مجلة الرسالة/العدد 834/حرارة الصيف بين العلم والأدب
مجلة الرسالة/العدد 834/حرارة الصيف بين العلم والأدب
للأستاذ ضياء الدخيلي
يعاني اليوم قراء (الرسالة) في أنحاء الشرق الأدنى سطوة عامل فيزيائي يقسو على سكان بعض البلاد العربية ويخف بطشه بآخرين - ذلك هو ويل الأمواج الحرارية التي نصلي شواظها في هذه الفترة من الزمن فتنصب على رؤوسنا من هذا الكوكب الملتهب الذي سجر لظاه رب السماوات. فلنتحدث عن حرارة الصيف وما قال عنها العلم الحديث مخصصين عنايتنا بأثرها في أجسامنا، ثم فلنعرض شكوى الأدباء وعويل الشعراء من وهج بلاد العرب وكيف كانوا يتقون عنفها في المملكة العربية قبل أن ينعم أديسون وإخوانه - على البشرية بالكهرباء ومراوحه السحرية، ومولدات الثلج في لحظات تغلب خطو الأماني عبر الدياجي إلى تخوم الوجود.
لعل من مظاهر الرفق ومجالي العطف على القارئ الكريم أن لا تفحمه أبحاث علماء الفيزياء في الحرارة فالمثل يقول: (لا تكن أنت والزمان عليها). فليس من لطف الإنسانية أن نخوض به غمار تلك الأبحاث المتعبة التي يشكو اليوم من ويلاتها الطلبة وهم على أبواب الامتحانات فلنغض عن حديث ما تسببه الحرارة من تمدد في الغازات والسوائل والأجسام الصلبة، ولنضرب صفحاً عن معاملي التمدد الحجمي والطولي فلا نريد أن نبني جسوراً فولاذية في رأس القارئ الكريم وهو يرزح تحت سطوة الحر في بلاد العرب، ولنترك للطلبة استظهار الحرارة النوعية وبحث الانصهار والجمود تلك الأبحاث التي اعتادوا أن يجمدوها في حافظتهم لساعة الامتحان الحرجة حتى إذا انغمروا في لهو العطلة الصيفية انصهرت معلوماتهم، فكأنما كانت تماثيل من الثلج أذابتها حرارة الصيف وتلاشى قانون (بويل) كما غاب نفس بويل قبله في عالم العدم وتصاعدت المعلومات متطايرة بعد أن تكاثفت لخزنها لأوقات الامتحان ولنصم آذاننا عن تعريف الفيزيائيين للحرارة بأنها (عبارة عن طاقة حركية للجزيئات) ولكن لنصغ إلى ذلك الأديب يعرف لنا الحرارة تعريفاً شعرياً. وقديماً عد اليونان في علم المنطق من أساليب البرهنة - القياس الشعري وضربوا له المثل بقولهم: (الخمر مرة مهوعة) فالحق أن التعريف الشعري والبرهان الشعري أقوى تأثيراً في نفوس الناس من الأبحاث الدقيقة القائمة على الإحصاءات، فأكثر الذ إلى الهيام بالخمر جذبتهم أخيلة الشعراء الذين وصفوها بأنها ياقوتة ذائبة تطير بالنفوس بأجنحة الخيال في عالم الأفراح. ولو قالوا إنها سم يشل مراكز التفكير العليا لكانوا أقرب إلى الحقيقة. ولكنهم يبعدون عن تفكير الجماهير العمياء التي لا يقودها غير عاطفتها. وإذن فلنترك الأديب يحدثنا عن الصيف وحره فيقول (كما أورده النويري في نهاية الأرب في فنون الأدب).
(أوقدت الظهيرة نارها، وأذكت أوارها. فأذابت دماغ الضب، وألهبت قلب الصب. هاجرة كأنها من قلوب العشاق، إذا اشتعلت بنيران الفراق، حر تهرب له الحرباء من الشمس، وتستجير بمتراكب الرمس، لا يطيب معه عيش، ولا ينفع معه ثلج ولا خيش، فهو كقلب المهجور، أو كالتنور المسجور) هذا مما قيل في حرارة الصيف نثراً، وأما الشعر فحسبك منه ما يلي: قال ذو الرمة:
وهاجرة حرها واقد ... نصبت لحاجبها حاجبي
تلوذ من الشمس أطلاؤها ... لياذ الغريم من الطالب
وتسجد للشمس حرباؤها ... كما يسجد القس للراهب
(في المنجد: حاجب الشمس ناحية منها وأول ما يبدو منها مستعار من حاجب العين، وحواجب الشمس أشعتها) وقال مسكين الدارمي:
وهاجرة ظلت كأن ظباءها ... إذا ما اتقتها بالقرون سجود
تلوذ بشؤبوب من الشمس فوقها ... كما لاذ من حر السنان طريد
وقال ابن الفقيسي:
في زمان يشوي الوجوه بحر ... ويذيب الجسوم لو كن صخرا
لا تطير النسور فيه إذا ما ... وقفت شمسه وقارب ظهرا
ويود الغصن النضير به لو ... أنه من لحائه يتعرى
وقال أيضاً:
يا ليلة بت بها ساهداً ... من شدة الحر وفرط الأوار
كأنني في جنحها محرم ... لو أن للعودة مني استتار
وكيف لا أحرم في ليلة ... سماؤها بالشهب ترمي الجمار وقال آخر:
ويوم سموم خلت أن نسيمه ... ذوات سموم للقلوب لواذع
ظللت به أشكو مكابدة الهوى ... فكوزي ملآن ومائي فارع
وقال محمد بن أبي الثياب شاعر اليتيمة:
وهاجرة تشوي الوجوه كأنها ... إذا لفحت خدي نار توهج
وماء كلون الزيت ملح كأنه ... بوجدي يغلي أو بهجرك يمزج
وقال الثعالبي:
رب يوم هواؤه يتلظى ... فيحاكي فؤاد صب متيم
قلت إذ صك حره حر وجهي ... (ربنا اصرف عنا عذاب جهنم)
ولقد تقدم من ذلك الأديب أن وصف حر الصيف بأنه: (لا يطيب معه عيش ولا ينفع معه ثلج ولا خيش). فما هو الخيش؟ يحدثنا الطبري وياقوت في معجم الأدباء إنه كانت عادة الأكاسرة أن يطين سقف بيت في كل يوم صائف فتكون قيلولة الملك فيه وكان يؤتي بأطباق الخلاف (وهو صنف من الصفصاف طوالا فتوضع حول البيت ويؤتي بقطع الثلج الكبار فتوضع ما بين أضعافها. وكانت هذه عادة الأمويين أيضاً؛ ولكن في عهد المنصور العباسي اتخذت طريقة أخرى للتبريد فكانوا ينصبون الخيش الغليظ ولا يزالون يبلونه بالماء فيبرد الجو (في المنجد: الخيش نسيج خشن من الكتان)
وكان أهل الترف في ذلك العصر يستعيضون عن دخول السراديب بنصب قبة الخيش أو بيت الخيش.
وفي لطائف المعارف للثعالبي (وكان الخيش ينصب على قبة ثم اتخذت بعدها الشرائح فاتخذها الناس). وحكى المقدسي في كتابه (أحسن التقاسيم، في معرفة الأقاليم): أنه رأى في دار عضد الدولة البويهي بشيراز بيوت الخيش يبللها الماء على الدوام بواسطة قنوات حولها من فوق.
قال الأستاذ آدم متز في كتابه (الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري) يظهر أن طريقة استعمال الخيش وسيلة لتبريد الهواء كانت شائعة في بغداد جداً؛ إذ يحكى عن أحد القواد في القرن الرابع الهجري أنه لم ير فرقة من الجند أتت من بغداد أهلا للقيام بغزوة هامة لأنهم في رأيه قد ألفوا بيوت دجلة وشرب النبيذ والثلج وبيوت الخيش المبلل وسماع القيان كما نقل ذلك ابن مسكويه.
وقال الغزولي في مطالع البدور: وكان يستعمل في البيوت صيفاً مروحة تشبه شراع السفينة تعلق في سقف البيت ويشد بها حبل يديرها وهي تبل بالماء وترش بماء الورد؛ فإذا أراد الرجل أن ينام وقت القائلة جذبها بحبلها فتذهب بطول البيت وتجئ فيهب منها نسيم بارد طيب.
وجاء في جمهرة الإسلام للشيرازي وكتاب المحاسن والمساوئ للبيهقي (أنه كانت حراقات دجلة التي يستعملها رجال الدولة في غدوهم ورواحهم يعد فيها الثلج ويعلق عليها الخيش المبلل بالماء وكانت ترخى على الخيش ستور الكرابيس).
وقد رأيت في كتاب أساس البلاغة للزمخشري ما نقله عنه في تاج العروس من أن (الحراقة هي سفينة خفيفة المر). أما الكرباس فهو كما في المنجد: الثوب الخشن جمعه. كرابيس والكلمة من الدخيل.
وكان أهل بغداد ينامون في ليل الصيف على سطوح البيوت يدل على هذا ما حكاه معظم المؤرخين كابن الأثير في الكامل وابن الجوزي في المنتظم وغيرهما - من ظهور حيوان يسمى الزبزب في عام 394هـ كان بحسب زعم الناس يأكل الأطفال بالليل من على السطوح وما كان حيواناً بل وهماً نشأ من وجود اللصوص. ويقول ابن الجوزي في المنتظم إنه في تموز من سنة 308هـ برد الجو حتى نزل الناس من السطوح وتدثروا باللحف؛ هذا في مدينة بغداد أما في آمل وهي كما في المعجم لياقوت أكبر مدينة بطبرستان في السهل لأن طبرستان سهل وجبل - لقد كانت السطوح في آمل مسنمة لكثرة الأمطار صيفاً وشتاء كما نقل ذلك الاصطخري في مسالك الممالك.
أما في اليمن فيحدثنا أبو محمد الحسن بن أحمد الهمداني في كتابه صفة جزيرة العرب - فكان الغالب على صنعاء البرد حتى كان إذا اشتد بها الصيف ودخل الرجل ليقيل على فراشه لم يكن له بد من أن يتدثر لأن البيوت باردة بسبب القصة (الجصة) التي تشبع بها (تطين) بواطن البيوت لأن الجص في صنعاء يخلط بمادة غروية هناك فيظهر للبناء بعد جفاف الجص بريق جوهري كبريق المصقول من الجواهر؛ وتشبه الجدران في بياضها الفضة.
وربما دخل الرجل في صنعاء في المخدع على فراشه وأطبق عليه الباب وأسبل السترين والسجف فلا يتغير ضياء البيت لما في الجدران والسقف من الرخام؛ بل إذا كان في السقف رخامة صافية نظر عوم الطائر بظله عليها إذا حاذاها وتؤدي الرخامة لمعان الشمس إلى القصة فتقبلها بجوهرها وبريقها.
ولكن في سامراء من العراق كانوا يستخدمون السراديب تحت الأرض. قال آدم متز: لقد كشفت لنا حفائر سامراء عن طريقة بناء الدور عند أهل العراق في القرن الثالث الهجري حيث كانت تشتمل على سراديب للسكني مهيأة بوسائل التهوية. ولا نجد فيها بين أيدينا من أخبار القرن الرابع في العراق ما يدل على استعمال السراديب للسكني في فصل الصيف ولا تشير إلى ذلك أية حكاية من الحكايات الكثيرة التي ترجع إلى ذلك العصر
وفي كتاب العيون أنه كان السرداب في ذلك العصر عبارة عن مكان تحت الأرض فيحكى مثلا أن الخليفة المقتدر أمر بحفر سرداب لمؤنس وأن مؤنساً وقع فيه ومات، هذا ما نقله ولكن الذي في كتب التاريخ أن مؤنساً هو الذي قتل المقتدر على يد أصحابه.
ويقول عريب وكان عند رجل في داره سرداب تحت الأرض عليه باب من حديد. بل يحكى عن مروج الذهب أنه في عهد المنصور سير جماعة من أبناء علي إلى الكوفة وحبسوا في سرداب تحت الأرض لا يفرقون فيه بين ضياء النهار وسواد الليل. وفي مقاتل الطالبيين عن رجل كان مسجوناً مع يحيى العلوي في عهد الرشيد، وكان الرشيد يعذبه تعذيباً مؤلماً حتى مات من وقع السياط، وكان اسم السجن المطبق وهو تحت الأرض وكان من شدة ظلامة لا يعرفون أوقات الصلاة فيه.
وإذن فالسراديب لم تكن في صدر الدولة الإسلامية متعارفاً استعمالها لاتقاء الحر في بغداد، وإن كانت موجودة في السجون التي يحبس بها العلويون الذين كان بنو العباس يخشون من ثوراتهم قال آدم متز.
ويرجع أصل عادة اتقاء الحر الشديد بالنزول في السراديب إلى بلاد آسيا الوسطى حيث يحكى لنا الرحالة وانج بن تي في عام 981م أن بعض أهل تلك البلاد يسكنون في الصيف غرفاً تحت الأرض. أما في بلاد الإسلام لذلك العهد فقد كانت مدينة زرنج أكبر مدن سجستان ومدينة ارجان بفارس أول مدينتين اتخذ أهلها في الصيف سراديب تحت الأرض يجري فيها الماء كما نقل ابن حوقل في كتابه صورة الأرض.
قال ياقوت في معجم البلدان إن أرض سجستان كلها رملة سبخة والرياح فيها لا تسكن أبداً ولا تزال شديدة تدير رحيهم وطحنهم كله على تلك الرحى. وفي القرن الخامس الهجري يفكر الرحالة الفارسي ناصر خسرو أن من خصائص مدينة أرجان أن فيها من الأبنية تحت الأرض مثل ما فوقها وإن الماء يجري تحت الأرض وفي السراديب وفي أشهر الصيف يستروح الناس فيها.
ويذكر المقريزي بعد ذلك بقرون (إن من محاسن مصر أن أهلها لا يحتاجون في حر الصيف إلى الدخول في جوف الأرض كما يعانيه أهل بغداد). وأما اليوم فقد ضربت مدينة النجف الأشرف في العراق الرقم القياسي في استعمال السراديب، وذلك لأنها واقعة على أرض مرتفعة في الصحراء قد جذب المسلمين إليها قبر الإمام علي (ع) فازدحم حوله علماء الإسلام فقامت حركة علمية جبارة وقصدها طلاب العلم في أطراف العالم الإسلامي، ففيها الطلبة من أنحاء إيران والعراق ومن لبنان وسورية والحجاز والصين والهند وأفغانستان وسمرقند وبخارى وغير ذلك فهي مقر (الأمم الإسلامية المتحدة) وإن هؤلاء المهاجرين يعانون من قسوة الصيف ولذع هاجرة الصحراء - أعنف التعذيب لو لم يتفنن النجفيون في نحت السراديب تحت الأرض فيحفرون في طبقات الأرض حفراً عميقاً جداً حتى يصلوا إلى طبقة صخرية يسمونها (السن) فيضربونها بالمعاول ضرباً قوياً عنيفاً حتى يثقبوا تحتها ممراً فينتهون إلى طبقة رملية سريعة الإزالة وإن كان في تضاعيفها صخور كبيرة فإذا حفروا تحتها فسحة تسع أهل البيت برفاهية أووا إليها في هاجرة الصيف فإذا البرد الشديد الذي لا يطاق إلا بالتدثر باللحف على حين أن الحرارة الملتهبة على سطح الأرض تشوي الوجوه؛ وبذلك يستغني النجفيون عن الثلاجات ولاسيما إذا وصلوا تلك السراديب بالآبار حيث تجهزهم بالهواء النقي من أعلى. ولعل هذه العادة اقتبست من أواسط آسيا حيث يكثر في النجف المهاجرون في تلك الأنحاء الإسلامية. وتبلغ السراديب أرقى درجات الإتقان في مدارس الفقهاء ولاسيما مدرسة السيد كاظم اليزدي التي من محاسن مرافقها (الزنبور) وهو طريق للهواء يهبط من أعلاه ثم يمر تحت أرض السرداب فيكوِّن تحتها تجويفاً يقلل الرطوبة فيه. ثم إن ذلك الطريق ينتهي بثقب صغير في وسط أرض السرداب فيخرج منه الهواء الملطف البارد. وهكذا يحتمي الطلبة فتطيب لهم دراسة الفلسفة والمنطق والرياضيات وعلوم الأدب والشريعة وقد أنتجوا الكتب الكثيرة فيها.
(البقية في العدد القادم)
ضياء الدخيلي