مجلة الرسالة/العدد 831/شعر المعتمد بن عباد

مجلة الرسالة/العدد 831/شعر المعتمد بن عباد

ملاحظات: بتاريخ: 06 - 06 - 1949



للأستاذ أحمد أحمد بدوي

- 1 -

ولد في مهاد الملك، وعاش أميراً فملكا، لم تدفعه الحاجة إلى الارتزاق بشعره، وإنما كان كالعصفور الغَرِد، يمتلئ شعوراً بالحياة، فيغني، وتبهجه آيات الجمال، فيصدح، لا يضطر إلى أن يلبس عواطفه غير لبوسها.

وقد رأى والده فيه بادرة هذا النبوغ، فشجعه على أن يقرض الشعر، وعرف الابن في أبيه حبه للشعر، فاتخذه في رسائله إليه: يمدحه آنا، ويستعطفه حيناً، ويعتذر إليه مرة، ويطلب منه بعض أنعامه تارة أخرى كما سنرى علماً منه بما للشعر من تأثير في نفس والده، وبأنه جدير أن يبلغ به ما يريد.

وأغرم المعتمد بالشعر، حتى إنه ليفضل أن يكتبه في رقعة الدعوة إذا دعا، ويستجيز الشعراء، ويطلب إليهم أن يكملوا ما بدأ، وكثيراً ما كان يرسل إلى وزرائه، وندمائه، وشعرائه رسائل بالشعر بدل منثور الكلام.

- 2 -

وكان شعره صورة للحياة التي عاشها في عهد الإمارة والملك، حياة الترف والجلال معاً، تراها ممثلة في قوله:

ولقد شربت الراح يسطع نورها ... والليل قد مد الظلام رداء

حتى تبدى البدر في جوزائه ... ملكا تناهى بهجة وبهاء

لما أراد تنزها في غربه ... جعل المظلة فوقه الجوزاء

وتناهضت زهر النجوم يحفه ... لألاؤها، فاستكمل الآلاء

وترى الكواكب كالمواكب حوله ... رفعت ثرياها عليه لواء

وحكيته في الأرض بين مواكب ... وكواعب جمعت سنا وسناء

إن نشرت تلك الدروعَ حنادسها ... ملأت لنا هذي الكؤوسَ ضياء

وإذا تغنت هذه في مِزهر ... لم تأل تلك على التريك غناء فحياته كما ترى بين راح يسطع نورها في ظلمة الليل، تحت أضواء بدر يملأ الكون بهاء وبهجة، تحف به النجوم المتلألئة كما تحف الرعية بمليكها. وهنا يعقد موازنة بين نفسه في الأرض والبدر في السماء، فهو في ملكه بين مواكب من الجند، أو بين كواعب أتراب، يصدحن بأعذب الموسيقى، وأرق الغناء.

وملهاة أخرى كانت أثيرة لديه، تلك هي ملهاة الصيد؛ يطلب من والده حيناً أن يأذن له بساعة ينفقها فيه، ويرى في ذلك منة من والده عليه، وحيناً يرسل إلى أبيه يحدثه عن ساعة قضاها في الصيد والقنص.

وكان لبعض الأحداث السياسية صداها في شعره، ولعل من أعظم تلك الأحداث استيلاءه على قرطبة، وهو حادث ملأ نفسه زهواً، وربما أفعم قلبه بالأمل، في أن يوحد الأندلس العربية تحت رايته، ويقيم في البلاد دولة بني عباد. ولا جرم فقد كانت قرطبة عاصمة الأندلس كلها، يوم كان الحكم العربي مزدهراً بتلك الديار. ويبين المعتمد عن هذا الزهو، وذلك الأمل في قوله:

من للملوك بشأن الأصيد البطل ... هيهات، جاءتكمُ مهدية الدول

خطبة قرطبة الحسناء إذ منعت ... من جاء بخطبها بالبيض والأسل

عِرْس الملوك لنا في قصرها عُرُس ... كل الملوك به في مأتم الوجل

فراقبوا عن قريب، لا أبا لكم ... هجوم ليث بدرع البأس مشتمل

ومن أعظم هذه الأحداث أيضاً تلك المعركة التي دارت رحاها يوم العروبة بين المعتمد بن عباد، والمرابطين، وأمراء الأندلس من ناحية، وبين ألفونس السادس ملك إسبانيا المسيحية من ناحية أخرى، وعرفت في التاريخ بمعركة الزلاقة، وقد تحدث عن صبره على أوار تلك المعركة. والمؤرخون يروون بلاءه فيها، ويثنون على شجاعته واستبساله، وسجل ذلك في حديثه عن ابنه أبي هاشم، وقد ذكره ورحى القتال دائرة، إذ يقول:

أبا هاشم، هشمتني الشفار ... فلله صبري لذاك الأوار

ذكرت شخيصك ما بينها ... فلم يَثْنِني حبه للفرار

ويظهر أنه كان رقيق المعاملة لوزرائه وندمائه، عظيم التواضع لهم، كتب مرة إلى ذي الوزارتين أبي الوليد بن زيدون؛ وكان المعتضد قد أمر أن يكون مجلس الوزير دون مجلس ولده المعتمد:

أيها المنحط عني مجلسا ... وله في النفس أعلى مجلس

بفؤادي لك حب يقتضي ... أن تُرى تُحمل فوق الأرؤس

ولذا لا نعجب أن يجيبه ابن زيدون فيصفه بأنه ملك مالك بالبررق الأنفس.

كما كان يحب أن يأخذ الأمور بالرفق واللين، ويدل على ذلك شعره الذي أرسل به إلى ابن عمار عقب نزوع هذا إلى أن يستأثر بمرسية:

متى تلقني تلق الذي قد بلوته ... صفوحاً عن الجاني، رءوفاً على الصحب

كان شعر المعتمد أميراً وملكاً يفيض بالبهجة، ويغمر بالسرور، حتى إذا ما قلب الدهر له ظهر المجن، فهاجمه يوسف بن تاشفين حليفه بالأمس، انقلبت تلك الحياة الراضية حياة بؤس وشقاء. ولعل من أوائل الكوارث التي نزلت به وفاة ولديه اللذين كانا على قرطبة ورندة عندما أغار عليهما جيش يوسف، وهنا يبدأ عهد المحنة ويفيض شعره الباكي الحزين، حتى إذا تم أسره مضى الشعر يروي احساساته الحزينة، وآلامه الدفينة، وذكرياته المؤلمة، وخواطره القائمة، كما سنرى.

- 3 -

كان الغزل أهم أغراض شعر المعتمد في عهد الإمارة والملك، وهو غزل حقيقي تحدث فيه عن عواطفه في حال الرضا والغضب والقرب والبعد؛ وأظهر ما فيه أنه غير وقف على واحدة بل هن جوار وزوجات عرفنا منهن جوهرة، وسحر، ووداد، وأم الربيع، وزوجه اعتماد، يقول في الأولى منهن:

سرورنا دونكمُ ناقص ... والطيب، لا صاف ولا خالص

والسعد إن طالعنا نجمه ... وغبت فهو الآفل الناكص

سموك بالجوهر مظلومة ... مثلك لا يدركه غائص

ويقول في الثانية:

عفا الله عن (سحر) على كل حالة ... ولا حوسبت عما بها أنا واجد

أسحرُ، ظلمت النفس واخترت فرقتي ... فجمعت أحزاني، وهن شوارد

وكانت شجوني باقترابك نزحا ... فها هن لما أن نأيت شواهد ويقول في ثالثتهن:

أشرب الكأس في وداد ودادك ... وتأنس بذكرها في انفرادك

قمر غاب عن جفونك مرآ ... هـ، وسكناه في سواد فؤادك

ويقول في أم الربيع:

تظن بنا أم الربيع سآمة ... ألا غفر الرحمن ذنباً تواقعه

أأهجر ظبياً في ضلوعي كناسه ... وبدر تمام في جفوني مطالعه

وروضة حسن اجتنيها وباردا ... من الظلم لم تحظر علي شرائعه

إذاً عدمت كفي نوالا تفيضه ... على معتفيها أو عدواً تقارعه

أما زوجه اعتماد فيقول فيها:

بكرت تلوم، وفي الفؤاد بلابل ... سفها، وهل يثني الحليم الجاهل

يا هذه، كفي فإني عاشق ... من لا يرد هواي عنها عاذل

حب اعتماد في الجوانح ساكن ... لا القلب ضاق به، ولا هو راحل

يا ظبية سلبت فؤاد محمد ... أَوَ لم يروعك الهزبر الباسل

من شك أني هائم بك مغرم ... فعلى هواك له علي دلائل:

لون كسته صفرة ومدامع ... هطلت سحائبها وجسم ناحل

وهذا الغزل الذي لا يقتصر على واحدة يدل على أن صاحبه مغرم بالجمال، ويعجب به أينما كان، لا كهؤلاء المحبين الذين لا يرون الجمال إلا ممثلا في واحدة. وليس حبه حباً عذرياً، يقنع من الحب بالذكرى وطيف الخيال، فلا ترى في غزله صوفية، ولكنه غزل دائم الحديث عن لذة المتعة بالجمال، فتسمعه يقول:

الصبح قد مزق ثوب الدجى ... فمزق الهم بكفي مها

خذ بلسما من ريقها خمرة ... في لون خديها تجلى الأسى

ويخاطب من يحب قائلاً:

متى أدواي - يا فدا ... ك السمع مني والبصر

ما بفؤادي من جوى ... بما بفيك من خمر

ويقول: وشادن أسأله قهوة ... فجاء بالقهوة والورد

فبت أسقى الراح من ريقه ... وأجتني الورد من الخد

حتى في النوم عندما يزوره طيف من يهوى لا يقنع إلا بالحب الواصل، ولا يرضيه إلا أن يظفر في النوم بما كان يظفر به في اليقظة، فهو يرسل إلى من يحب رسالته منها:

إني رأيتك في المنام ضجيعتي ... وكأن ساعدك الوثير وسادي

وكأنما عانقتِني وشكوتِ ما ... أشكوه من وجدي وطول سهادي

وكأنني قبلت ثغرك والطلا ... والوجنتين ونلت منك مرادي

والمعتمد يسجل في شعره ما ظفر به من متع حسية بالجمال، ويحن إليها إذا نأى عنها، وشعره في الشوق إلى الجمال المفارق بارع قوي، ومن ذلك ما كتب به إلى ابن عمار يذكر عهده بشلب (إحدى مدن الأندلس) ولياليه السعيدة بها، ومعاهد لهوه فيها، فقال:

ألا حي أوطاني بشلب أبا بكر ... وسلهن هل عهد الوصال كما أدري

وسلم على قصر الشراحيب عن فتى ... له أبدا شوق إلى ذلك القصر

منازل آساد وبيض نواعم ... فناهيك من غيل وناهيك من خدر

وكم ليلة قد بت أنعم صبحها ... بمخصبة الأرداف مجدية الخصر

وبيض وسمر فاعلات بمهجتي ... فعال الصفاح البيض والأسَل السمر

وليل بسد النهر لهواً قطعته ... بذات سوار مثل منعطف البدر

نضت بردها عن غصن بان منعم ... فيا حسن ما انشق الكمام عن الزهر

وباتت تسقيني المدام بلحظها ... فمن كأسها حيناً وحيناً من الثغر

وأغلب الظن أن ميدان حبه كان جواريه وحظاياه، وهؤلاء كن قريبات منه؛ ولهذا لا تحس في شعره لوعة ولا حرمانا، فهجر الجواري دلال ينتهي بوصل، وخصام لا يلبث الصلح أن يعقبه، والفراق إذا كان اليوم، ففي غد اللقيا والوصال، وهو حين يغالي في التعبير عن أساه للهجر والفراق - مدلل لمن يهواه، وكثيراً ما صور لنا مداعبات جرت بينه وبين من يهوى. ولعل من أرقها تلك التي صورها وقد جرى بينه وبين جاريته جوهر عتاب فكتب إليها يسترضيها، فأجابته برقعة لم تعنونها باسمها، فقال:

لم تَصْفُ لي بعد، وإلا فلمْ ... لم أر في عنوانها جوهره درت بأني عاشق لاسمها ... لم ترد للغيظ أن تذكره

قالت: إذا أبصره ثانياً ... قبَّله، والله لا أَبصره

وللمعتمد شعر بعث به إلى أبيه تلمس فيه ما كان يحمله الفتى الأمير لوالده من إكبار وإجلال، فهو حيناً يمدحه إلى التفرد بالمجد والسيادة إذ يقول له:

ألا يا مليكا ظل في الخطب مفزعا ... ويا واحداً قد فاق ذا الخلق أجمعا

وحيناً يرسل إليه يسأله بعض نعمه، كما كتب إليه يطلب مجنا، وحيناً يشكره على كثرة ما أولى وأنعم، ومن ذلك أن أباه أرسل إليه فرساً أصدأ، فكتب إليه المعتمد:

نوال جزيل ينهر الشكر والحمدا ... وصنع جميل يوجب النصح والودا

لقد جدت بالطِّرف الذي لو أباعه ... بذلت ولم أغبن به العيشة الرغدا

جواد أتاني من جواد تطابقا ... فيا كرم المهدي ويا كرم المهدى

وكم من أيدٍ أوليت موقعها نَدٍ ... لدى، ولكن أين موضع ذا الأصدى

لعلي يوماً أن أوفي حقه ... فأنعله ممن عصى أمرك الخدا

فإذا ما غضب الوالد على الأمير وجد هذا من شعره وسيلة يستل بها هذا الغضب. ولعل أكبر قصيدة في الديوان تلك التي بعث إليه بها، وقد خرج من مالقة منهزماً أمام باديس، وقد تصرف في هذه القصيدة تصرفاً بارعاً، فبدأها بالحديث إلى نفسه، يطلب منها أن تهدأ وتستقر، إذ لا فائدة في البكاء، ولا خير يرجى من الحزن والألم، ما دام القدر قد عاق عن بلوغ الأمل فيقول:

سكن فؤادك لا تذهب بك الفكر ... ماذا يعيد عليك البث والحذر

ثم ينتقل انتقالا طبيعياً إلى مدح والده مدحاً رائعاً قويا بدأه بقوله:

سميدع يهب الآلاف مبتدئاً ... ويستقل عطاياه ويعتذر

ويمزج المدح بالاعتذار إليه، طالباً منه أن يبقي عليه ولا يوهنه فهو العدة في حوادث الدهر، وهو الناب والظفر وقت الشدة. ويظهر مما وصف به المعتمد نفسه، معتذراً إلى والده حين يقول:

فالنفس جازعة، والعين دامعة ... والصوت منخفض، والطرف منكسر

وزاد همي ما بالجسم من سقم ... وشبت رأساً، ولم يبلغني الكبر وذبت إلا ذماء فيّ يمسكني ... أني عهدتك تعفو حين تقتدر

يظهر أن وقع الهزيمة كان شديداً على نفس أبيه، وأكاد ألمح أن والده المعتضد قد أرجع سبب الهزيمة إلى انصراف ولده المعتمد إلى اللهو والغناء، والخمر والنساء، ومن أجل هذا بذل المعتمد جهداً كبيراً في أن يبرئ نفسه منها، منحياً على قوم ذوي دغل، لعلهم هم الذين نقلوا إلى أبيه أموراً لا ترضيه، فقال المعتمد يتنصل:

لم أوت من زمني شيئاً ألذ به ... فلست أعهد ما كاس ولا وتر

ولا تملكني دل ولا خفر ... ولا سبى خلدي غنج ولا حور

ما تركي الخمر من هذر ولا ورع ... فلم يفارق لعمري سني الصغر

وإنما أنا ساع في رضاك فإن ... أخفقت فيه فلا يفسح لي العمر

(البقية في العدد القادم)

أحمد أحمد بدوي