مجلة الرسالة/العدد 831/نفسي حزينة حتى الموت
مجلة الرسالة/العدد 831/نفسي حزينة حتى الموت
للأديب أميل خليل بيدس
(الكلمة الأخيرة التي قالها خليل بيدس لشريكة حياته قبل أن
ينام ليظل نائماً، فلا يفيق من رقاده الأبدي)!
(نفسي حزينة حتى الموت)! ما أسمى نفسك هذه يا أبي؟ ما أنبل القلب الفياض بالعاطفة، المختلج بالشعور الهادئ الحزين الذي يستطيع وهو يعاني سكرات الموت ويشرب من كأس الحمام أن يعبر عن خلجاته بهذه الكلمات القليلة البسيطة؟!
ما أصفى هذه النفس الحزينة التي شاركت كل متألم ألمه، وعانت مع كل شقي لوعته، ورمضت مع كل من أرمضته البرحاء، وأثخنته ضربات الدهر بالجراح؟!
هكذا كان حزن نفسك وألمها! هكذا كانت تباريحك انعكاساً لتباريح البشرية، وصدى لبؤس الإنسانية، وصورة لما يعانيه إحساسك المرهف المصقول من شعور من يكون من المسئولين أمام الله للتخفيف من كروب الإنسانية وأوصابها!
كنت مملوءاً حياة، وكنت تحب الحياة وتحب كل ما هو حي، وكانت الحياة في نظرك هي الحركة والعمل، وكانت الحياة في ناموسك كل شيء جميل.
فالفن الجميل هو الحياة؛ والأدب الجميل هو الحياة؛ والإنسان الجميل في نفسه وقلبه وأخلاقه وأعماله وحزنه وألمه وفرحه وانشراحه، هو الحياة؛ وما عدا ذلك جميعاً فهو الموت والاندثار، وهو الفناء والزوال!
كنت تحب الحياة لأنك عشت في سبيل الحياة، وتفانيت من أجل الحياة، وجاهدت للإعلاء من شأن الحياة. . . والحياة من عمل الله وصنعه؛ والحياة هي الإنسانية التي أحببت والتي جاهدت من أجله وضحيت في سبيلها، لأنك أحببتها وأخلصت لها.
ما أرق هذا القلب المشبع بخوف الله، المستنير بهدى الله، العامل على خدمة الحياة التي خلقها الله!
ما أرق هذا القلب الذي شع نوراً ساطعاً ساحراً، وومضت فيه ومضات من القوة السماوية الكامنة فيه! ما أرق هذا القلب الذي ما نزع يوماً إلى النفاق والرياء، وما جنح مرة واحدة إلى المكر والخديعة والدهاء؛ بل كان عنوان الطيبة ورسولا من رسل الخير، أدى الرسالة التي ناطه الله بها خير أداء وعلى أحسن وجه وأتم صورة.
كنت تحيي الليل تسطر بدائعك الزاخرة. وكنت تتعذب في جسمك المتعب المرهق المحتاج إلى الراحة وإلى الغذاء. . كنت تقنع بالقليل من القوت تقيم به الأود، لأن نفسك الملهمة كانت (حزينة حتى الموت) ولأنك كنت تريد أن تسكب على القرطاس حروفاً متسقة العقود من الكلم الكثير الذي نصب الله لسطوره أبهى المعاني وأبدعها.
(نفسك حزينة حتى الموت) ولكن دمي جمد في عروقي، وقلبي تحول إلى حجر ساعة أراحك الموت من حزن نفسك. . .
(نفسك حزينة حتى الموت) ولكن صدري تمزق، وقلبي سالت دماؤه ساعة رأيت ضبابة الموت منتشرة على محياك. . .
وإن في فؤادي من نار الحزن ما يحرق جسدي. . لأن مرارة الحياة تمثلت لي بانفصالي عمن كان سبب وجودي وكياني.
أميل خليل بيدس