مجلة الرسالة/العدد 831/من أسرار الوضع في اللغة العربية
مجلة الرسالة/العدد 831/من أسرار الوضع في اللغة العربية
للأستاذ جلال الحنفي
ليس للشك مجال إلى أفكار الباحثين في أن اللغة العربية ذات سلطان مبين في عالم اللغات؛ وأن معجماً واحداً من معاجم اللغة العربية يكفي للدلالة على أن هذه اللغة لغة بالغة أوج المراتب من بين سائر الألسنة؛ وأن أهلها الذين وضعوها كانوا على جانب عظيم من الرجحان العقلي والنضج والإحساس.
ومن البديهي أن لغة كل قوم حجة لهم أو عليهم. فإذا كانت لغتهم حصيفة موزونة، فهم أولو أفكار عالية وأذهان خصبة؛ وإذا كانت لغتهم ركيكة ضئيلة فإن ذلك يدل على أنهم متفككو عرى التفكير ومتقطعو سلاسل الثقافة.
والعرب وإن كانوا أميين لا يعنون بالقراءة ولا بالكتابة فإنهم استطاعوا أن ينشئوا لأنفسهم لغة محكمة مفصلة في خلال أدوار أميتهم ومن قبل أن ينتقلوا إلى عهود الكتابة والتدوين.
وليس المهم أن يضع العرب الأميون لأنفسهم لغة واسعة للتخاطب كغيرهم من الأمم؛ وإنما المهم أن تكون اللغة التي وضعوها قائمة على مقاييس فنية عجيبة تدهش العقول وتخلب الألباب. ولم يُعرف أن لغة أخرى غير العربية قام فيها الوضع على مثل هذه الملاحظات والدقائق. فكثير من الألفاظ التي أطلقاها العرب على بعض المسميات أو بعض المعاني لم تكن لمجرد التسمية فحسب، بل كانت فوق ذلك لملاحظات فنية بارعة؛ فمن ذلك أن العربسموا المتاهة المخوفة (مفازة) تفاؤلا بالسلامة من المكاره وارتقابا للنجاة من المخاطر؛ وفي ذلك إشعاع على النفوس وإمداد لها بالطمأنينة والرجاء. . . كما أنهم سموا الملسوع الذي لدغته الأفعى (سليماً) ليوحوا إلى نفسه شيئاً من الأمل بالبرء، وليوقعوا في ذهنه بعض الرجاء في الشفاء. . . وسموا الأعمى (بصيراً) ليهدئوا في نفسه ثورة التبرم ولئلا يشعر بأن العمى منقصة في الحياة أو جناية من الجنايات، أو أنه شيء مما يقصر بالمرء عن مساواة الناس في الحقوق. . .
ومن هذا النوع الشيء الكثير من مفردات اللغة يستدل منه على أن الوضع في العربية قام على أركان غير ملحوظة في سائر اللغات العالمية التي توخى واضعوها تركيب الألفاظ لقاء المعاني المقصودة ليستعان بها على التخاطب والتفاهم. . .
وهناك أنواع من المفردات أتقن الواضع العربي أمرها كل إتقان، وأحكم تدبيرها كل إحكام، فجاءت مهندسة الشكل معينة على بلاغة الأساليب صريحة في دلالتها على عظمة هذه اللغة وعلى جلالة قدرها وارتفاع شأنها. وقد وضعت هذه المفردات لتدل دلالة مفاجئة على المعاني المقصودة، فمن ذلك لفظة (ضيزى) فإذا قرأ أحد قوله تعالى: (تلك إذن قسمة ضيزى) علم بالبداهة أن هذه اللفظة إنما تعني وصف القسمة بالجور والنقيصة، وإن كان لم يسبق إلى ذهنه شيء من تفسير معنى اللفظة، وذلك لأن النمط الذي نسجت عليه يدل دلالة واضحة على أن هذه اللفظة لا ترمي لغير معنى الجور والنقص. وكذلك الحال في معظم ألفاظ العربية فإنها جاءت مقارنة لمعانيها فلم توضع في العربية لفظة خشنة لمعنى رقيق، ولا وضعت لفظة رقيقة لمعنى ثقيل. . . وأسباب ذلك أن الواضع كان يتأثر نفسياً ببعض الأعمال أو ببعض الأمور فيضع لها مسميات بحسب ما يسيطر عليه من الشعور نحو تلك الأعمال والمسميات، فكان إذا كره شيئاً أو اشمأز منه سماه باسم فيه وعورة وخشونة، وإذا أحب شيئاً ورغب فيه سماه باسم فيه رقة وليونة؛ فهو مثلا عندما بوغت يوماً ما بقسمة جائرة اشتد غضبه وعظم انزعاجه فانبرى يصف تلك القسمة بوصف يثير أكبر مقادير الاشمئزاز في النفوس فكان لديه من ذلك لفظة (ضيزى). ويرى الواضع شيخاً هرماً خائر القوى فلا يجد إلا أن يطلق عليه تسمية خشنة تنم عن مبلغ ما اعترى هذا الواضع من الدهشة لذلك المنظر الذي هو رمز من رموز الموت، تلك التسمية هي: (القشْعُمان).
ونجد الواضع يستمع إلى شاعر يلقي قصيدة من الشعر الركيك المهلهل فيمج ذوقه مثل هذه القصيدة ويستسخف مثل هذا الشاعر فيؤلف له من بعض الحروف الخاصة تسمية يصب عليها شعوره الحاد، ثم يطلقها عليه ليثأر منه فينقلب ذلك الشاعر وقد حمل اسماً جديداً هو (القرزام)
ويمشي الواضع في طريق كثيرة التبلد والأعقاد فينهكه التعب ويجهده السير فيلقي على الطريق اسماً جديداً ينم عن شدة تذمره منها وذلك الاسم هو (القردودة) وكذلك أطلق نفس الاسم على شدة برد الشتاء. . . وينزعج الواضع من امرأة كثيرة الكلام والصخب تقطع عليه راحته وتشوش عليه طمأنينته فيطلق عليها اسم (القُراقِرة) تشويهاً لها. ويرى رجلاً متهيئاً للشر متربصا لأسباب الشقاق والخصومات على الدوام فيسميه (المقدَحِر). . .
ومن هنا وجدت في العربية مفردات متنافرة الحروف أو ثقيلة على الأسماع، وكان البلغاء يظنونها معيبة في البلاغة غير أنها إذا جاءت في مواقعها الملائمة لها كانت من عرافين البلاغة ومن عيون الكلام. . .
ولقد عيب على الشاعر استعماله كلمة (النقاخ) في هذا البيت
وأحمق ممن يكرع الماء قال لي: ... دع الخمر واشرب من نقاخ مبرّد
مع أن الشاعر نال باستعمال هذه الكلمة توفيقاً عظيماً من البلاغة، لأنه أراد أن يهجو الماء تحدياً لمن نهاه عن الخمر، ولم يكن مناسباً لهذا الهجو إلا أن يطلق على الماء أبشع أسمائه.
والعجيب في هذه اللغة أن كل لفظة موضوعة فيها يمكن الوصول إلى معرفة السر في وضعها واختيارها، وما وضعت في العربية لفظة واحدة لمعنى من المعاني إلا لعلاقة رابطة أو بسبب وثيق. فإن الواضع العربي وضع مثلا لفظة (المضجع) لمعنى وضع الجنب على الأرض، ثم وضع نفس اللفظ لمعنى ميلان النجم للغروب، وأسباب ذلك أن النجم عندما مال للغروب شابه ميلان الرجل للنوم فأطلق عليه ذلك. ولما كان النائم المضطجع قاصراً عن كل عمل فقد قالوا: تضجَّع الرجل إذا قصر في الأمر، وأطلقوا (الضجعة) على الوهن في الرأي، لأن الرأي الواهن أشبه بحالة الراقد الذي لا يفكر تفكيراً سليماً. وأطلقوا لفظة (الضاجع) على الأحمق لأنه أشبه بالنائم لعدم إنتاجه لشيء من الخير والمصلحة، وكذلك أطلقوا هذه اللفظة على منحنى الوادي لأنه مائل كالنائم المضطجع، وأطلقوا لفظة (الضجوع) على السحابة المثقلة بالماء والبطيئة في سيرها كأنهم شبهوها بمن يريد أن يضطجع من ثقل وتراخ. . وهكذا الأمر في كل لفظة من ألفاظهم. . .
وليس للألفاظ المشتقة في العربية أصل لدى الواضع فإنه كان طوراً يبدأ الاشتقاق بالفعل وطوراً يبدأه بالمصدر وطوراً باسم من الأسماء، فمثلا على ذلك أنه أطلق اسم (الأسد) على الحيوان المفترس المعروف، وبعد حين احتاج إلى أن يصوغ منه فعلا فقال (أسِد) أي صار أسداً في بعض خصائصه. . وكذلك الأمر في سائر الألفاظ فإنها تنقسم في الاشتقاق إلى هذه الأقسام. وقد يضع الواضع المعنى المطلوب لأول مرة بصيغة الأمر ثم يشتق منه الماضي، أو بصيغة الماضي ثم يشتق منه باقي الأفعال؛ وربما وضعه بصيغة اسم الفاعل أو اسم المفعول ثم ينتقل فيتصرف في النحت والاشتقاق. . .
وقد أعانت هذه الطرائق في الوضع على توسيع دائرة البلاغة وإنهاض أساليب الكلام، فقد هيأ واضع اللغة للشعراء جملة كبيرة من الوسائل الميسرة لقرض الشعر وتجويده؛ فإعداد مئات من الألفاظ والمترادفات أدى إلى انتعاش القافية في الشعر كما أدى إلى تعدد الأوزان والبحور، ولولا هذه المترادفات الكثيرة لما حصل لدينا هذا الرقم الكبير من البحور والقوافي والتفاعيل، فإن الشاعر إذا لم يجد ملاءمة بين بعض الألفاظ ذات المعنى المقصود وبين وزن التفاعيل استطاع الإتيان بألفاظ أخرى تماشي الوزن وتناسب الروى وتقضي المطلوب. . .
وهناك حروف إن اجتمعت في بعض كلمات دلت على معان متقاربة (فالعين) و (القاف) و (الدال) إن اجتمعت دلت على الشدة والأحكام؛ و (العين) و (الطاء) و (النون) دلت على الإقامة والثبات؛ و (الكاف) و (الراء) تدل على الجمع والترديد؛ و (الهاء) و (الزاي) تدل على الاضطراب والحركة. وهناك حروف إن اجتمعت في كلمات دلت على أنها منقولة إلى العربية من ذلك (الظاء) إذا جاءت بعد (الخاء) وكذلك (الزاي) بعد (الدال). . .
وهناك أسرار وأعاجيب في هذه اللغة المجيدة تثير الدهشة
ذلك تلخيص الكلام عن أسرار الوضع في العربية فكيف يا ترى تيسر لسكان جزيرة العرب أن يؤلفوا لغتهم هذا التأليف المحكم، وكيف كان عليهم أن يضعوا مفرداتها هذا الوضع الفني الدقيق؟!. . .
إن ذلك شيء عجيب يستحق الكلام الطويل. . .
(بغداد)
جلال الحنفي