مجلة الرسالة/العدد 838/أمم حائرة

مجلة الرسالة/العدد 838/أمم حائرة

ملاحظات: بتاريخ: 25 - 07 - 1949


12 - أمم حائرة

العدل

لصاحب العزة الدكتور عبد الوهاب عزام بك وزير مصر المفوض

بالمملكة السعودية

إذا اجتمعت النفس بالإيمان، وقويت واستنارت، وارتقت إلى عالم المعاني، وأنِست بالمعاني الجميلة العامة، وأحست الوئام والسلام، ونفرت من النزاع والخلاف، وانطلقت من حدود الأهواء والشهوات والرغبة والرهبة والعصبية، وعلت على الزمان والمكان - حينئذ تؤهل للحق والخير والجمال والعدل والإحسان وإذا أهلت النفس للعدل. وسكنت إليه وآثرته كانت أهلا لأداء الأمانة التي قال فيها القرآن:

(إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبينَ أن يحملنا وأشفقَ منها وحملها الإنسان).

وكانت أهلا لخلافة الله في الأرض، أي القيام بعدله بين خلقه، وجهدت للارتقاء إلى منزلة العدل، العدل المطلق، في الرغبة والرهبة، والمنشط والمكره، والرضا والغضب، ومع القريب والبعيد، والعدو والصديق، في كلُّ حين وعلى كلُّ حال.

العدل الذي قال فيه القرآن:

(يا أيها الذين آمنوا كونوا قوَّامين لله شهداء بالقسط، ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا هو أقرب للتقوى)

وقال: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين)

فتجعل النفس هذا العدل قصدها وغايتها، وغايتها، وأملها ومنيتها، وتسير إليه دائبة، وتعمل له جاهدة، حتى تبلغه أو تقاربه، أو تبقى راغبة فيه، سائرة إليه على قدر الطاقة، حتى تبلغ أو تقارب أو تنقطع دونه وقد سارت إليه مراحل، وضربت في طريقها أمثالا وخلقت فيه آثاراً.

بهذا العدل قامت السموات والأرض، واستقامت الخليفة، واتسقت أمور الأمم.

(والسماء رفعها ووضع الميزان، ألاّ تطغوا في الميزان، وأقيموا الوزن بالقسط ولا تُخسِرو الميزان)

فإذا عدل الواحد فيما بينه وبين الناس، وعدلت الجماعات فيما بينها، والتزمت العدل وآثرته ومرنت عليه ودأبت، زال البغي والعدوان والطغيان، وكل ما يمت إلى هذه المعاني، مما هو خلل في النظام، وميل في الميزان وحيد عن الائتلاف والوئام، ونزوغ إلى الاضطراب والخصام.

وإذا زال التنافر والتنازع والتغابن في صورها الكثيرة، وأحوالها المختلفة، وغلبت قوانين العدل المؤلفة الجامعة، وأخذ الوحدان والجماعات بالحق وأعطت به، وصرَّفت صغار الأمور وكبارها بالعدل، ائتلفت الأعمال، وانقلب البغض حباً، والاختلاف ائتلافاً، والخصام وداً، والتنازع تعاوناً، والتقاطع تعاضداً.

تمثل الوجدان والجماعات، وقد أخذ كلُّ حقه وأعطى حق غيره، وتعاونت الألسن والأيدي والقلوب على خير وسعادة الناس، وتحول هذا الجهد الدائب والعمل الناصب في تدريب الجند، وإعداد السلاح، وتدبير خطط القتال، للتسلط والغصب والجور، إلى اجتهاد في إسعاد الناس دون تفريق بين شرقي وغربي وأسود وأبيض. وانقلب مصانع الدمار وآلات البور مصانع للعمران وآلات لرغد العيش، وجلب الرفاهية للناس ودفع الشر ومغالبة الفقر والمرض وما يتصل بهما من بؤس وتعاسة.

تمثل هذا ثم اعجب لهذه الإنسانية الضالة، والبشرية الشقية تملأ الأرض والسماء عداء وقتالا، وتشغل بالقتال والإعداد له عن خيرها وسعادتها، ثم تحاول بعد كلُّ معركة غسل الدماء، وضمد الجراح، ودفع البؤس غير آلية في الإعداد للمعركة الأخرى. ولن يستقم للناس العمل للخير والشر والسعادة والشقاء معاً، لن يستقم العمل للحرب والسلم، والسعي للعمران والدماء سواء؛ فإما عملوا للشر والتعاسة. يرجون النجاة ولا يسلكون مسالكها، ويقصدون الخير ولا يسيرون على نهجه!

(ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلنا جنات النعيم. ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم).

(ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا عليهم بركات من السماوات والأرض).

كلُّ هذا القلق وهذا الشقاء مما حاد الناس عن العدل.

إن آفة الناس في البغي والعدوان، وشقائهم في الاثرة والعصبية التي تحيد بهم عن العدل، وتنأى بهم عن النحاب والتعاون.

وإذا تعامل الناس بالعدل بينهم، وضعفت الأثرة أو امّحت في نفوسهم، أرتقوا من بعد درجات إلى الفضل في المعاملة، والإيثار فيما بينهم. وراء هذا درجات من السعادة لا تنتهي.

يرى كثيراً من الناس أن هذا خيال أو حلم، وأن الناس لن يتعاملوا بالعدل مقيدا أو مطلقاً، ولن يكفوا عن العدوان والبغي. ولست أذهب مذهبهم.

ففي وجدان الإنسان خير، وفيه نزوع إلى الحق والعدل إذا أوقضت في نفسه دواعي الخير بالدعوة الصالحة، والأسوة الحسنة، وإذا أحيط من العلم والعدل بما يعظم رغبته في الخير، وصدوفه عن الشر وينبه معاني الحق والعدل في وجدانه.

وإن كانت درجات العدل التي ندعو إليها أرفع من العامة، وأعلى من الدهماء، فليس بعيداً أن يستجيب لها في كلُّ أمة طائفة من أولى العقل والعلم. وإذا قامت في كلُّ أمة أئمة تدعو إلى العدل ونبع فيها قادة تسير عليه وتعمل به وصرّفوا الأمور بالعدل المطلق وأخذوا الناس به طوعاً وكرهاً عمّت الأسوة وسكن الناس إليها وغلب العدل في قلوب الناس وأعمالهم، واستقرت عليه الأمور، وشاعت به المحبة والسلام. . .

(للكلام صلة)

عبد الوهاب عزام