مجلة الرسالة/العدد 830/الأعلام والرايات
مجلة الرسالة/العدد 830/الأعلام والرايات
للأستاذ أحمد رمزي بك
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
السلطان وأتباعه من الملوك المتغلبين:
كان أولَ من ملك مع خلفاء الإسلام وتلقب بالسلطان هم بنو بويه، ثم جاءت دولة آل سلجوق ففاق ملوكها من تقدمهم وأصبحت دولتهم إمبراطورية ضخمة، خطب لملوكها فيما بين الصين وأسوار القسطنطينية، ثم ظهر في أنحائها المختلفة أتباعها وهم:
بنو طفتكينبالشام
بنو قطلميشببلاد الروم
بنو سكمانبخلاط وأرمينية
بنو ارتقبماردين
بنو زنكيبالشام
بنو أيوببمصر والشام
ثم التركالذين ورثوا ملك مصر
ويهمنا منهم أمر زنكي: لأن صاحب النجوم الزاهرة يقول (أنشأ بنو زنكي بني أيوب سلاطين مصر وأنشأ بنو أيوب دولة الترك وأول ملوكهم الملك المعز (أيبك). فانظر إلى أمر الدنيا وكيف أن كل طائفة سبب نعمة طائفة)
وتم هذا التسلسل في سيادة الممالك وتولي أراضيها وكل بيت جاء من أتباع من تقدمه وأصل الأتابكة أي آل زنكي هو قسيم الدولة آق سنقر وكانت تركيا من أصحاب السلطان ركن الدين ملكشاه ابن ألب أرسلان السلجوقي.
وكان آق سنقر من أتباع هذا السلطان.
وبدأ ملكه في حلب والذي أشار بتوليته هذه المدينة الوزير نظام الملك.
وكان ملكشاه هذا من جملة الملوك السلجوقيين المتغلبين على البلاد.
إذن كانت ولاية البيت الأتابكي في نطاق الدولة السلجوقية، واستمرت هذه التبعية قائمة مدة زنكي وفي أيام نور الدين الشهيد، وهي العلاقة القائمة بين التابع والمتبوع. كانت تنكمش أحياناً حتى لا تصبح شيئاً ثم تظهر في ترتيب المملكة وقواعدها ومردُّ ذلك إلى سلطة المتغلبين على الأراضي التي يفتحونها أو يستولون عليها. وبقدر ما يزيد استقلالهم يزيد تمسكهم بتقليد من كانوا هم تابعين لهم في أبهة الملك والسلطنة وأخصها الأعلام وترتيب الجيوش ونظام الإقطاع.
وتبدو هذه التبعية في ثنايا التاريخ غير واضحة تماماً فيما كتبه مؤرخو مصر والشام، ولكن مؤرخي المشرق، أقصد بذلك بغداد وما يليها من الأقاليم يتحدثون عنها في فقرات متباعدة.
ومن قبل هذا ما جاء في ابن الجوزي عن حوادث سنة 538 من أن العلاقات ساءت بين السلطان وزنكي، حتى جمع الأول العساكر لقصد الموصل والشام وترددت رسل زنكي (حتى تم الصلح على مائة ألف دينار تحمل في ثوب فحمل ثلاثون ألفاً ثم تقلبت الأحوال فاحتيج إلى مداراة زنكي وسقط المال وقيل بل خرج ابن الأنباري فقبض المال).
ولو شئنا تفصيل هذه العلاقات لخرجنا عن موضوعنا إلى دراسة الإمبراطورية السلجوقية وعلاقاتها مع التابعين لها، ومع ذلك أنقل فقرة لتفسير ما جاء في ابن الجوزي فنحن نعلم أن زنكي وجد ولايته وقد أحدق بها الأعداء والمنازعون من كل جانب. الخليفة المسترشد والسلطان مسعود وأصحاب أرمينية وأعمالها وبيت سكمان وركن الدولة داود صاحب حصن كيفا وابن عمه صاحب مردين ثم الفرنج صاحب دمشق.
ولذلك جاء في أعلام النبلاء نقلا عن الروضتين (أن زنكي كان ينتصف منهم ويغزو كلا منهم في عقر داره ويفتح بلادهم ما عدا السلطان (مسعود السلجوقي) فإنه لا يباشر قصده، بل يحمل أصحاب الأطراف على الخروج عليه فإذا فعلوا عاد السلطان محتاجاً إليه، وطلب منه أن يجمعهم على طاعته) وفي هذا تفسير الحاجة إلى مداراته.
ودليلي على أن الخلافة كانت تنكمش أحياناً فلا تملك من الأمر شيئاً أمام سلطان السلاجقة والمتغلبين وأن سلطان هؤلاء كان ينصرف إلى السيطرة على أراضي الممالك، وهذا ما أجاب به الخليفة سنة 530 حينما طالبه زنكي بمال لتجهيز الجند إلى واسط إذ قال (البلاد معكم وليس معي شيئا فاقطعوا البلاد) أي أعيدوا توزيعها.
من هذا يتضح أن الخلافة العباسية أصبحت في ذلك الوقت مظهراً دينياً أكثر من أن تكون صاحبة قوة وغلبة، وأن شعائرها هي شعائر الخليفة السني العباسي وإن مبادرة السلاطين والملوك إلى الحصول على تقليد الخلافة، كان القصد منه أن يرتكز الملك والفتح على أسس شرعية متفقة مع قواعد الدين: لا الخضوع إلى ملك العباسيين والإقرار بسيادتهم الفعلية.
فنور الدين حينما يرسل صلاح الدين لفتح مصر، يفهم أنه يمد في سلطانه وهذا في حرصه على الاستقلال بمصر لا يجهر بما يبيته في نفسه، بل يحتفظ بمظاهر التبعية في شعار المملكة وترتيبها، كما كان يحرص الأتابكة في الاحتفاظ بمظاهر التبعية لآل سلجق ما دام هؤلاء على شيء من القوة والعظمة، فإذا ضعف السلاجقة أو الأتابكة أخذوا البلاد لأنفسهم وحصلوا على إقرار الخليفة كما حصل من قبلهم آل سلجوق على الملك والسلطنة.
وفي ذلك يقول صاحب صبح الأعشى (واعلم أن الدولة الأيوبية لما طرأت على الدولة الفاطمية وخلفتها في الديار المصرية خالفتها في كثير من ترتيب المملكة وغيرت غالب معالمها وجرت على ما كانت عليه الدولة الأتابكية عماد الدين زنكي ثم ولده الملك العادل نور الدين محمود بالشام).
وألمس أن الأتابكة لم يبتدعوا بل ساروا على سنن السلاجقة في كل ما استحدثوه من أنظمة ثم كانوا حريصين على أن يحتفظوا بمظاهر السلطنة السلجوقية في الأعلام والرايات وأنظمة الجند والإقطاع وغير ذلك. بل كان اتخاذ الأعلام السلجوقية مما يقوي مركزهم ويجعلهم مساوين لأصحاب هذا العلم ثم جاء صلاح الدين فنحى نحوهم واتخذ شعائر السلطنة على أعلامه ابتداء من فتح حلب كما سيأتي.
الأعلام:
حدد صاحب صبح الأعشى هذه الأعلام بقوله (هي عدة رايات منها راية عظيمة من حرير أصفر مطرزة بالذهب عليها ألقاب السلطان واسمه وتسمى العصابة وراية عظيمة في رأسها خصلة من الشعر تسمى الجاليش ورايات صفر صغار وتسمى الصناجق).
والدخول في شرح هذا التقسيم واستعمال كل نوع وأصله مطلب صعب المرتقى، ولكني أكتفي بالإشارة إلى أن استعمال هذه الأعلام كان من عمل الدولة الكبرى أولاً أي من شعائر الدولة السلجوقية قبل أن يستعملها ملوك مصر من الترك أو الأيوبيين أوآل زنكي الذين كانوا في ذلك مقلدين لا مبتدعين.
قال السلطان عماد الدين صاحب حماة في تاريخه: (وأول من حمل السنجق على رأسه من الملوك في ركوبه غازي ابن زنكي وهو أخو السلطان نور الدين محمود ابن زنكي صاحب الشام).
ونقل هذا صاحب صبح الأعشى فقال: (إن غازي أحدث حمل السنجق على رأسه فتبعه الملوك في ذلك وألزم الجنود أن يشدوا السيوف إلى أوساطهم ويجعلوا الدبابيس تحت ركبهم عند الركوب).
ويفهم عن عبارته أنه اخترع هذا الشعار الذي أخذ به بعده أبناء عمه في الشام، ولكن صاحب النجوم الزاهرة يقول: (الملك غازي ابن زنكي بن آق سنقر التركي أخو السلطان نور الدين محمود الشهيد الأتابكي هو أول من حمل السنجق على رأسه من الأتابكية ولم يحمله قبله لأجل ملوك السلجوقية).
ويقول صاحب عقد الجمان (وهو أول من حمل على رأسه السنجق من أصحاب الأطراف فإنه لم يكن فيهم من يفعله لأجل السلاطين السلجوقية).
إذن كانت الأتابكية أقل من السلطنة وكان أصحابها من ملوك الأطراف وكانوا يتحاشون الأخذ بمظاهر السلطنة، التي هي من حق ملوك آل سلجوق الذين لهم وحدهم هذا بانتمائهم إلى البيت المالك الذي يمثل سلطان السلاطين كما يفهم أن ملوك الأطراف كانوا يحاولون أن يتشبهوا بمن هم أعلى منهم، وأن هؤلاء كانوا يمنعونهم من ذلك حتى لا يرقوا إلى مرتبة تقرب من مرتبة من يتولى الرياسة والصدارة بين السلاطين لأن استعمال شعار السلطنة معناه التساوي في المرتبة والقوة.
ويظهر من كلام فضل الله في عهد دولة المماليك الأتراك: (أن من عادة السلطان إذا ركب يوم العيدين ويوم دخول المدينة يركب وعلى رأسه العصائب السلطانية وهي صفر مطرزة بألقابه وترفع المظلة على رأسه وهي قبة مغشاة بأطلس أصفر مزركش عليها طائرة من فضة مذهبة يحملها بعض أمراء المئين وهو راكب فرسه إلى جانبه وأمامه الطبردارية مشاة وبأيديهم الأطبار).
ويعلق صاحب المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة ناقل هذه الفقرة بقوله: (العصائب المذكورة حرام وقد بطلت الآن والحمد لله) مما يدل كراهية الناس لها النوع من مظاهر الأبهة المأخوذة من ترتيب ممالك آل سلجوق وبني بويه وغيرهم.
ولكن اللون الأصفر بقى حتى نهاية استقلال مصر بل وأدخل على المظلة وهي من بقايا ترتيب الفاطميين مع أنها من صميم المراسيم المصرية وليست من تقاليد ملوك الشرق من الأتراك وغيرهم.
اللون الأصفر واللون الأسود:
الذي أمكنني استخلاصه هو أن اللون الأصفر أصبح شعار السلطنة والأسود استمر للخلافة بل أن العصائب أصبحت في بعض الأحيان من تقاليد الخلافة في مصر: وهذا من أغرب ما أدخل من شعائر الملوك المتغلبين على نظام الخلافة المفروض أن يستمر عريقاً في تمسكه بمراسم الأبهة العباسية ولا يأخذ بمظاهر أجنبية عن العروبة والإسلام. فمن ناحية اللونين والعلمين أشير إلى ما جاء في السلوك.
(إن رسل ملك القبجاق وصلت إلى مصر ومعهم كتاب بالخط المغلي يتضمن أنه أسلم ويريد أن ينعت نعتاً من نعوت الإسلام ويهجز له علم خليفتي وعلم سلطاني يقاتل بهما أعداء الدين).
وجاء في تاريخ أبي الفداء من حوادث ربيع الآخر سنة 732 هجرية حينما جاء ابن أبي الفداء بعد وفاة والده إلى القاهرة في ربيع آخر سنة 732 هجرية.
(ركب بشعار السلطنة الملك الأفضل الحموي بالقاهرة، وبين يديه الغاشية، ونشرت العصائب السلطانية والخليفية على رأسه وبين يديه الحجاب وجماعة من الأمراء وفرسه بالرقبة وأمامه الشبابة وصعد إلى القلعة) وفي هذا تصديق لما بدأ به هذا البحث من قيام شعارين.
فلا محل إذن للتساؤل عن اللون الأسود العباسي وعدم اختياره للأعلام في مصر بعد زوال الدولة الفاطمية إذ أن ولاية الأيوبيين كانت مرتكزة على آل زنكي وهؤلاء يتبعون آل سلجوق ويتقلدون بهم ولذلك لما دخل صلاح الدين حلب وتيقن من ثبوت ملكه (نشر سنجق السلطان الأصفر على سور القلعة وضربت له البشائر).
فهو قد شعر في هذه اللحظة بقوته، ونحا نحو السلاطين من آل سلجوق، وطمع في أن يعامل مثلهم، فاتخذ شعارهم وجعل علمه أصفر اللون، وهو علم السلاطين الذين يسيطرون على الأرض، وطمع أن يصل إليه التقليد من خليفة بغداد بإقامته سيداً على الأراضي والممالك التي دانت له.
تراث الدولة السلجوقية:
إنني لا أزعم أن آل سلجوق ابتدعوا كل شيء، بل أقول إن طبيعة الأشياء تحتم أنهم أخذوا ممن تقدمهم أشياء ليس بوسعي تحديدها بواسطة ما لدي من مراجع، وإنما عمل الباحثين سواي موالاة البحث عنها، ولكني أقول أن أثرهم كان كبيراً في ترتيب نظام الممالك التي جاءت من بعدهم: وأقول أن نظام الإقطاع في التاريخ الإسلامي لن يقدّر له البحث العلمي الصحيح بدون أن نلم بأصل هذا النظام في أواسط آسيا ونرجع إلى نشأته الأولى.
وكذلك نظام الجيوش وتعبئتها ومراتبها تأثرت إلى حد كبير بما أدخله السلجوقيون، ولن تقدر قوة دولتي المماليك العسكرية بدون أن نلم بما كانت عليه أنظمة جيوش السلاجقة.
ولم يكن أثرهم قاصراً على مصر والشام بل شمل الجزء الشرقي من العالم الإسلامي وأخذ به ملوك خوارزم من بعدهم (ولما ملك صلاح الدين الديار المصرية جرى على منهجهم أو ما قاربه وجاءت الدولة التركية وقد تنقحت المملكة وترتبت فأخذت في الزيادة وفي تحسين الترتيب وتعضيد الملك وقيام أبهته، ونقلت عن كل مملكة أحسن ما فيها، فسلكت سبيله ونسجت على منواله حتى تهذبت وترتبت أحسن ترتيب وفاقت سائر الممالك وفخر ملكها على سائر الملوك).
وفي ذلك يقول الأستاذ فييت: (إن سلاطين المماليك كانوا الوحيدين الذين نجحوا في تاريخ مصر في تأسيس إمبراطورية ضخمة).
أما تفسير اختيار الراية الصفراء الذي أشار إليه بيبرس في كتابه إلى بومند صاحب طرابلس الشام بقوله (إن رايتنا الصفراء قد علت على رايتكم الحمراء وسادت الأرض) فأرده إلى أواسط آسيا حيث منبت السلاجقة، فقد وجدت في كتاب (تاريخ مدنية الأتراك) تأليف (ضيا كوك ألب) إن الأتراك اتخذوا لعناصر الحياة: الماء والتراب والنار ألواناً: فالسواد للماء والبياض للنار واللون الأصفر للأرض وقال (طوبراغك رنكي صاريدر).
فهل اتخذت الراية الصفراء من القدم شعاراً لسلطان الأرض؟ إنه ليصعب علي أن أقرر شيئاً من ذلك، حتى بعد المعلومات المتفرقة التي وضعتها أمام القارئ، لأن ما نعلمه عن آل سلجوق وبني بويه وآل سبكتكين وغيرهم من المتغلبين لا يزال في حاجة إلى الجمع والتبويب والتنظيم.
وإن كنت أقرر أن بحث نظام الإقطاع في تلك الأزمان سيفتح لنا حتما الطريق الذي يوصلنا إلى نواح لا تزال مجهولة، أرجو أن يتولاها المهتمون بالتاريخ الإسلامي بعنايتهم.
أحمد رمزي