مجلة الرسالة/العدد 830/تعقيبات

مجلة الرسالة/العدد 830/تعقيبات

ملاحظات: بتاريخ: 30 - 05 - 1949



للأستاذ أنور المعداوي

مشكلة القراء في حياتنا الأدبية:

في الأسبوع الماضي سألني أديب فاضل من الإسكندرية: لماذا لا تخرج كتاباً في الأدب أو الفن أو النقد تمدنا فيه بمثل هذه الأفكار التي تطالعنا بها في مقالاتك وتعقيباتك؟ وكان ردي عليه أنني فكرت في هذا الأمر أكثر من مرة ثم خرجت من هذا التفكير بأن الإحجام خير من الإقدام، لماذا؟ لأن هناك مشكلة تحول بيني وبين هذه الأمنية الغالية، هي مشكلة القراء في هذا الجيل!

إنني لا أعدو الحق إذا قلت إننا نعاني أزمة في القراء قل أن نجد لها مثيلا في بلد آخر غير مصر. . . وحين أقرر هذه الحقيقة الماثلة للعيون والأذهان، أقررها وأنا أعني هذه الطبقة من القراء الممتازين في محيط الأدب والفن، أولئك الذين يسعون وراء القراءة إيثاراً للعلم وشغفاً بالتثقيف. أما تلك الطبقة الأخرى من قراء الصحف الإخبارية والأدب السهل الرخيص، أولئك الذين ينشدون الفكرة العارية والصورة العارية فهم ألوف والحمد لله!

ومرة أخرى لا أعدو الحق إذا قلت إن القراء في مصر قد حد من طموحهم قصور في الثقافة العامة، وتمكنت من نفوسهم سموم في الصحافة اليومية، وعصف بأناتهم عصر السرعة وما يجر وراءه من جناية على العقول والأذواق. . . هذه هي الأمور الثلاثة التي تشل حركة التثقيف في مصر وتدفع بها إلى الوراء بدلا من تدفع بها إلى الأمام!

أما قصور الثقافة فنسأل عنه برامجنا التعليمية حين تلمس طابعها في هذه الأمية الفاشية بين صفوف المتعلمين، وأما سموم الصحافة فيسأل عنها فريف من الكتاب هبط بالفكر إلى مستوى رجل الشارع بدلا من أن يرفع رجل الشارع إلى مستواه، وأما عصر السرعة فيسأل عنه السائرون في ركابه القانعون بالسطوح فراراً من الأعماق!

نظرة متأملة إلى الطرقات والمحال العامة تكشف لك عن ألوف الأيدي الفارغة من كتاب مفيد، وجولة متأنية في المنتديات ودور العلم تطلعك على ألوف الأذهان الفارغة من فكر عميق، ودراسة متغلغلة في صميم مجتمعنا المصري تقنعك بأن وقت المتعلمين يتسع لخمسة أَيام تنفق بين ملهى وملهى ويضيق بخمس ساعات تنفق بين كتاب وكتاب. . . أم ميزانية هؤلاء المتعلمين فتضن بعدد من القروش هنا وتجود بعدد من الجنيهات هناك! ولا تعجب بعد ذلك إذا امتلأت على سعتها دور السينما وخلت على ضيقها دور الكتب، وإذا ماجت بالفارغين أسواق اللهو وأقفرت من الوافدين أسواق الفن!!

حتى أولئك الذين يقرئون في مصر قد أصبحوا قراء مقالة! إن أعصابهم لم تعد تحتمل عناء البحث العميق يتشعب فيه التحليل والتعليل، ولا مكاره الكتاب الضخم تتعدد فيه الفصول والأبواب إنهم يريدون مقالاً خفيفاً لطيفاً يفرغون منه على القهوة مع فنجان الشاي، ويلهون به في الترام عن طول الطريق، ويفزعون إليه في مقر العمل من فراغ الحياة!

إن أمامي وأنا أكتب هذه الكلمة كتاباً للفيلسوف الفرنسي سارتر عنوانه (الغثيان) وطبعته الثامنة والثلاثون. . . ولا تنس أن في كل طبعة من هذه الطبعات ألوفاً من النسخ يتلقفها ألوف من القراء! هذا في فرنسا وغير فرنسا من البلاد الأوربية، أما في مصر فتعال نسأل الكتاب عن موقفهم من دور النشر، وتعال نسأل القائمين على دور النشر عن موقفهم من الكتاب. . . إعراض من الجمهور القارئ عن شراء الكتب يتبعه في الكثير الغالب إعراض من الناشرين عن الطبع، وتكون النتيجة هذا الركود الذي لا يجدي معه الإنفاق على إخراج الآثار الأدبية من أموال المؤلفين.

ولقد نسيت أن أحدثك عن مشكلة أخرى تدخل في نطاق هذه المشكلة الرئيسية؛ وأعني بها مشكلة هذه الفئة من عشاق الإطلاع على حساب الغير. ترى كم يجني على المؤلف المصري هذا القارئ الذي يدفع من جيبه عشرين قرشاً ثمناً لكتاب من كتبه ثم يدفع به آخر الأمر إلى عشرات الأصدقاء من هواة الاستعارة الشخصية؟! إن أبلغ ما يمكن أن يساق إلى أمثال هؤلاء المتطفلين على موائد الأدب والمتعدين على حقوق الأدباء، هذه الكلمات التي قرأتها عن كاتب من كتاب الغرب قدم لأحد مؤلفاته بهذا النداء الساخر العميق: (أيها القارئ. . . أرجو أن لا تعير هذا الكتاب لأحد! إنك إن فعلت فقد سرقت مني قارئاً)!!

على ضوء هذا كله أرى الإقدام على إخراج كتاب في هذه الآونة مغامرة غير مرجوة الفائدة ولا مأمولة العواقب. . . وما دام عشاق الأدب في مصر قد طبعوا على هذا اللون الموجز من القراءات فلا بأس من أن ألتقي معهم كل أسبوع في رحاب هذه التعقيبات؟ هجوم عنيف على الصحافة المصرية:

لا أراني مبالغاً حين أقول إن الصحافة المصرية تسف كثيراً وتسمو بنفسها قليلاً، وإنها لتعرف قوتها ومصادر هذه القوة، ولكنها تسيء استعمالها؛ فهي يندر أن تحاول رفع الجمهور إليها، ولا تتحرج من أنت تنزل إلى مستوى السواد الأعظم من الأوساط العاديين ومن أنصاف الأميين أو أنصاف المتعلمين، على حد قول المتنبي:

فيابن كروس يا نصف أعمى ... فإن تفخر فيا نصف البصير!

ولا أدري ماذا يرجى لأمة ثقافة جمهورها الأكبر من هذا النوع الرخيص؟ ولست ترى فيها أكثر من تفصيل أخبار الجرائم والخيانات والطلاق وصور الفتيات كاسية أو عارية، بلا أدنى مناسبة؛ وعلى الجملة كل ما يمكن أن يغري القارئ الفارغ باقتناء الصحيفة أو المجلة والإقبال عليها والتزود بما فيها. إن الله جميل يحب الجمال؛ ولكن الجمال معنى أوسع من أن يقصر على الوجوه المليحة المصنعة، والقدود الرشيقة الممشوقة؛ وإنه لإفساد لعقول الشعب، وتضييق لأفقها، وتشويه لمعنى الجمال عنده أن تلح عليه الصحف بهذه الصور التي يراها على كل صفحة تقريباً؛ ولا مسوغ لنشرها سوى الرغبة في الفتنة والإغراء!

أما البحوث فهي في الأغلب والأعم ملهوجة، أي مسلوقة غير ناضجة، والآراء التي تبسط خطيرة، تقل فيها الروية والتقدير السليم المنزه عن الهوى؛ وكثيراً ما ترى الرأي ينشر لا لأنه هو الصواب أو الذي حصل به الاقتناع، بل لأنه الخليق أن يعجب العامة ويرضيهم!

إننا نريد من صحافتنا أن تسمو بنفسها ولا تسف، وترفع الجمهور إليها ولا تهبط إليه، وتتقي أن تستغل الغرائز الساذجة أو تهيجها، وتتوقى المصلحة العامة ولو بشيء من التضحية، وتحترم المسئوليات، وتحرص على التثقيف - مع التبسيط - لا على التهريج؛ وتدرك إدراكاً صحيحاً عميقاً أنها أداة خير جزيل إذا أحسنت استخدام قوتها، وأنها تصبح أداة شر وبيل إذا أساءت هذا الاستخدام!!

هذه الكلمات القوية الملتهبة الصادقة الموجِّهة ليست لي؛ ولكنها للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني في (أخبار اليوم) منذ أيام. . . إن أروع ما فيها أنها تقرر الواقع في قسوة تخلو من التجني وعنف يسمو على المغالاة، ولكن أين كان المازني منذ زمان؟ ولماذا لم يتناول قلمه قبل اليوم ليعرض للمشكلة الخطيرة بالدرس والعلاج؟! وفيم كانت هذه الإغفاءة الطويلة والداء يسري والأزمة تتفاقم والألسنة تضج بالألم والشكوى والصراخ؟ مهما يكن من شيء فإننا نشكر للأستاذ هذه الغيرة تعلى الأوضاع المهدرة وإن جاءت متأخرة؛ ونحمد له هذه الثورة على القيم المشوهة ولا نعفيه من تحمل بعض المسؤولية ومن تقبل بعض العتاب!

لقد كان المازني قاسياً وعنيفاً وصريحاً في ثورته على الصحافة المصرية، فهل يأذن لي أن أكون على شيء من قسوته وعنفه وصراحته حين أنسب إليه بعض المشاركة في هذه الأوضاع التي يهاجمها في غير رفق ولا هوادة؟!. . .

معذرة يا سيدي، فإنا لا أظلمك حين أقول لك إن طريقتك في الكتابة - منذ سنين - لا ترضيني، إنك حين تأخذ على الصحافة إغراقها في تفصيل أخبار الجرائم والخيانات والطلاق والصور العارية، تنسى أنك كثيراً ما تقدم لقرائك مادة فكرية يشهد الله أنك تهبط بها إلى مستوى السواد الأعظم من الأوساط العاديين دون أن تحاول رفعهم إلى مستواك. . . ترى أتذكر ذلك المقال الذي كتبته منذ شهور تحت عنوان (لو أصبحت امرأة)؟! ذلك المقال الذي تخيلت فيه بعض شيوخ الأدب من أمثال طه حسين وهيكل والحكيم في صور نسائية خلعت عليها ما يناسبها من أسماء. . . فهذا (توحة)، وذاك (علية)، وذلك (ميمي)، وغير ذلك مما أذكره هنا على سبيل المثال؟!

هل يستطيع الأستاذ المازني أن يدلني على القارئ الذي يمكن أن يستفيد ويتثقف من أمثال هذه الفكاهات؟!

ومن العجيب أنه يهيب بالصحافة ألا تستغل الغرائز الساذجة أو تهيجها، هو الذي كتب مرة مقالا عن بائعة برتقال أدار فيه الحوار حول أمور جنسية يمنعني من الإشارة إليها وقار (الرسالة)!

أنا والله يؤسفني أن أهاجم المازني، هذا الرجل الذي لمست أدبه وظرفه وتواضعه يوم أن لقيته في مكتب الأستاذ توفيق الحكيم. . . ولكنني لا أستطيع أن أنسى الحق في غمرة هذه الفضائل التي تكشفت لي منها في ذلك اللقاء!

هذا الرجل العظيم وزير المعارف:

يخيل إلي أن ليس هناك من يبلغ بهذا الرجل مبلغ إعجابي به. . . إنه مثل أعلى في سماحة الخلق ورحابة الأفق وصفاء الضمير. مثل أعلى يجب أن يحتذيه الشباب في أيامهم المقبلة والشيوخ في أيامهم الموشكة على الذهاب!

إن معالي الأستاذ علي أيوب يفتح في سجل الكرامة العقلية صفحة جديدة لم يرها المصريون منذ أمد بعيد. . . صفحة أقل ما يقال فيها إنها مفخرة في ميزان أنصار العهود وأرباب المناصب وأصحاب السلطان. وإلا فمن يدلني على رجل آخر غير علي أيوب قد واجه نداء العاطفة بمنطق العقل، ولقي غواية المنصب بترفع العظيم، وبدد ظلام الحزبية بهذا الضوء الباهر من كرامة القومية؟!

معدن نفسي كريم ما في ذلك شك، معدن هذا الرجل الذي أجمع على نفاسته الخصوم قبل الأصدقاء. . . إنني أشيد بذكره هنا لأنه كرم الأدب والعلم في أشخاص أدباء تربطني بهم صلات من الفكر والروح؛ أدباء لا أرى حرجاً في القول بأنهم يخالفونه في أهوائه السياسية وميوله الحزبية، وهذا هو الخلق القويم الذي يندر أن تجد له مثيلاً في هذا العصر الذي نعيش فيه!

جاشت في نفسي هذه الخواطر وأنا أقرأ عن الرجل العظيم هذه الكلمة الطيبة منذ أيام في إحدى المجلات الأسبوعية: (لا شك في أن معالي الأستاذ علي أيوب وزير المعارف معلم عظيم، يؤمن بما كان أرسطو (المعلم الأول) يؤمن به، وهو أن الخير مصدر العلم كله. فهو يفتح ذراعيه لرجال الأدب والفكر ممن خاصمهم غيره من الوزراء السابقين، ويعيدهم إلى أعمالهم، أو يكرمهم لوجه الخير العام وحده. . . لقد بدأ الوزير عهده بهذا التقدير الرفيع للأدب والعلم في شخص الدكتور طه حسين، ثم أعاد إلى خدمة الدولة الشاعر المبدع علي محمود طه والكاتب المعروف محمد سعيد العريان. وآخر مأثرة له في هذا الباب تعيين الدكتور زكي مبارك في القسم الأدبي بدار الكتب المصرية.

هذه روح كريمة ينبغي أن نسجلها لأننا في حاجة إلى كثير من هذا التسامح المحبب الذي ينسى كل شيء في سبيل المصلحة العامة والذي يضفي على حياتنا المصرية روحاً من الحب السامي نحن أحوج ما نكون إليها. . .)

هذا ما قالته مجلة (الاثنين) في معالي الأستاذ علي أيوب، وإنها لكلمات تشير في مجال الحديث عن مزاياه إلى قليل من كثير! بعض الرسائل من حقيبة البريد:

رسالة مطولة من (السويس) تناقشني فيها الآنسة الفاضلة ع. عبد الرحمن حول ما كتبته عن حقوق المرأة المصرية. . .

يا آنستي، أشكر لك هذه الغيرة الصادقة، ويؤسفني أن أقول لك إن رأيي الذي سبق أن أدليت به يعززه الإيمان والدراسة، فلا تحاولي أن تقنعيني بعدالة قضية تفتقر إلى كثير من عناصر الإقناع! وهذه رسالة أخرى من (الخرطوم - سودان) أشكر لمرسلها الأديب الشاعر محمد مجذوب كريم تقديره وعاطر ثنائه، ويسرني أن أبعث إليه في القريب برسالة خاصة أجيبه فيها عن بعض ما سألني عنه. أما الرسالة الثالثة، فمن (الناصرية - العراق) يعرض فيها الأديب الفاضل عبد الكريم الأمين مأمور مكتبة المعارف العامة لبعض أقوال الأدباء المصريين في مذهب الرمزية، من أمثال الأساتذة الزيات والعقاد وأبي حديد، ثم يطلب إلي أن أعقب على أقوالهم، وأن أتحدث عن هذا النوع من الأدب، ومتى نشأ، وإلى أي حد تأثر الأدباء العرب بأصوله ومناهجه. . . الحق أن الجواب عن هذا كله يحتاج إلى بحث طويل لا تتسع له (التعقيبات)، ومع ذلك فإنا أرجو أن أتحدث عن هذا المذهب الأدبي يوماً ما في بحث يخصص له. ورسالة رابعة من (عدن) أشكر لمرسلها الأديب الفاضل علي باذيب جميل ثقته وحسن ظنه، أما هديته القيمة فكان لها أبعد الأثر في نفسي، ولا يسعني إلا أن أستجيب لرغبته في رسالة خاصة.

بقي أن أبعث بخالص التحية إلى الأديب الفاضل س. ع الطالب بكلية الهندسة بجامعة فؤاد رداً على تحيته الكريمة. وأود أن أطمئنه على أنني ما زلت عند موقفي من حقوق المرأة المصرية. أما الأديب الفاضل محمد محمود حسنين الطالب بكلية الآداب بجامعة فاروق فنصيحتي له أن يترك ما لا يحسن فهمه إلى غيره مما يحسن فهمه، وحبذا لو انصرف عن التوافه إلى استذكار دروسه!

أنور المعداوي