مجلة الرسالة/العدد 831/رسالة العلم

مجلة الرسالة/العدد 831/رسالة العلم

ملاحظات: بتاريخ: 06 - 06 - 1949



من مشاهير رجال العلم:

بافلوف 1849 - 1936

يعد العلامة أفان بتروفيتش بافلوف من أشهر رجال العلم الحديث. وقد تبوأ مكانة سامية ومقاماً ملحوظاً بين علماء روسيا.

بدأت شهرته كعالم فيسولوجي منذ سنوات عديدة، عندما شرح المبادئ الرئيسية لعملية الهضم، ونجح في ذلك البحث العظيم. وكان يحافظ على راحة الحيوان الذي يجري عليه تجاربه أثناء دراسته دورته الدموية. كان يقول إنه إذا تألم الحيوان أثناء إجراء الاختبارات عليه، فإن أعصابه المضطربة تؤثر في العمليات الفسيولوجية التي تحدث في جسمه. فإن الألم يمنع الغدد التي تمد المعدة بالعصارات الهاضمة من إفراز هذه العصارات إفرازاً طبيعياً. وكان هذا الأمر باعثاً له على محاولته التخلص من الألم. فانعدامه شرط من الشروط الرئيسية لنجاح البحث الفسيولوجي. ولذلك سنحت الفرصة لبافلوف - حينما أنشأ الأمير أولد نبرج معهد الأبحاث الفسيولوجية ببترغراد عام 1891 - أن ينشئ معملاً خاصاً ومستشفى بالمعهد ليمارس فيهما إجراء التجارب على الحيوان بأقل ألم. ويعد هذا المعمل الأول من نوعه في العالم.

وقد استطاع بافلوف في أوائل تجاربه على الدورة الدموية، أن يقلل بقدر المستطاع من آلام الحيوان أثناء إجراء العمليات الجراحية له، بطريقة فنية دقيقة. وكانت عملياته في العروق من السرعة بمكان حتى أن الكلب الذي كانت تجرى له هذه العملية لم يكن يشعر بها على الإطلاق. وتعود الكلب أن يقفز طواعية يوماً بعد يوم وفي عروقه أنابيب لقياس ضغط الدم، دون أن يشعر بوجودها.

وقد ساعدته مهارته الفائقة في الجراحة أن يثبت - عن طريق الاختبار - أن هناك أعصاباً معينة في الجسم تتحكم على الغدد التي تمد المعدة بالعصارات الهاضمة.

وكان بافلوف يدعو إلى دراسة التركيب الفسيولوجي للجسم الحي دون الإخلال من نظام عمله؛ ولذلك يقول: (نحن لا نستطيع أن نسمح لأنفسنا بتحطيم التركيب الآلي للجسم الحي، بما فيه من أسرار خفية تحتل أفكارنا منذ زمن بعيد، بل طول حياتنا. فإذا كانت الميكانيك ترفض أحياناً أن تغير أو تتداخل مع تركيب بعض الآلات الدقيقة، حتى لا تفسد آليتها؛ وإذا كان الفنان يخشى في رهبة أن يلمس بريشته إنتاج فنان عظيم، أليس العلماء الفسيولوجيون الذين يتعاملون مع أدق تركيب آلي - وهو الكائن الحي - أليس لهم نفس هذا الشعور؟)

وقد نال بافلوف جائزة نوبل عن أبحاثه في عملية الهضم عام 1904. ومع ذلك فقد اشتهر في أبحاث أخرى، كبحثه الشهير في نشاط المخ المعروف باسم (الانعكاسات الشرطية) , ولو أن هذا البحث يبدو مختلفاً عن بحثه السابق، فإنه يتفق معه في موضوعين: فعل الغدد الهاضمة، وإجراء التجارب بدون ألم.

ومن الجلي أنه إذا كان الألم يعرقل عملية المعدة الفسيولوجية، فإنه لا بد أن يعرقل أيضاً عملية المخ الفسيولوجية. إذاً يجب أن تجرى التجارب على المخ بدون ألم، وتراقب في عناية زائدة. ولذلك كان على بافلوف أن ينشئ معملاً خاصاً لإجراء اختباراته على الكلاب بعيداً عن تدخل المختبر، نفسه والأصوات، بل حتى أشعة الشمس.

إن الصلة بين المخ وعملية الهضم ناتجة من الظاهرة الطبيعية التي تربط الفم بالمعدة، تلك الظاهرة التي تدعى (اللعاب). فحينما يشاهد كلب أو إنسان، الطعام، أو يشمه، أو حتى عندما يسمع وقع أقدام الخادم وهي مقبلة به، فإن لعابه يسيل. ويسيل كذلك، بمجرد أن يضع الكلب الطعام في فمه فيأخذ في مضغه. ويفسر هذا الفعل بأنه انعكاس بدأ من التأثير الكيماوي للطعام على سطح الفم الداخلي، تبعته رسالة على طول المسار العصبي، تصل إلى عضلات الفك، ولكن، لماذا يسيل لعاب الكلب بمجرد سماعه وقع خطوات الخادم؟ هل تدخل عقله وفسر ذلك الصوت إلى الفم؟ يقول بافلوف: لسنا في حاجة إلى معرفة أن الكلب لا يعقل. إن الصوت يؤثر على أذن الكلب، فتذهب رسالة إلى الأغشية، ثم إلى الفم. ولكن، لماذا ترسل الأغشية الرسالة إلى الفم؟ ذلك لأنه في الحالات السابقة كانت تعقب خطوات الخادم عملية الهضم في انتظام وبذلك اختلطت الرسائل التي نشأت في الجهاز العصبي من ذلك الصوت بالرسائل التي ولدت عملية المضغ. ونشأ من ذلك أنه في مرة، تبعث الرسائل العصبية التي نشأت من تأثيره، برسالة إلى الفم ليقوم بعملية، يسيل اللعاب.

ويبدو من ذلك، أن أي رد فعل يعزى إلى ذكاء الحيوان، كمعرفة أن صوت وقع الأقدام يعني الطعام، نستطيع تفسيره تفسيراً صحيحاً بمصطلحات من الرسائل العصبية والانعكاسات. فلماذا إذاً لا نعزو كل فعل نفسره بالذكاء إلى انعكاسات محضة على قدر كبير من التعقد؟ ذلك كان موضوع بحث بافلوف، وهذا سبب أهمية آرائه.

جعل بافلوف يجري الاختبارات على الحيوانات ويبحث هو وأتباعه في نشاط الانعكاسات وموقعها من السلوك. وبذلك حصل على معلومات قيمة. واستطاع بتنشيط بعض الانعكاسات على بعضها الآخر وضع الكلب في حالات من النوم والتنويم والنورستانيا.

وعلى ذلك فسلوك الكلب أثناء هذه التجارب يستطاع وصفه بأنه من تدبير الانعكاسات. وتلك نتيجة غريبة!!

كان بافلوف من رجال العلم الذين يؤمنون بأن رفاهية العالم وسلامته، ورقي الإنسان وتقدمه، لا تتوفر إلا عن طريق العلم. ولذلك كان يدعو إلى ذلك في محاضرات، وكانت أهمها تلك التي يقول فيها (إني مقتنع تمام الاقتناع أننا سنجد في هذا الطريق - أي طريق العلم - أن العقل البشري قد انتصر انتصاراً تاماً على أعظم معضلاته، وهو معرفة التركيب الآلي وقوانين طبيعة البشر. وبهذا فقط يستطيع الإنسان أن يحقق لنفسه سعادة دائمة كاملة. دع العقل يسمو من نصر إلى نصر على الطبيعة المحيطة به، دعه ينتصر للحياة البشرية، لا على سطح الأرض فحسب، بل بين أعماق البحار، بل وفوق أجواز الفضاء. دعه يسخر لخدماته نشاطاً فائقاً يفيض على العالم من بقعة إلى أخرى. دعه يسيطر على السماء حتى تنتقل أفكاره. ومع ذلك، فالمخلوق الحي ذاته، ذلك الذي ينقاد بقوى حالكة إلى الحروب والثورات وما فيها من شرور، ينتج لنفسه من وسائل الدمار ما يجعله يرتد إلى الحياة البهيمية، ويقاسي من الآلام ما يجل عن الوصف. العلم الصحيح الدقيق في طبيعة البشر ذاتها، هو الذي سينقذه من ظلامه الحالي، ويطهره من عاره على سطح الأرض المعمورة)

ولد بافلوف في مقاطعة زيازان بروسيا. وتلقى العلم في بطرسبرج. وكان والده كاهناً ريفياً، وأقاربه مشهورين بأنهم محاربون من الطراز الأول. ولذلك كان بافلوف يهوى فلاحة البساتين والملاكمة وغيرها من الألعاب الرياضية التي تحافظ على قوة عضلاته. فقد كانت شيئاً ضرورياً له في الجراحة التي كان بارزاً فيها. وكان دقيقاً في مواعيد عمله، وأوقات راحته، فيثابر على العمل في ساعات معينة، وحينما ينتهي منه يترك معمله، إلى أن يعود إليه في ساعة معينة في صباح اليوم التالي. وكان ذا نشاط عظيم ومقدرة فائقة في كبح جماح نفسه.

وفي عام 1897 عين أستاذاً للفسيولوجيا بالأكاديمية الحربية. وفي عام 1907 أصبح عضواً من أعضاء علماء أكاديمية سان بطرسبرج. ومنح وسام كوبلي من الجمعية الملكية عام 1915.

وكان بافلوف لا يميل إلى البلشفية، ولذلك كان يناهضها في كل مكان، ولا يخفي كراهيته لها، بل يصرح بذلك لتلاميذه في كل مناسبة.

ثم اختفى ذلك الرجل العظيم خلف ستار روسيا الحديدي. وتساءلت الأوساط العلمية في أوربا إذ ذاك: ما الذي يحدث له هناك؟ وماذا يعمل في روسيا؟ وهل هو حي أو في عداد الأموات؟

وأخيراً، تبين، أنه على الرغم من عداوته للبلشفية، فقد بذل لينين مجهودات كبيرة لمده بالمهمات العلمية، وبذلك حصل على كل ما يلزمه لمواصلة أبحاثه.

وفي عيد ميلاده الخامس والستين، منحته الحكومة الروسية - وكان لا يزال ينتقدها - مبلغاً كبيراً من المال لتوسيع معامله، ومعاشاً سنوياً قدره 20 ألف روبل.

وظل يواصل أبحاثه الهامة حتى مات في سن السابعة والثمانين

محمد فتحي عبد الوهاب