مجلة الرسالة/العدد 830/نفحة من العبقرية

مجلة الرسالة/العدد 830/نفحة من العبقرية

ملاحظات: بتاريخ: 30 - 05 - 1949



(في الذكرى الثانية عشرة للرافعي)

للأستاذ أحمد مصطفى حافظ

(. . . وسيأتي يوم إذا ذكر فيه الرافعي قال الناس: هو

الحكمة العالية مصوغة في أجمل قالبِ من البيان)

مصطفى كامل

المرحوم، الأستاذ خالد الذكر والأثر، مصطفى صادق الرافعي أديب عبقري متفنن، ذو عقلية وضاءة مبدعة، مولدة قوية صافية خصت وتميزت باتقادها بالأحاسيس المشبوبة، والنوازع الطماحة، والأخيلة الجياشة السيالة. . . وتفردت بقدرتها التعبيرية الطيعة، التي تسمو بنا إلى أجواء رقيقة ندية. . . ننسى فيها عالمنا المادي المتطاحن. . . ونقبل عليها بكليتنا مشغوفين مأسورين فنسبح في فيض علوي زاخر، مليء بالأنغام العذاب، مفعم بأطايب نسمات الجنات

نشأ الرافعي في بيئة دينية تقية؛ تولت إفتاء مصر وقضاءها زمناً طيباً عادلا. . . ففقه النور الإلهي الغامر الباهر، واستوعب العربية وآدابها، وفنون أساليبها. . . وتعلق قلبه بسيرة سيد المرسلين، فأخذت براعته تدبج الفصول الرائعة، والآيات البينات في حبه وتقديره . . . فكانت لروعتها وسموها كأنها تنزيل من التنزيل، أو قبس من نور الذكر الحكيم؛ كما يقول (سعد) العظيم. وظل يعمل ويكافح في سبيل إعلاء كلمة الشرق، وتوجيه الأجيال إلى خير منهج يضمن له العز والفخار ويعيد له تراثه المضيع، ويحقق له نسبه الرائع المختلط، وكان في كل ذلك (واحد الآحاد في فنه). وكان يحمل رسالته التي أخذ على عاتقه أمر تنفيذها وتحقيقها - وإن كانت المنايا قد عرقلت الكثير من أمنياته - بقوله: (أنا لا أعبأ بالمظاهر والأعراض التي يأتي بها يوم وينسخها يوم آخر، والقبلة التي أتجه إليها في الأدب، إنما هي النفس الشرقية في دينها وفضائلها؛ فلا أكتب إلا ما يبعثها حية ويزيد في حياتها وسمو غايتها، ويمكن لفضائلها وخصائصها في الحياة. . . ولذا لا أمس من الآداب كلها إلا نواحيها العليا؛ ثم إنه يخيل إلى دائماً أ رسول لغوي بعثت للدفاع عن القرآن ولغته وبيانه).

فالرافعي يعد من جهابذة أعلام الإسلام الخالدين إذ كان أعلم أهل عصره وأبرعهم في تبيان فضائل القرآن، التي تتفق مع كل زمان، وتساير كل تطور. . . كان يبذل جهد الجبابرة لبعث الثقافة العربية التليدة المجيدة، وإبراز محاسن (الجملة القرآنية) الناصعة الرائعة المعجزة. كل ذلك بأسلوب رصين مكين، وعبارة مشرقة مونقة، ولفظ فخم جزل منتقى. . . يكسو معاني أرتنا النجوم والشمس حية! وجلت صدأ الأذهان وأنارتها، وفجرت ينابيع الرحمة والحنان، والإيمان والعرفان، في صحراء القلوب المجدبة! فأضاف إلى العربية كنوزاً نفيسة من الآداب الرفيعة، والمآثر الجليلة. . . الباقية على الدهر ما بقي الدهر، بل هي أبقى على الدهر من الدهر!؟ فأنت إذا ما حاولت أن تستوعب تلك المآثر وتحتويها في لب لبك، سوف تجد نفسك أمام بحر عجيب لجب، واسع عميق، يحوي كل نفيس من غالي الدرر واللآلئ، أو قل يحوي ما هو أغلى من ذلك وأنفس؟! فالدرر النضيدة، واللآلئ الثمينة تتفق مع غرره الفريدة اليتيمة في جميع المزايا؛ من حيث الندرة والنفاسة، وجمال السبك وفنية الصياغة. إلا أن الدرر واللآلئ تنقصها تلك الروح الشهية البهية، التي تترقرق حياة خلال منطقه السامق السديد المحكم!. وأنت إذا ما بحثت في تلك المؤلفات ألفيت بحوثاً شائقة رائقة، وإنشاء وصفياً حكمياً في الأدب وتاريخه وسموه وعبقرياته.

وأول مؤلفاته ديوانان من براعم الشعر وعيونه. . هما: ديوان الرافعي (في ثلاثة أجزاء)، وديوان النظرات. . . وفي شعر الرافعي يقول حافظ:

أراك - وأنت نبت اليوم - تمشي ... بشعرك فوق هام الأولينا

وأُوتيتَ النبوة في المعاني ... وما دانيتَ حد الأربعينا

فَزِن تاج الرآسة بعد سامي ... كما زانت فرائده الجبينا

وهذا الصولجان فكن حريصاً ... على ملك القريض وكن أمينا

فحسبك أن مُطْرِيك (ابن هاني) ... وأنك قد غدوت له قرينا

ونذكر بعد ذلك من آثاره أخطرها شأناً وأعزها مقاماً في عالم الأدب المعاصر؛ ونعني به كتاب (تاريخ آداب العرب) بأجزائه الثلاثة المنوعة. . . الذي تجلت لنا فيه شخصية الرافعي الشاب النابغة، والمؤرخ العالم المحقق الثقة، الذي ينيف عمره عن الثلاثين! ونترك أمر الحكم على هذا الكتاب الجامع، بعد أن فرغ الكرام الناقدون من هذا الأمر. . . فليرجع إليه من شاء أن يستقي الأدب عذباً فراتا سائغاً، من موارده النميرية المصفاة.

ثم كتابه (حديث القمر) وله أثر عظيم في تكوين الأسلوب الإنشائي لكثير من أدبائنا ومتأدبينا المعاصرين. . .

ثم كتبه (رسائل الأحزان) و (السحاب الأحمر) و (أوراق الورد). وهي خلاصة آرائه في فلسفة الجمال والحب. . . وهي من أنضج الثمار لنتاج عبقرية الرجل الملهمة. . . وقد أحدثت تلك الكتب الثلاثة ضجة أدبية، إذ تمخضت عن مجادلات نزيهة صادقة معتدلة قيمة. . . ومجادلات أخرى عنيفة عقيمة، ساخطة متبرمة، قاسية مريرة!. . .

وأخيراً يأتي دور كتابيه في النقد (المعركة تحت راية القرآن) و (على السَّفُّود) وفيهما تبيان لما كان بينه وبين الدكتور طه حسين ثم المرحوم عبد الله عفيفي والأستاذ عباس محمود العقاد على الترتيب. . . ويمتازان بطابع العنف والعنفوان في أسلوبهما. إلى درجة ينكرها البعض وينفر منها، ويتحمس لها البعض الآخر ويحبذها. . .

ولا يحق لي أن أخوض غمار هذا الحديث المطوي غير الشهي.! هذا إلى شتيت من المقالات تدخل في عداد هذا اللون من أدب الرافعي، بينه وبين الكاتب سلامة موسى والدكتور زكي مبارك وغيرهما. . . ثم مقالاته المتفرقة في الصحف والمجلات، التي جمعها بين دفتي كتابه (وحي القلم) وهذا الكتاب يعد الصرح الشامخ في تراث العربية في العصر الحديث.

وجماع الأمر فقد امتازت أحاديثه، رحمه الله، بالتبحر والإفاضة والإشراق بدون إسعاف أو إضجار، وإن كان يغرق أحياناً في السبك الفني لمعانيه وألفاظه. . . وبخاصة إذا تكلم في أدب الوصف والحكمة. . .

وللرافعي أناشيد مشهورة مشكورة. . . منها الوطني الملتهب شعوراً وحماسة ونبلا، ومنها الاجتماعي التهذيبي القوي، ومنها الشعبي الصادق الساذج الفطري

وقد أكسب الرافعي فن القصة القصيرة بهاء، وأبرزه في أنصع ديباجة وأروع صياغة. . . فشق للأقصوصة طريقاً مستقيما امتاز بخصبه وقوة حججه وأسانيده المؤثرة.

ولقد ظل الرافعي على طبيعته المطمئنة الراضية، وفيا للأدب يقظاً على تراثه. . . غايته وهواه ومسعاه أن يستنقذ الشرق مما اعتراه من ألوان الفجور وأسباب الطيش والتبرج والضياع. . ومما نزل به من فساد في الأرض، وبوار في العرض، وعنس للعذارى - اللائي كسبن الشارع وخسرن الزوج، وانزلقن في مهاوي الرذيلة!

وقد انبرى الرافعي - وهو شبه وحيد في الميدان لا يسنده جاه ولا سلطان حزبي - إلى هدم تخرصات الدجاجلة المغررين، من شياطين الآدميين الداعين إلى مسايرة مدنية زائفة، مظهرها خالب وجوهرها كاذب.

وإن رجلا هذا شأنه، وذاك تراثه يجب على كل رجال الدين والأدب على السواء، أن يقوموا بدراسته واستيعابه وتدبره؛ فيكون لهم كمشكاة زيتها لا ينفد، ونورها لا يخبو ولا يخمد. فالرافعي حجة دينية، ومصلح اجتماعي، ولغوي علامة، وفيلسوف إسلامي مفكر بعيد الغور في الأدبين القديم والمعاصر.

ولقد أطلت الكلام قليلا عن أدبه الديني، لأنه عندي أعلى وأرقى أدب للراحل الكريم طيب الله ثراه؛ ولأن النفس تستريح به وتستريح إليه. . لأنه لسان القرآن الفصيح الذي جلى معانيه وبرهن على إيجازه المعجز، وإطنابه الصافي الوافي الذي لا يلحق

وختاماً أكرر ترحمي على الرافعي الذي مسح الدمع عن أعين (المساكين) وسكب الدر في أفواههم. . . كما أشكره وهو في دار الخلد، على اللذة العقلية التي أورثنيها خلال قيامي بدراسة آثاره. . . وهذه الكلمة اعتراف مني بجميلة، وتقدير خالص لفضله على العرب والعربية. يرحمه الله.

أحمد مصطفى حافظ

محرر بمجلة المدينة المنورة