مجلة الرسالة/العدد 835/الكتب

مجلة الرسالة/العدد 835/الكتب

ملاحظات: بتاريخ: 04 - 07 - 1949



اليوم خمر

تأليف الأستاذ محمود تيمور بك

بقلم الأستاذ كامل محمود حبيب

ما يبرح الأستاذ تيمور يحبو صحابه بكرمه، فهو لا ينسى - أبداً - وشائج الصداقة الأدبية، ولا يغفل أواصر المحبة الروحية، ولا يغضي عن روابط الإخاء والود، فهو - دائماً - يخصهم، أول ما يخص، بمؤلفاته وكتبه، ولقد أهدى إلي - أخيراً - مسرحيتين هما (المخبأ رقم 13) و (اليوم خمر).

وإنه ليعز علي أن أتحدث عن (اليوم خمر) قبل أن أقف حيناً بازاء مسرحيته (المخبأ رقم 13) فلقد ألفيت فيها روحاً وثابة متألقة وفناً عالياً رقراقاً وجمالاً في السبك وقوة في الأداء وسمواً في التصوير. ووجدته قد جمع فيها أخلاطاً من الناس اختلفت مشاربهم وتنافرت بيئاتهم وتضاربت ثقافتهم، ثم أنطقهم بحديث يكشف عن خلجات نفوسهم وخواطر عقولهم، فجاء الحديث قوياً لم يصبه الفتور ولا الضعف ولم يشبه الإخفاق ولا الوهن. وإنك لتعجب أشد العجب أن يتقمص المؤلف روح الرجل الأرستقراطي المهذب وروح السوقي الوضيع في وقت معاً فلا يخطئه التوفيق في التعبير عن نوازع نفسيهما ولا يفلت من بين يديه زمام التحليل السيكولوجي. ولا يسف في حادثة ولا يتصنع الحديث ولا يتكلف الحبكة الفنية. . . هذه - ولا شك - هي عبقرية الفنان ونبوغ القاص وتجربة المجرب. . .

أما مسرحية (اليوم خمر) فهي قصة حياة امرئ القيس الشاعر العربي الجاهلي المعروف من لدن كان فتى غض الإهاب في العشرين من عمره إلى أن خذله قيصر الروم فأحس خيبة المسعى وضياع الأمل. وإن القارئ ليعجب أن وفق المؤلف توفيقاً عجيباً حين التزم أسلوب البداوة في قوة التعبير وجزالة اللفظ ورصانة الأداء ليخرج لنا من حياة الشاعر تمثيلية فيها روح هذا العصر، وإنه ليحس - مع ذلك - بأشخاص الرواية ينبضون بالحياة ويخفقون بالإنسانية مما يدل على سمو الفن في روح المؤلف وسلامة ذوقه. ولا عجب أن يستنبط الأستاذ تيمور - وهو فنان عظيم - مسرحية مسلسلة مترابطة الأوصال متماسكة الجوانب، يستلهما من حوادث التاريخ المضطربة المتداعية، فهذا عمل لا يتأتى إلا لمثله، وهو فتح عظيم في هذا المضمار الشائك.

وإن الحوار ليبلغ غاية القوة والإتقان في مواقف ثلاثة: في يوم دارة جلجل حين هبط امرؤ القيس على العذارى وهن يبتردن في الغدير. وفي تصادم الشاعر مع أبيه وهما إلى جانب ذي الخلسة، حين تصارعت قوتان: قوة الملك حجر الجبار القاسي وقوة الفتى البوهيمي الذي لا يؤمن بمقاييس الحياة المادية ولا يخضع إلا لشهوات عقله وجسمه. وفي موقف امرئ القيس من وفد بني أسد حين أقبلوا إليه يترضونه ويستغفرون لزلتهم أن ثار بعض صعاليكهم بأبيه الملك فقتلوه. . .

ولقد أراد المؤلف فأبان عن كثير من خصال الشاعر: فهو رجل عربيد داعر لا يرده الحياء ولا يمسكه الخجل فيقف على غدير دارة جلجل موقفاً مشيناً فيضطر العذارى إلى أن يخرجن إليه عاريات. . . وهو - في حادثة أخرى - يجلس إلى فاطمة ابنة عمه يغازلها ويغريها بأمر في الساعة التي علم فيها بمقتل أبيه حجر فترده فاطمة بقولها (أصبابة وهيام في مثل هذا المقام؟ لقد أفقدتك الخمر رشدك وهاجت في نفسك شجوناً ليس هذا حينها) ولكنه يجيبها في استهتار وخفة (إن الحب يا فاطمة لا يضرب له وقت موعد ولا يعين له حين. . . أحبك، يا فاطمة، أحبك في كل آن. . . ما ضرنا اليوم وقد زالت من طريقنا العوائق أن نحقق حلمنا القديم، يا طالما حالوا بيننا وبين وصالنا. أما الآن فلا حائل يحول). هذا - ولا ريب - كلام رجل لا يشعر بالعبء الذي يثقل كاهله؛ فلا هو أحس الحزن لمقتل أبيه ولا هو ارعوى فاحترم مصيبة ابنة عمه في أبيها وفي أبيه في وقت معاً.

وهو رجل متلاف لا يبقى على شيء مثلما قال خادمه حنظلة. . (أخبرني فديتك، ماذا بقى لهذا الأمير من جاهه وثرائه؟ أنه كما ترى لا يبقي على شيء. ولست أدري إلى أين ينتهي به وبنا المساق ألم يتنكر له أبوه فيغدو شريداً طريداً؟)

وهو رجل خال من الفحولة، فلقد غبر زماناً يدفعه الشوق إلى أقحوان الغانية، حتى إذا ظفر بها وخلا إليها خانته رجولته فارتدت الفتاة عنه مغيظة يبدو عليها النفور لتقول لرفاقه: (إن صاحبكم ليتشدق بالطعن والضرب، آخذا للحرب أهبتها في كل وقت، فإن حانت ساعة العراك تبوأ مقعده يرقب السماء ويحصي نجوم الليل). هذا تعبير قوي عن خلة من خلال الشاعر يعرفها له التاريخ ولكنه تعبير يترفع عن الإسفاف والضعة.

ولكن القصة مثلت امرأ القيس فتى داعراً لم تغيره الحوادث ولا عركته السنون ولا أصابه الوهن يتراءى في كهولته فتى في الثلاثين غزلا يتشبب بالنساء ويفرغ للكأس، عزباً يرنو إلى فاطمة حيناً والى ابنة قيصر حيناً آخر. . غير أن التاريخ يقول أنه تزوج من أم جندب بعد أن تزوجت فاطمة من أبي عنبسة وإن قصة تحكيم أم جندب فيما شجر بين امرئ القيس وبين علقمة الفحل قصة يعرفها كل من قرأ تاريخ الأمير الشاعر.

لست أنكر أن تاريخ العرب في الجاهلية مضطرب اضطراباً كبيراً لا تجمعه آصرة ولا تربطه صلة ولا يدعمه سند، ولكن فيه حوادث ثابتة أجمع المؤرخون على صحتها. وما كان للمؤلف أن يغفلها في مسرحيته، أو أن يضع شيئاً مكان شيء إلا أن تكون قد تضاربت الروايات.

وهكذا انضمت المسرحية على بعض المآخذ التاريخية منها: أن المؤلف جمع بين يوم دارة جلجل وبين حادثة عفو الملك حجر عن أسرى بني أسد. . . جمعهما في قرن في حين أن الحادثتين كانتا في مكانين مختلفين ويفصلهما زمان طويل. ومنها أن المؤلف أقحم صمصاماً في نهاية الفصل الرابع من المسرحية ليوحي إلى امرئ القيس بأن يطلب العون من قيصر الروم وليزين له الرحلة إلى القسطنطينية في حين أن التاريخ يجزم بأن السمؤال بن عاديا هو الذي مهد السبيل لامرئ القيس كي يبلغ بلاد الروم في أمان ويستقر هناك في هدوء. . . ومنها ما جاء في ختام القصة حين فر امرؤ القيس ورفاقه من القسطنطينية، وهذه حادثة لم نعثر لها على أصل في ما لدينا من مراجع إلا أن تكون قد حاكتها يد فنان بارع. وأنى لرجل من أعداء قيصر أن يفر من بين يدي جنده وحراسه وجواسيسه وهم يملئون أرجاء المدينة وشعابها؟ أما التاريخ فإنه يقول أن قيصر كان يخشى سطوة الأمير الشاعر فأهدى إليه حلة مسمومة فلبسها فأصابته القروح وتناثر لحمه ومات في أنقرة وهو في طريقه إلى حرب كسرى على رأس كتيبة من جيش عرمرم.

هذه - ولا شك - هنات هينات لا تضع من قيمة الجهد العظيم الذي اضطلع به القصاص الكبير الأستاذ تيمور.

كامل محمود حبيب