلب الإنساني من نبض وخفوق فهو الفنان الإنسان. وعلى مدار القوة والضعف خفقت القلب ودفقه الحياة يفترق العمل الفني عن مثيله في كل فن من الفنون!

الحياة يا آنستي هي المنبع الأصيل لكل أثر من آثار الفن يترك ظله في النفس وبقاءه على الزمن، في أدب الكاتب، في شعر الشاعر، في لحن الموسيقار، في لوحة الرسام! لتكن الحياة نقمة أو نعمة، لتكن مأساة أو ملهاة، لتكن ألماً أو لذة، لتكن دمعة أو ابتسامة. حسب الفن يعبر عن الحياة فيصدق في التعبير، وحسبه أن يترجم عن رؤية العين وإحساس القلب فيسموا بالأداء! (أدولف) لكونستان، (آلام فرتر) لجيته (مانون ليسكو) لبريفوست، (رفائيل) للإمرتين، (البعث لتولستوي، (نانا) لإميل زولا، (أرض الميعاد) لأندريه موروا (الباب الضيق) لأندريه جيد. . . كل تلك الآثار القصصية وما يماثلها في أدب الغرب قد تنفست فيها الحياة فعبقت بعطر الخلود.

آلام بتهوفن التي صبها في أنغامه خالدة لأنها من الحياة، لذات بايرون التي تدفقت في أغنياته خالدة لأنها من الحياة، دموع هايني التي ترقرقت في أناته خالدة لأنها من الحياة. . . وقولي مثل ذلك عن بسمات جورج صاند وتشاؤم ليوباردي وصرخات بودلير

وإذا ما تركت الأدب والشعر والموسيقى إلى التصوير، فهناك لوحات من كتب لها البقاء ما بقيت الحياة التي ألهمت الريشة المبدعة وأوحت إلى الخيال الوثاب. . . ترى هل سعدت بالوقوف لحظات أمام (الجيوكندا) لدافنشي، و (الربيع) لبوتشيلي و (الخريف) لهالي نويل و (الحرية تقود الشعب) لدلا كروا، و (وحي الشاعر) لبوسان و (حارس الليل) لرامبرانت و (نجوى الرعي) لبوشيه و (الينبوع) لآنجر؟

الحياة يا آنستي هي الدعامة الأولى التي يقوم عليها كل بناء فني جدير بالخلود. . . هي النهر الجبار المتدفق وكل ما عداه روافد هي البذرة النادرة التي تنشق عنها تربة الفن فإذا الغصن المزهر والثمرة الناضجة!

وتسألينني هل الكتب لا تكفي ولا يمكن ن تكفي ليكون الإنسان مثقفاً؟. . . إن جوابي عن هذا السؤال هو أنها لا يمكن أن تكفي لسبب واحد هو أن ثقافة من هذا الطراز يشوبها النقص ويعتريها القصور؛ لأنها تفقد عنصراً خطيراً هو عنصر التطبيق على الحياة! كيف تستطيعين أن تتذوقي آثر الفن وأنت بعيدة عن منابعه؟ وكيف تستطيعين أن تحكمي على نتاج القرائح وليس بين يديك لا قاعدة ولا ميزان؟ إن الثقافة يا آنستي ليست قراءة فحسب، ولكنها فهم وتذوق وهضم وتطبيق واستيعاب. . . وحياة من وراء هذا كله تعين الذهن على الإحاطة، وتسعف الحواس على التوهج، وترفع من القيم المواهب والملكات!

معذرة يا آنستي فهذه هي الحقيقة. . . ومع ذلك فلا موجب لهذا اليأس الذي ألهب مني الشعور في كلماتك في كلماتك، إنني أشعر شعوراً عميقاً بأن القيد سيتحطم يوماً ما، وعندئذ يمكنك أن تستشعري حرارة الحياة كما يستشعرها كثير من الأحياء!

رأي في مقدمة (أوديب الملك) حول الفلسفة الإسلامية:

كتب الأستاذ سيد قطب - رد الله غربته في الوطن والروح - كتب في عدد (الرسالة) الماضي موجهاً حديثه إلى الأستاذ توفيق الحكيم: (فكرة أريد أن أصححها عن (الفلسفة الإسلامية) كما يصورها ابن رشد وأبن سينا والفارابي فقد ألممت بهذا في بحثك الممتع الطويل. إن هذه الفلسفة قد تصح تسميتها (الفلسفة الإسلامية) بمعنى أنها وجدت في أرض إسلامية على يد أفراد مسلمين. ولكن يكون من الخطأ العميق اعتبارها (فلسفة الإسلام)، وقد آن أنصحح هذه الغلطة القديمة الحديثة! إن فلسفة هؤلاء الفلاسفة إن هي إلا انعكاسات الفلسفة الإغريقية في ظل إسلامي. وهي لا تبلغ أن تصور الفكرة الكلية للإسلام عن الكون والحياة والإنسان. هذه الفكرة الخالصة الكاملة المتناسقة)!

معذرة يا صديقي إذا قلت لك إن هذه الفكرة عن (الفلسفة الإسلامية) قد صححت في أحد أعداد (الرسالة) منذ ثلاثة أشهر عندما تناولت بالنقد مقدمة (أوديب الملك) في (التعقيبات) ولقد قدر لهذه الغلطة القديمة الحديثة أن ترد إلى الصواب في هذه الكلمات التي لم تطلع عليها لبعدك عن أرض الوطن حيث قلت: (ثم يقول الأستاذ الحكيم في موضع رابع إن فلاسفة العرب قد صبغوا آثار أفلاطون وأرسطو بلون تفكيرنا وطبعوها بطابع عقائدنا. . . في رأيي أ، شيء من هذا لم يحدث، إن كل ما فعله فلاسفة العرب هو أنهم نظروا في الفلسفة اليونانية فنقلوا بعض ما فيها من آراء ومذاهب نقلاً يحفل بالخلط والتشويه؛ ذلك لأنهم حاولوا أن يوفقوا بين تعاليم الفلسفة اليونانية وبين تعاليم الدين الإسلامي فكانت محاولة انتهت بأصحابها إلى الإخفاق. أما الإخفاق فمرجعه إلى بعد الشقة بين العقلية اليونانية والعقلية العربية من جهة، وبين منهج الفلسفة اليونانية ومنهج الديانة الإسلامية من جهة أخرى. . . ومن هنا كانت الفلسفة الإسلامية خليطاً عجيباً من أفكار مضطربة لا تقترب كثيراً من الدين ولا من الفلسفة)

بقي أن أبعث إليك بعاطر الشوق على صفحات (الرسالة) وبخالص الشكر على تفضلك بإهدائي كتابك الجديد القيم عن (العدالة الاجتماعية في الإسلام)

ثلاثة كتب لأحمد الصاوي محمد

صديقي الأستاذ أحمد الصاوي محمد وهبه الله قدرة على الإنتاج لا تحد، واستجابة لدعاء القلم لا تنتهي، وجلداً على إرهاق العمل لا يعتريه وهن ولا فتور؛ فهو لا يكاد يفرغ من كتاب يقدمه إلى القراء حنى يدفع إلى المطبعة بكتاب آخر. . . أستنفر الذاكرة بل بكتب أخرى تنقل إلى الشرق كثيراً من روائع الغرب!

من هذه الكتب التي ظهرت له منذ قريب (كفاح الشباب) و (مآسي الشباب) و (زواج الشباب)، ومن قبلها بضعة وعشرون كتاباً في شتى ألوان الأدب والفن. . . وبهذا الإنتاج الضخم يشارك الصاوي في بناء نهضتنا الثقافية بدعائم من الجهد الأدبي الجدير بالإعجاب.

وكتب اليوم الثلاثة التي تعرض لكفاح الشباب ومآسيه صور من الحياة وللحياة. . . يصبها الصاوي في قالب قصصي ممتع يحتفظ بروح الوقع المحس، داخل إطار من طلاوة العرض والتحليل والأداء. هي فصول نشرها في (أخبار اليوم) يوم أن كان يدرس مشكلات الشباب من رسائلهم إليه، ليقدم العلاج في رأي يدلي به أو نصح أو مشورة؛ ومن هنا جاءت هذه المجموعة التي تنتظم كتباً ثلاثة هي (كفاح الشباب) و (مآسي الشباب) و (زواج الشباب)، جاءت كما يقول الأستاذ الصديق في مقدمته: (اسطع نبراس للشباب المتطلع لحياة أفضل وأنفع وأكرم، وأثمن مرجع للمصلحين الحريصين على توجيه شباب الجيل وتقويمه ونفعه ليكون جديراً بوطنه).

مشكلة في حياتنا الأدبية:

يقول الأديب الإسكندري الفاضل عمر عبد السلام مجاهد في رسالة بعث بها إلي: (يا أخي في يدك قلم وفي كتابك عمق وحياة، فلماذا لا تخرج كتاباً في الأدب أو الفن أو النقد تمدنا فيه بمثل هذه الأفكار التي تطالعنا بها في مقالاتك وتعقيباتك؟ إن هذه الرغبة ليست رغبتي وحدي ولكنها كما أعتقد رغبة الكثيرين من المعجبين بك).

أود أن أجيب الأديب الفاضل بعد شكره على حسن ظنه وجميل رأيه بأنني قد فكرت في هذا الأمر أكثر من مرة، ولكنني اقتنعت أخيراً بأن الأحجام خير من الأقدام، لماذا هذه هي المشكلة التي سأتناولها في الأسبوع المقبل بالعرض والتحليل؛ وهي مشكلة لا تتعلق بي ولكنها تتعلق بهذا الجيل من القراء!

أنور المعداوي