مجلة الرسالة/العدد 835/القصص
مجلة الرسالة/العدد 835/القَصَصُ
قصة طفل
للكاتب الإنجليزي شارلس ديكنز
ترجمة الأستاذ محمد فتحي عبد الوهاب
يحكي أنه منذ سنوات كان هناك مسافر، يقوم برحلة سحرية. فقد وجد عندما بدأ القيام بها، أنها تبدو طويلة جداً، وقصيرة جداً عندما وصل إلى منتصفها.
وسار في طريق حالك بعض الوقت دون أن يقابل أحداً. ثم التقى أخيراً بطفل جميل، فقال له (ماذا تفعل هنا؟ (فأجاب الطفل) أني دائماً في لهو ومرح، فتقدم وامرح معي!).
ولعب مع الطفل طول اليوم، وكانا سعيدين. كانت السماء زرقاء، والشمس مشرقة، والماء متألقاً، وأوراق الشجر مخضرة، والأزهار يانعة. واستمعا إلى تغريد الطيور، وشاهدا مختلف الفراش، وراقبا هطول المطر، واشتما الروائح الزكية. وكانا يسران من الاستماع إلى هبوب الرياح، ويتخيلان ما تهمس به، عندما تندفع مقبلة من موطنها. ويتساءلان في عجب عن أصل نشأتها، وهي تصفر وتزمجر، وتدفع بالسحب أمامها، وتحني الأشجار في طريقها، وتندفع خلال المداخن، وتهز الديار هزاً، وتثير غضب البحر فيهدر مزمجراً. وما أجمله مشهداً عندما يتساقط الجليد، فيتمتعان برؤية البرد النازل في سرعة وغزارة، وكأنه الزغب الساقط من صدور ملايين الطيور البيضاء. ويشاهدان تراكم الثلج الناعم، ويستمعان إلى الهمسات الصادرة من الدروب والطرقات. وكان لديهما العديد من أجمل الألعاب في العالم، وأغرب الكتب المصورة.
ولكن في ذات يوم، وعلى غير انتظار، تفقد المسافر الطفل فلم يجده. وناداه مرات ومرات دون أن يسمع مجيباً. فتابع سيره في طريقه، ومشى مدة من الزمن دون أن يقابل أحداً، حتى التقى أخيراً بصبي حسن الطلعة، فقال له (ماذا تفعل هنا؟) فأجاب الصبي (إني أتعلم، هلم وتعلم معي).
وأخذ يتعلم مع الطفل عن جوبيتر، وجونو، والإغريق والرومان، وشتى مختلف العلوم. وكان لديهما بجانب ذلك أبهج أنواع الألعاب الرياضية. فكانا يجدفان في النهر صيفاً وينزلقان على الثلج شتاء، ويعدوان في نشاط، أو يمتطيان صهوات الجياد. وهكذا كانا يمارسان شتى أنواع الرياضة، حتى أصبحا لا يفوقهما أحد فيها. وكانت لهما حفلات للرقص، ومسارح يتمتعان فيها برؤية قصور من الذهب واللجين. وشاهدا كل عجائب العالم. وكان لديهما من عزيز الأصدقاء ما لا يعد ولا يحصى.
ومع ذلك، ففي ذات يوم افتقد المسافر الصبي مثلما افتقد الطفل وبعد أن ناداه دون جدوى تابع رحلته. وسار فترة من الزمن دون أن يشاهد أحداً، حتى التقى أخيراً بشاب، فسأله (ما الذي تفعله هنا؟) فأجاب الشاب (إني أعشق دائماً. أقبل واعشق معي).
وسار المسافر مع الشاب فالتقيا بفتاة من أجمل ما شاهد من الفتيات، ذات عينين نجلاوين، وشعر أثثيت، وابتسامة خلابة ووجه مشرق. ووقع الرجل في حبها من النظرة الأولى. ومعذلك كانا يغضبان في بعض الأحيان، ويتشاجران، ويتخاصمان ويجلسان في الظلام يكتبان الرسائل كل يوم. ويختلسان النظر إلى بعضهما، ثم يصطلحان في حفلة عيد الميلاد، ويعتزمان الزواج في أقرب وقت.
ولكن المسافر تفقدها ذات يوم مثلما تفقد الشاب فلم يجدها، وبعد مناداته عليهما تابع رحلته. ومشى فترة من الزمن دون أن يرى أحدا، ثم التقى أخيراً بسيد متوسط العمر فقال له (ماذا تفعل هنا؟) فأجاب (إني مشغول دائماً. تعال واشتغل معي).
وهكذا تعددت مشاغله. وذهب مع السيد إلى الغابة. وأصبحا يرحلان إليها كثيراً. وكانت الغابة بادئ ذي بدء مكشوفة خضراء ثم أخذت تتكاثف وتظلم، وحاول لون أشجارها التي كان قد ألتقي بها مبكراً إلى لون قاتم. ولم يكن السيد وحيداً، بل كانت ترافقه سيدة في مثل عمره، وهي زوجته. وكان لهما أولاد أيضاً. وذهبوا جميعاً يخترقون الغابة، ويقطعون الأشجار وينشئون دروبا بين الأفنان، ويعملون في حرارة.
وكان أحيانا يقابلهم طريق أخضر مكشوف في غابات كثيفة. ويستمعون إلى صوت على مقربة منهم يقول (أبتاه، أبتاه، أنا طفل آخر! انتظرني!) ثم يشاهدون شخصا صغيرا جدا ينمو ويكبر وهو مقبل يعدو ليلحق بهم، حتى إذا ما وصل، التفوا حوله، وقبلوه، ورحبوا به، ثم تابعوا سيرهم جميعا.
وكانوا أحيانا يلتقون بطرق مختلفة في وقت واحد فيقفون. ثم يقول أحد الأولاد (أبتاه إني ذاهب إلى البحر) ويقول الآخر (أبتاه، إني راحل إلى الهند)، والثالث (إني مسافر لأبحث عن الثروة أينما استطعت) ويقول الرابع (أبتاه، إني مرتفع إلى السماء!) وهكذا يفترقون وقد فاضت دموعهم في غزارة. ويذهبون، كل منهم في طريق من هذه الطرق. ويرتفع الطفل الصاعد إلى السماء، يرتفع في الهواء الذهبي، ثم يختفي.
وكان حينما يحدث مثل هذا الفراق، ينظر المسافر إلى السيد فيشاهده يتطلع إلى السماء فوق الأشجار، حيث يأخذ النهار في المضي، وتبدأ الشمس في الغروب. ويلاحظ شعره وقد اشتعل شيباً.
ثم ساروا يقطعون رحلتهم دون أن يستريحوا لحظة. فقد كان من الواجب عليهم أن يكونوا منشغلين. وهكذا أقبلوا على طريق أكثر حلكة من غيره، واندفعوا في رحلتهم، عندما وقفت السيدة وقالت (زوجي، أنهم ينادونني).
فأصغوا فاستمعوا إلى صوت آت من بعيد يقول (أماه، أماه!) كان صوت الطفل الأول الذي قال أنه صاعد إلى السماء. وقال الأب (لا تذهبي الآن، أرجوك، إننا على وشك الغروب، لا تذهبي الآن، أرجوك). ولكن الصوت نادى (أماه، أماه) دون أن يبالي به ولا بما أصبح عليه السيد من بياض الشعر وغزارة الدمع.
وعندئذ قبلت الأم زوجها وهي تبتعد عنه، وتنسحب في الطريق المظلم، وتحرك ذراعيها ولا يزالان ملتفتين حول عنقه. وقالت له (يا أعز أعزائي، لقد نادوني، وها أنذا ذاهبة) ثم رحلت، وظل الزوج والمسافر وحيدين.
واستمرا في سيرهما حتى اقتربا من نهاية الغابة. فاستطاعا أن يشاهدا الشمس تغرب أمامها بأشعتها الحمراء خلال الأشجار.
وبينها كان المسافر يشق طريقه خلال الأفنان، إذ فقد الرجل. ونادى، ثم نادى دون مجيب. وأخيرا سار وحيدا حتى أقبل على رجل كهل جالس على شجرة ساقطة، فقال له (ماذا تفعل هنا؟) فأجاب الكهل في ابتسامة وديعة (إني أتذكر دائما. أقبل وتذكر معي!).
وهكذا جلس بجوار الكهل وجهاً لوجه يشاهد غروب الشمس الصافية وجعل يتذكر، فأقبل عليه أصدقاؤه عائدين في هدوء، ووقفوا وأحاطوا به. الطفل الجميل، والصبي الحسن الطلعة، والشاب العاشق، والأب والأم والأولاد. كانوا كلهم حوله. ولم يفقد منهم أحداً.
وهكذا أحبهم جميعاً، وكان رحيما رفيقاً بهم، ومسروراً بوجودهم. وكانوا يجلونه ويعشقونه.
وأظن أن هذا المسافر هو أنت يا جداه؛ لأن هذا هو ما فعلته بنا، وهذا ما فعلناه بك.
محمد فتحي عبد الوهاب