مجلة الرسالة/العدد 84/محاورات أفلاطون

مجلة الرسالة/العدد 84/محاورات أفلاطون

ملاحظات: بتاريخ: 11 - 02 - 1935


12 - محاورات أفلاطون

الحوار الثالث

فيدون أو خلود الروح

ترجمة الأستاذ زكي نجيب محمود

- أو ليس البواسل من الرجال يحملون الموت، لأنهم يخشون ما هو أعظم من الموت شراً؟

- هذا صحيح

- إذن فكل الناس ما خلا الفلاسفة شجعان، إلا إنها شجاعة من الخوف والوجل. وإنه لعجيب ولا شك أن يكون الرجل شجاعاً لأنه مذعور جبان!

- صحيح جداً

- أو ليس هذا بعينه شأن المعتدلين؟ إنهم معتدلون لأنهم مفرطون - قد يبدو ذلك متناقضاً، ولكنه مع ذلك هو ما يحدث في هذا الاعتدال الأحمق - فهناك من اللذائذ ما يحرصون على تحصيلها ويخشون ضياعها، فهم لذلك يتعففون عن نوع من الملذات لأن نوعاً آخر قد استولى عليهم، وإذا عرِّف التفريط بأنه: (الخضوع لسلطان اللذة) فانهم لا يقهرون لذة، ألا لأن لذة تقهرهم، وذلك ما أعنيه بقولي إنهم معتدلون لأنهم مفرطون

- يظهر أن ذلك حق

- ومع ذلك، فليس من الفضيلة استبدال خوف أو لذة أو ألم بخوف آخر أو لذة أو ألم، وهي متساوية كلها، أكبرها بأصغرها، تساوي النقد بالنقد. أي عزيزي سمياس، أليس في النقد قطعة واحدة صحيحة هي التي ينبغي أن تستبدل بالأشياء جميعاً؟ - وتلك هي الحكمة، ولن يشرى شيء بحق أو يباع، شجاعة كان أم عفة أم عدلُ، غلا إن كان للحكمة ملازماً، وإلا إن كانت هذه الحكمة له بديلاً. ثم أليست الفضيلة الحق بأسرها رفيقة الحكمة، بغض النظر عما قد يكتنفها من المخاوف واللذائذ أو ما إليهما من لخيرات أو الشرور؟ إلا أن الفضيلة التي يكون قوامها هذه الخيرات التي تأخذ في استبدال بعضها ببعض بعد أن تكون قد انفصلت عن الحكمة، ليست من الفضيلة إلا ظلها، ولا يكون فيها من الحرية أو العافية الحقيقة شيء، أما التبادل الحق فيقضي أن تمحي هذه الأشياء محواً، وما ظهورها إلا العدل والشجاعة والحكمة نفسها. وإني لأتصور أن أولئك الذين أنشأوا الاسرار، لم يكونوا مجرد عابثين، بل قصدوا إلى الجد حينما عمدوا إلى شكل فرمزوا به إلى أن من يمضي إلى العالم الأسفل دنساً جاهلاً سيعيش في حمأة من الوحل، أما ذلك الذي يصل إلى العالم الآخر بعد التعليم والتطهير فسيقيم مع الآلهة. وكما يقولون في الأسرار: (كثيرون هم من يحملون عصا السحر، أما العالمون بالسحر فقليل) وهم يريدون بهذه العبارة فيما أرى، الفلاسفة الحق، الذين أنفقتُ حياتي كلها أبحث بينهم لعلي أجد مكاناً، ولست أشك في أني عندما أبلغ العالم الآخر، بعد حين قصير، سيأتيني إن شاء الله علم يقين، عما إذا كنت قد التمست في البحث سبيلاً قويمة أم لا، وإن كنت قد أصبت التوفيق أم لم أصبه. أي سمياس وسيبس، لقد أجبت بهذا على أولئك الذين يؤاخذونني بعدم الحزن أو الجوع لفراقكم وفراق سادتي في هذا العالم، فقد أصبت بعدم الخوف لأنني اعتقد أنني سأجد في العالم الأسفل أصدقاء وسادة آخرين، يعدلونكم خيراً، ولكن الناس جميعاُ لا يسيغون هذا، وإنه ليسرني أن تصادف كلماتي عندكم قبولاً أكثر مما صادفت عند قضاة الأثينيين

- أجاب سيبيس - إني موافقك يا سقراط على معظم ما تقول، ولكن الناس أميل الى عدم التصديق فيما يتصل بالروح. إنهم، يخشون ألا يكون لها مستقرٌ إذا ما فصلت عن الجسد، وإنها قد تذوى وتزول في يوم الموت ذاته - فلا تكاد تتحلل من الجسد حتى تنطلق كالدخان أو الهواء، ثم تتلاشى في العدم. فلو قد تستطيع أن تتماسك أجزاؤها، وأن تظل كما هي بعد أن تكون قد خلصت من شرور الجسد، لرجونا يا سقراط، محقين فيما نرجو، أن ما تقوله حق، ولكنا بحاجة الى كثير من الإقناع ووفير من الحجج، لإثبات انه إذا مات الإنسان فروحه تظل مع ذلك موجودة، وتكون على شيء من قوة الذكاء

- فقال سقراط - هذا حق يا سيبيس، فهل لي أن أقترح حديثاً قصيراً عما يحتمل لهذه الأشياء من وجوه؟

- قال سيبيس - لست أشك في أني شديد الرغبة في معرفة رأيك عنها

- فقال سقراط - لا أحسب أن لأحد ممن سمعني الآن، حتى ولو كان أحد أعدائي القدماء من الشعراء الهازلين، أن يتهمني بالخبط في الحديث عن موضوعات لا شأن لي فيها.

فأذنوا إن شئتم بأن نمضي في البحث

إن مشكلة أرواح الناس بعد الموت: أهي موجودة في العالم الأسفل أم غير موجودة، يمكن مناقشتها على هذا النحو: يُؤكد المذهب القديم الذي كنت أتحدث عنه، إنها تذهب من هذا العالم الى العالم الآخر، ثم تعود إلى هنا حيث تولد من الميت، فان صح هذا وكان الحي يخرج من الميت، للزم أن تكون أرواحنا في العالم الآخر، لأنها إن لم تكن، فكيف يمكن لها أن تولد ثانياً. إن هذا القول حاسم، لو كان ثمت شاهد حقيقي على أن الحي لا يولد إلا من الميت، أما إذا لم ينهض على هذا دليل، فلا بد من سوق أدلة أخرى

فأجاب سيبيس - هذا جد صحيح

- إذن فدعنا نبحث هذه المسألة، لا بالنسبة إلى الإنسان وحده، بل بالنسبة إلى الحيوان عامة، وإلى النبات، وكل شيء يكون فيه التوالد، وبذلك تسهل إقامة الدليل. أليست كل الأشياء التي لها أضداد تتولد من أضدادها؟ أعني الأشياء التي كالخيِّر والشرير، والعادل والجائر - وهناك من الأضداد الأخرى التي تتولد من أضدادها، عدد ليس إلى حصره من سبيل، وإنما أريد أن أبرهن على أن صحة هذا القول شاملة لما في الكون من أضداد، أعني مثلاً أن أي شيء يكبر، لابد أنه قد كان أصغر قبل أن أصبح أكبر

- صحيح

- وأن أي شيء يصغر، لابد أنه قد كان يوماً أكبر ثم صار أصغر

- نعم

- وأن الضعف يتولد من الأقوى والأسرع من الأبطأ

- جد صحيح

- والأسوأ من الأحسن، والأعدل من الأظلم؟

- بالطبع

- وهل هذا صحيح عن الأضداد كلها؟ وهل نحن مقتنعون بأن جميع الأضداد ناشئة من أضداد؟

- نعم

- ثم أليس ثمت كذلك في هذا التضاد الشامل بين الأشياء جميعاً، فعلان أوسطان، لا ينفكان يسيران من ضد الى الضد الآخر جيئة وذهاباً؛ فحيث يوجد أكبر وأصغر، يوجد كذلك فعل متوسط بينهما، يعمل للزيادة والنقصان، ويقال للشيء الذي ينمو إنه يزيد، وللشيء الذي يتناقص إنه يذوي

فقال - نعم

- وهناك غير ذلك عمليات كثيرة أخرى، كالتجزئة والتكوين والتبريد والتسخين، التي تضمن تساوياً بين ما يخرج من شيء وما يضاف الى شيء آخر. أليس ذلك صحيحاً بالنسبة الى الأضداد كلها، حتى ولو لم يعبر عنها باللفظ دائماً - فهي تتولد الواحد من الآخر، وثمت انتقال، أو فعل، بين بعضها وبعض

- فأجاب - هذا جد صحيح

- جميل، أفليس هناك ضد للحياة، كما أن النوم ضد اليقظة؟

- فقال - بل هذا حق

- وما هو ذاك؟

- فأجاب - هو الموت

- فان كان هذان ضدين، فهما متولدان إذن. أحدهما من الآخر، وبينهما كذلك فعلان أوسطان.

- بالطبع

(يتبع)

زكي نجيب محمود