مجلة الرسالة/العدد 831/قضايا الشباب بين العلم والفلسفة

مجلة الرسالة/العدد 831/قضايا الشباب بين العلم والفلسفة

مجلة الرسالة - العدد 831
قضايا الشباب بين العلم والفلسفة
ملاحظات: بتاريخ: 06 - 06 - 1949



للأستاذ إبراهيم البطراي

- 3 -

يزعم سارتر أخذ هذه الفلسفة عن الفليسوف الألماني المعاصر هيديجر ويجب أن نعرف أن هيديجر هذا كان يلوّح للناس لينظروا إلى فلسفته بصفتها بشيراً ورسولا من لدن الاشتراكية الألمانية. وبعد أن دالت دولة هتلر رأيناه في كل ما وصل إلينا من آرائه تقريباً يتجه اتجاهاً لا هو بالاشتراكي ولا هو بالإلحادي ولا هو بالشيوعي، وإنما هو أقرب - كل القرب - إلى أن يكون دينياً منه إلى أي شيء آخر. يزاد على هذا أنه يدعو الناس إلى أن ينظروا إلى فلسفته القديمة بهذا المنظار ويؤولوها بما يتفق وهذا المعنى الجديد. فأي شيء بقى إذن للتلميذ وعشاقه؟

يزعمون أن الوجودية ليست بدعاً وإنما قال بها الفيلسوف الطبيعي باسكال قبل سنة 1662، ولكن باسكال هذا حينما أحس بوجوده وتعمق هذا الوجود، وحينما نظر إلى الموجودات الأخرى وتعمق النظر راعه أن يرى الإنسان - وهو أسمى الموجودات طراً - ينغمس في شهواته الحسية الجامحة مهملا عقله فصاح صيحته الخالدة: (عجبي للإنسان يهمل عقله الذي به صار وجوده)! ولما أدمن النظر العميق في الكون، أدرك خالقه الأعظم سبحانه وآمن به أعمق إيمان، ثم انصرف ببحثه إلى الدين وبدأ يؤلف كتابه المشهور في الدفاع عن المسيحية فكان أشبه في ذلك بالرجل المتصوف.

فهل فعل سارتر مثل ما فعل؟ لقد قال إن للسن عند باسكال عذره!!

وعلى نهج باسكال، أو قريب منه، سار كيير كجارد الفيلسوف الدنمركي وكثيرون غيره أخص منهم بالذكر الكاتب المسرحي الفيلسوف جابرييل مارسيل الذي توصل إلى معرفة الله وبين أن أسمى صلة بين الموجودات ما كانت قائمة على المحبة، وأسمى أنواع المحبة محبة واجب الوجود سبحانه.

لم يبق إذن لاتحاد شركات سارتر وآخرين كما يسمونهم في فرنسا إلا أن يدعوا أنهم وريثوا فلسفة نيتشه وأنهم على طريقه ناكبون. فما هي فلسفة نيتشه هذا؟ وهل الغرض الذي قامت من أجله هذه الفلسفة في ألمانيا هو الغرض الذي تقوم من أجله في فرنسا؟ وه يمكن لزاعم أن يزعم أنه حتى هذه النظرية - نظرية نيتشه - كتب لها البقاء؟

أما من الناحية العلمية فلم يعد لهذا النظرية ظل من الوجود بعد زوال ظروفها وبهذا قضت على نفسها بنفسها.

وأما الغرض الذي قامت من أجله هذه الفلسفة في ألمانيا فهو تخليص الشعب من أزماته النفسية التي حلت به إثر طغيان الروح الرومانتيكية عليه كما قدمنا، وتخليص كذلك من سلطان الدين وسيطرة رجاله، لأن نيتشه كان يظن أنهم أصل كل شر، وأن الدين علم الناس العبودية للناس، هذا فضلا عن بث روح الجندية القوية التي لا تعتمد على شيء خارج عن ذاتها والتي لا تبال بشيء في الشبيبة، لأن موقع ألمانيا الجغرافي يحتم عليها ذلك.

لهذا جعل إنسانه الأعلى هو ذلك الذي يحقق لذاته وآلامه وحاجاته، أو بالمعنى الاصطلاحي (يحقق وجوده) بنفسه وبفعله الإرادي دون خوف أو ترقب لإرادة السماوات فهي لا تمطر ذهباً ولا فضة.

وليس لنا إلا اللحظة التي نحن فيها: إما عشنا عظماء وإلا فلنمت عظماء. ومن السخف أن ينظر الإنسان إلى تالد مجده فهذا شيء قد مات، ومن الغباء النظر إلى الموتى. لنفعل دائماً بإرادتنا شيئاً جديداً نجدد به وجودنا، ولنكن أقوياء نطفر قدما نحو الأمام، وويل لمن ينظر وراءه أو ينتظر عون الإله. فليست الحياة هي التي تحدد للإرادة وجهتها، وإنما الإرادة هي التي تحدد معنى الحياة ووجهتها.

وبفرض أننا تغاضينا عما في هذه النظرية من التناقض البين فمهما يكن من خطئها أو صوابها، فإنها على كل حال قد ماتت واستنفدت غرضها ووجودها أيضاً في مهدها ألمانيا. فماذا يقصد هذا الرجل المعاصر بنشر نزواته في فرنسا ومحاولة نشرها خارج فرنسا؟ شتان بين ما أراد نيتشه وبين ما يريد (اتحاد الشذوذ)، فإنهم يهملون الغاية؛ لأنهم ليسوا لها أكفاء كما أثبتت الحوادث الأخيرة في حرب هتلر، ويتشبثون بالوسيلة ولا هم لهم إلا الإباحة وهتك ستر ما بقي للناس من وشل الحياء.

وفي هذا يقول شاب فرنسي من الوجوديين المتحمسين يصف حال الشبان هناك بعد تفشي هذا المذهب فيهم واعتناقهم له: (كان الرجل البرجوازي يطالب أسرته بأن تتكلم كلاماً مهذبا وتتأدب بآداب حسنة. . . ولكن ذلك لم يمنع من إتيان المفاسد سراً). (فالأجيال الناشئة إذ تنبذ هذه الحياة الزائفة تصر عمداً على كل هذه النقط التي يراد الحيلولة بينها وبينهم في سنهم الصغيرة؛ فهم يقضون كل يومهم في ضروب التسلية في السينما وصالات الرقص والحانات، وهم يمجدون الكسل ويمارسونه، ويتكلمون كما تتكلم شخصيات سارتر، لغة مشوبة باللهجة الدارجة مملوءة بالألفاظ التي يأباها الحياء. وليس هذا عندهم مجرد ميل طبيعي، بل هم يمون إلى ذلك روح عدم الاكتراث، وهو روح الحياة التي قد خلصت من الأوهام بما فيها وهم اللذة نفسه، ويجمعون إلى ذلك أيضاً نظراً منيراً يعرفون به أن (الوجود) هو هذا، وأن الإنسان لا يستطيع أن يفعل سوى أن يكون موجوداً) اهـ

ولكم بعد هذا أن تفرقوا بين غاية نيتشه وغاية سارتر إن استطعتم إلى ذلك سبيلا.

وأخيراً قولوا لي بربكم مالي أرى الإنسان هكذا يأبى إلا أن يكون عبداً؟

إنه يريد واهماً أن يتخلص من (عبودية) اختيارية سامية يحتمها العقل السليم ويوجهها الذوق المهذب؛ وأقصد بها عبودية المدين للدائن، عبودية المحسن إليه للمحسن، أستغفر الله! فما كان مثل هذا عبودية! وإنما هو الشكر: شكر الموجود لمن أوجده، شكر المخلوق للخالق.

يخدعه الشيطان ويخدع نفسه بوجوب التخلص من هذه العبودية (الثقيلة البغيضة)! ثم يخدع نفسه بوجوب تعطيل الفكر من النظر في آثار رحمة هذا المعبود لكي لا يكون في ذلك منغص لوجوده، وهذا غاية الإفلاس.

ويخدع المسكين نفسه مرة أخرى فيخيل إليه أنه قد صار - بهذا - موجوداً بعد أن لم يكن كذلك؛ لأنه - في زعمه - قد صار (حراً). وما هذه الحرية لو تبصرناها إلا ارتماء في هوة أحط دركات العبودية وأقذرها، وإنها لتتنافى ويستحيل وجودها مع أبسط قواعد التفكير السليم.

أو تدرون ماذا؟ إن الفلسفة حين ارتقت وتقدمت اكتشفت هذا الكشف الباهر وهو أنه إذا كان هنالك إله فهو الشهوة، وإذا كاهن لا بد للإنسان من عبودية فأنعم بها من معبود؛ لأنه يكون حينئذ بكامل حريته، ومهما تكن فهي على كل حال خير ألف مرة من العبودية للإله؟!

رحمك الله يا من قلت: (يظن ابن آدم أنه حر وذلك لجهله مصدر العلل التي تجره لما يقوم به من عمل)

ولكن ليس لنا أن نعجب فهذه بدعة من بدع العصور الحديثة (المودرن) التي تتوهم الحرية في هذا الضرب من الجنون الذي يسمونه الوجودية، وما زالت الليالي حبالى. . .!

فوا ضيعة هذا الشريد المسكين (الإنسان)! إن أهون ما يقال فيه هو أنه عبد بفطرته. ذلكم هو الرأي المتواضع الذي أرجو أن تسمحوا لي بتقريره وقد بلغنا هذا الموضع من حديثنا.

هذه عقدة الفاجعة الإنسانية التي يعاد تمثيلها اليوم على مسرح المدنية باسم الفلسفة الحديثة.

والحق أننا نكون أسوا حالا لو انتظرنا منهم غير هذا. وماذا تنتظر من قوم (خليين) يجلسون في المقاهي وفي المجتمعات والصالات يزجون فراغهم بالمناقشة في أي شيء: في أصل الكونن وكنه الإله، ويصفون الميتافيزيقيا وحقيقة الوجود، وما إلى ذلك من أي شيء يخطر ببالهم؛ ويحكمون على هذا كله حكم من شاهد واختبر وتثبت ما داموا هم قد اقتنعوا بصحة هذا أو بطلان ذاك! ماذا ننتظر من هؤلاء القوم أكثر من انتظارنا من جماعة من الصبية نشأوا في بيت ريفي منعزل: لم يروا أحداً ولم يرهم ولم يختلط بهم أحد ولا يعرفون - فيما عدا بينهم - عن العالم الخارجي شيئاً؛ ثم ننتظر منهم أن يصفوا لنا حياة الزنج في مجاهل أفريقيا، وناطحات السحاب في أمريكا، وطرق المناقشة في هيئة الأمم المتحدة - وصفاً دقيقاً صميما!

والواقع أنه لا فرق بين هؤلاء وهؤلاء إلا أن أولئك نسميهم فلاسفة وهؤلاء نسميهم صبية، كما نطلق على هذا (نبيل) وعلى ذاك (ابن المقفع).

(يتبع)

إبراهيم البطراوي