مجلة الرسالة/العدد 838/مصطفى كمال الزعيم التركي

مجلة الرسالة/العدد 838/مصطفى كمال الزعيم التركي

ملاحظات: بتاريخ: 25 - 07 - 1949



بقلم الكونت سفورزا وزير خارجية إيطاليا

للأستاذ أحمد رمزي بك

(تتمة)

وددت كثيراً لو أن ما رأيته في المؤتمر الذي عقد بلندرة في فبراير سنة 1921 كان كافياً ليكتشف الغطاء عن أنظار أولئك السياسيين الذين أبوا أن يصغوا لأي نصيحة فيتبينوا الحقائق.

حضر إلى هذا المؤتمر وفدان تركيان. .

الأول يمثل تركيا الرسمية حكومة السلطان المعترف بها وعلى رأسه توفيق باشا، وهو رجل طاعن في السن محترم من الجميع تولى الصدارة العظمى عدة مرات.

والثاني وفد حكومة أنقرة يرأسه وزير خارجيتها بكير سامي بك. وقد رفضت الحكومة البريطانية استقباله حتى لا يؤخذ هذا منها بأنه اعتراف رسمي بحكومة الكماليين.

ولكن كم كانت دهشة المفوضين الأوربيين الذين كانوا يؤملون رؤية أعضاء الوافدين تفرق بينهم الكراهية والبغضاء أن يجدوهم في تآلف تام جالسين على نفس المقاعد.

وكم كان تعجبهم لدى رؤية ذلك الشيخ الوقور توفيق باشا يقف بما حوله من حق الرياسة على المندوبين الترك ليعطي الكلمة لبكير سامي بك رئيس وفد أنقرة الذي تكلم بالنيابة عن الوفدين.

وقد أدرك بكير سامي بك قيمة النصائح التي أسداها إليه المسيو بريان رئيس الوفد الفرنسي والتي أبديتها من جهتي بالتمسك يخطه معتدلة وقد ما يمكن أن تكسبه قضية بلاده إذا أظهر أنه أكثر رغبة من المفوضين اليونان رأى هيئة تحكيم منصفة.

وبناء عن هذه الخطة تم القبول التحكيم ومشروع إجراء التحقيق الدولي في آسيا.

وكان هذا القرار على جانب من الأهمية السياسية لما قد يأتي به من النتائج الحاسمة ولأن في قبول دول إنجلترة وفرنسا وإيطاليا إجراء تحقيق في الأناضول اعترافاً ضمناً من واضعي معاهدة سيفر، أنهم لم يحسنوا استقاء المعلومات الحقيقية فبنوا عملهم في سياسته الشرقية على مبادئ غير مستقيمة مع الواقع.

ولم يكن لدى الزعيم التركي ما يحمله على التشدد، لأن كلُّ المظاهر تدل على أنه قد اقترب من الحصول على صلح يصح أن يقبل.

ولكن لم تمض ثلاثة شهور على هذا حتى انهار كلُّ البناء لأن حكومة أثينا رفضت الاعتراف بقرارات لجنة التحقيق ولجأت إلى تحكيم القوة.

فكانت هزائمهم لسنة 1921 التي أعقبت توغلهم في الداخل وانتهت بتراجعهم إلى خط أفيون قره حصار وكوتاهية حيث وقفوا سنة بطولها ينتظرون، ذلك لأن الزعيم التركي أراد لهم هذا - وقد يكون المرء في تريثه وإمهاله لخصمه أكثر شجاعة منه في مبادرته بالهجوم ومناجزته لعدوَّه.

وهكذا تحفز بهم سنة بطولها حتى أتم عدته ثم قضى عليهم بضربة كانت الأخيرة.

لأنه في 26 أغسطس سنة 1922 هاجم أفيون قره حصار؛ وفي اليوم التالي أتم فتح الثغرة في قلب الجيش اليوناني، فأصدر القائد العم الجنرال تريكوبيس أمراً بالتراجع انتهى بتمزيق الجيش كله ووقوع القائد نفسه أسيراً في يدي مفرزة من الفرسان الأتراك، وكان ختام المعارك احتلال أزمير التي دلها الترك بعد مضي أسبوع وأحد على اختراقهم الجبهة.

أعقب ذلك ضياع الملك من يدي قسطنطين ثم اجتماع مندوبي إنجلترة وفرنسا وإيطاليا في 11 أكتوبر سنة 1922 ليوقفوا الحركات العدائية بهدنة مودانية التي اختتمت بعدها أربع سنوات مملوءة بالأوهام والأخطاء، والتي أرجعت لحكومة أنقرة استنبول وترقيا الشرقية وأدخلت جيشهم إلى أوربا منتصراً تحت قيادة مصطفى كمال فكر بعض عمال بريطانيا عند بدء الاحتلال في نفيه إلى مالطة.

وليس الغرض من سياق هذا الحديث والدخول في التفاصيل أن أشرح حوادث كنت شاهداً لها وعاملاً فيها فبطبيعة المراكز التي شغلتها كمندوب سام لإيطاليا في باريس وقت عقد هدنة مودانياً، وإنما قصدت أن أشير في هذه التفاصيل إلى الأسباب الخارجية الحقيقية التي سببت نجاح الزعيم التركي وساعدته على الوصول إلى هذه النتيجة

لقد حكم الزعيم التركي بلاده منذ ذلك التاريخ وأظهر رغبة وحماساً شديدين للتجديد والتبديل متجهاً بكليته نحو أوربا بشكل جعل مفكري الغرب ينظرون إلى هذه التغييرات بغير النظرة التي كان ينتظرها منهم، لأن أغلبها مظهري، ثم هي ثانوية بجانب الأعمال الضرورية الأخرى ولم تقتصر نتيجتها على أعمال التقاليد الإسلامية التي طالما استمد منها الشعب التركي قوته وجلده في القرون الماضية.

والخطأ العظيم الذي ارتكبه الزعيم في عمله الإصلاحي هو محاولة الجري بسرعة لم يجرؤ عليها المصلحون الذين تقدموه، ولا يبعد أن تكون وسائل الاتصال الحديثة من السكك الحديدية وغيرها وما طرأ على العالم بعد الحرب العظمى قد أثرت فيه وجعلته يعتقد إن فكرة التقريب بين شعوب تختلف اختلافاً ليلً في الأفكار والعواطف أصبحت أمراً سهلاً ولكن هذه الإصلاحات الغربية مهما تشعبت وكثرت فلم تكن في يوماً ما إلا دوراً ثانوياً الذي قام به الزعيم كمنظم وموجد للقوة العسكرية التي كونها من العدم في بلاده، ثم كمحرك لعوامل الدفاع والجهاد بين قومه، وسيبقى أسمه كجندي ورجل من رجال الحرب يذكره التاريخ دائماً مقروناً بالحركة العظيمة التي كان على رأسها.

وقد امتاز مصطفى كمال في كل أدوار حركته الاستقلالية بتيقظه وضبطه لنفسه وطول أناته؛ وكان في أشد الأوقات وأعصبها مالكاً لحواسه شديد الحذر في تصرفاته بقدر ما كان سريع الإقدام والتنفيذ في إصلاحاته وتغييره الطربوش وأخذه بالقبعة.

ولطالما دفعه أنصاره - وفريق منهم يبطن الكيد له - إلى التعجل. فكان يا [ى إلا أن يكون يصبر الشهور وهو لا يبدي نشاطاً للقتال، بل يجمع قواته ويزيد في معدات جيشه، ويزن الآمر حتى يتأكد من أن كل عوامل النجاح في صفه، ثم يوجه ضربته الآخرة. وما أن يقذف بقواته حتى يرى أعوانه أن ذلك التباطؤ الذي طالما أخذوه عليه قد أنقلب إلى دفعة ومناجزة للخصم قوية يسيرها نشاط دائم منظم لا يوقفه عائق حتى يقذف بالأعداء إلى البحر.

والذي يدهش إليه الإنسان إن الصفات التي ملكها الزعيم التركي لم تغادره وهو في أعلى قمة مجده وعلى رأسه أكاليل النصر وطوع أمره جيش يترنح بنشوة الظفر - لأنه غداة المعارك التي أكتسبها تلاقت طلائع جيشه أمام غاليبولي بقوات بريطانية تحاول منعه من العبور إلى الشاطئ الأوربي إذ قرر لويد جرج ساعتئذ أن يوقف سيل الجيش المنتصر أمام المنطقة المحايدة للمضايق، ومعنى هذا قيام حرب جديدة.

وكان رئيس وزراء بريطانيا مصمماً على هذا الرأي على رغم مخالفة فرنسا وإيطاليا له، وقبل أن يستشير رؤساء وزارات الممتلكات البريطانية الحرة - الدومنيون - قبل قذفه بالإمبراطورية في غمار حرب جديدة، وهذه غلطة أخذها عليه السياسيون الإنجليز لمخالفتها النصوص نظام تكوين إمبراطوريتهم.

ولكن الزعيم التركي فاز بصبره عليه إذ عرف كيف يتجنب خطر ذلك الموقف الزلق، وكيف يدرأ عن بلاده مصيبة حرب، جديدة، وقدر على نفسه وهو في قمة مجده وبيده مقاليد رجال طوع إشارته، فردها على سراب الأطماع وأخضع نفسه لإرادته

ويلذ لي هنا ذكر ما كتبه تشرشل وهو الواضع مع لويد جورج أساس السياسة التي أتبعتها بريطانيا في الشرق الأدنى والمسئول معه عن نتائجها وإن كان كاتبها لم يقدر تماماً ما كان للزعيم التركي من فضل في حقنه للدماء وإيقافه اشتعال حرب جديدة مع دولة أوربية بعد أربع سنوات من انتهاء الحرب العظمى قال. .

(وجه كمال كل مجهوده إلى الغرض الأساسي الذي أمامه والذي كان من السهل الوصول إليه وأستعمل قوات الفرسان التي كانت تحمى جناحيه ليظهر قوته أمام الإنجليز المحتلين لجناق - ولكنه أصدر لضباطه تعليمات شديدة ليتحاشوا القيام بأي مظهر عدائي، وأن يكون تقدمهم بطريقة ودية. ولم يتغير تصرفهم هذا أمام كلُّ الظروف التي اعترضتهم، بل ذهبوا إلى إظهار التآخي بطلب بعض المهمات والأشياء التي يحصل تبادلها بين قوات متحابة معسكرة في مكان واحد - وبهذا أمنت كلُّ القوات البريطانية التي كانت محتلة للمضيق في الوقت الذي كان الخطر محدقاً فيه باستانبول التي لم يكن من اختصاص بريطانيا الدفاع عنها.

لقد عرفت عن كثب أنور باشا وهو من رجال الحرب نبغ من أحرار الأتراك، وكان عاملا من أول الحركة التي أشعلتها جمعية الاتحاد والترقي، ثم قائداً في حرب طرابلس ضد إيطاليا، وأخيراً في الحرب البلقانية.

ولم أر اليأس قط متغلباً على أنور حتى في أشد الأوقات محنة حينما كان البلقانيون على خطوط تشا طلجة، ولكن مزاياه الخلقية والفكرية كانت تتضاءل أمام حبة للمباهاة بنفسه وخيلائه.

ولذلك قصر عن تملك القدرة على النظر بدقة إلى الأمور وتفهم الأشياء على طريقة كمال الذي يتبع خطة للعمل يقرن فيها إقدام المتناهي مع الصبر والتأني الطويل ويعرف كيف يُملى على نفسه وهو قائم يحرك الجيوش على جبهة القتال - وهذا هو سر نجاحه -

وهذا دليل على أن الروح العسكري القديمة التي كانت لدى العثمانيين القدماء ومكنتهم من تدويخ أوربا ومقارعتهم لها وهم تحت أسوار فينا قد عادت وتقمصت فيه.

ولكن المهمة السياسية التي ألقيت على عاتق هؤلاء كانت سهلة ليست مستعصية كالتي تلقاها خلفهم في القرن العشرين لأنهم دخلوا أوربا منتصرين واحتلوا بلاداً وأقطاراً شاسعة وكان من حقهم إهمال من يعيش فيها ما دامت القوة في جانبهم.

إني أصرف النظر كما ذكرت في السابق عن موضوع إصلاحاته الغريبة التي أعدها من قبيل عمل المسيطرين الغواة المتشبعين بطريقة بطرس الأكبر - وأعود إلى سياسته التي أوجدها لنفسه أمام الظروف القاسية التي وجد فيها بلاده، تلك السياسة التي أملاها بحزم، وقصر نفسه عليها من المبدأ إلى النهاية تم دوام على اتباعها مخالفاً بذلك تقاليد الدكتاتوريين الذين قبله وما يعمله دكتاتوريو هذا العصر.

لأن كلا منهم في حاجة إلى اتباع مظهرية ترمي إلى إدخال الهيبة في نفوس العامة، وفي حاجة إلى إشعال الشعوب التي فقدت حريتها بشيء من المجد.

وأرى مصطفى كمال الأول من هذا النوع من الناس الذي أوتي من الشجاعة الأدبية ما جعله يقرر من أول الأمر أن يقصر نفسه عن هذه المظاهر الفخرية - ثم أن يدام على حرمان نفسه وعدم إشعال أمته بمثل هذا بعد انتصاره وقد بلغ من الأمر منتهاة. فكثيراً ما هددت الدولة العثمانية بخلافتها وبإعلانها الجهاد رغبة منها في الظهور الدولة ذات السياسة العالمية وإن كانت تمثل الرجعية والتقهقر بأجلى مظاهرهما. وجاء مصطفى كمال فكان أول من تحقق من أن مصلحة تركيا تقضى بتنازلها عن أي نفوذ أو سلطة خارج حدودها القومية، ولذلك وضع نصب عينية أن يتحاشى أشغالها بأي عمل يشتم منه الرغبة في مغامرات خارجية فوق طاقتها.

وقد عانيت ذلك بنفسي في الشهور الأولى من عام 1919 حينما كنت باستانبول وتيقنت من أن الزعيم التركي قد عزم على اتباع هذه السياسة الإيجابية التي تؤدي حتما إلى استقلال فعلي حقيقي لتركيا.

وكان قد لجأ إلى بروسة في تلك الأيام السيد أحمد السنوسي الزعيم الديني المشهور في برقة حينما أيقن من ضياع آماله في إخراج الإيطاليين من بلاده. ولما كنت مقنعاً بأن السياسة العملية الوحيدة لتوطيد الأمن والسلام في ربوع المستعمرين الإيطاليتين تتلخص في إعطاء الأهالي الوطنيين شيئاً من الحكم الذاتي الواسع النطاق، لم أتردد لحظة واحدة في قبول المفاتحات التي عرضها على أصدقاء السيد السنوسي باستنبول، وفعلاً دخلت معه في محادثات طويلة على الطريقة المعتادة للشرقيين انتهت به إلى فهم وتقدير مشروع اتفاق مع الحكومة الإيطالية يعطى للسيد السلطة متسعة في الداخل على شرط أن يعترف نهائياً بسيادة إيطاليا على بلاده وأن يعطى المواثيق بتشجيع ومساعدة المصالح الاقتصادية والسياسية في بقية الجهات الواقعة تحت حكم إيطاليا مباشرة في طرابلس وبرقة.

وقد عقد فعلاً وزير المستعمرات الإيطالية السنيور لويجي روسي على أساس هذه المحادثات اتفاقاً حكيماً جنت منه إيطاليا ثمرات عديدة حتى جاءت الحكومة الفاشية فضربت به عرض الحائط، لأنها وجدت في المستعمرتين ميداناً واسعاً لاستغلال منشوراتها وتقاريرها عن انتصاراتها الحربية التي يتضح للمتأمل عبث القيام بها بجانب ما تتكلفه من التكاليف والخسائر.

ولم يكن منتظراً بقاء مثل هذه المحادثات في طي الخفاء ونحن في جو استنبول لأنها سرعان ما تنتقل إلى علم أنصار مصطفى كمال وقد يعملون على إحباطها، ولذلك رأيت من المصلحة إبلاغه عنها فجاءني منه الرد الآتي:

(كان علة شقائنا وسقوطنا محاولتنا المحافظة على سيادة تركيا على الأقطار العربية فنحن لا نريد أن نسمع من الآن شيئاً عن ذلك، والسنوسي حر في أن يفاوضكم على ما يرغب وأن تتفقوا معه على ما تريدون).

ولقد زادني هذا الرد القاطع المقرون بالصراحة اعتقاداً في أننا على وشك أن نلمس عصر إحياء جديد في النفس التركية - ووصل مصطفى كمال إلى أوج ما ينشد من المجد والسلطة فلم يغير من خطته هذه - وهو موقف يستدعى الإعجاب والتقدير وهو نادر في نفس الوقت.

لقد عرف من البداية أن الدولة العثمانية بلاد متأخرة تقع بين أوربا وآسيا، وأن تركيا إذا اقتصرت على توجيه قواها إلى استغلال آسيا الصغرى أمكنها تحت نظامها الجديد أن تصير عامل حضارة وتقدم، وقد تأتى يوم تلعب فيه دوراً مهماً تجاه آسيا الوسطى.

وهنا يظهر عمله الإنشائي الحقيقي الذي أتمه بحنكة وشجاعة وإن بقى مجهولاً لدى الكثيرين بجانب ما يتحدث الناس به من إصلاحاته الثانوية في تغيير الحروف وفرض القبعة.

وإنه لمن المشرف له أن يشاد بعمله هذا وأن يقال إن هذا الزعيم وصل من بين الدكتاتوريين أن يجنى ثمار نجتحه بحق، لأنه أقدم على ما لم يقدم عليه غيره، وعرف كيف ينظر شزراً إلى مخلفات سياسة المجد الكاذب التي كانت تتبعها الحكومة العثمانية السابقة والتي لم يكن لها غرض إلا ما تحدثه من الضجيج الفارغ والضوضاء الكاذبة. . .

أحمد رمزي