مجلة الرسالة/العدد 84/من صور التاريخ السلامي

مجلة الرسالة/العدد 84/من صور التاريخ السلامي

ملاحظات: بتاريخ: 11 - 02 - 1935



الفردوسي

للأستاذ عبد الحميد العبادي

تتمة

بينت في مقالي السابق السبب الذي من أجله يكبر الفرس الفردوسي ويعدونه شاعرهم القومي فقلت إن الفردوسي بنظمه (كتاب الملوك) الذي يضم بين دفتيه تاريخ الفرس الأقدمين وأساطيرهم وآدابهم، قد أمد القومية الفارسية واللغة الفارسية الحديثة، بمد قوى، رسم للأولى حدوداً واضحة، وشرع للثانية منهجاً ظلت تسير فيه حتى يومنا هذا؟ والفردوسي بهذا الصنيع الجليل قد هيأ السبيل لظهور فارس الحديثة ذات الشخصية البارزة في تاريخ الشرق الحديث

ولكن ما السبب في أن شعوباً أخرى غير الفرس تحفل بالفردوسي وتجله، ولم تتحاش أن تعلن ذلك الاحتفال بذكراه الألفية؟ وجواب هذا السؤال موضوع هذا المقال

يعد الفردوسي عند علماء الأدب ونقاده شاعراً قصصياً من شعراء الطبقة الأولى، فهو في مرتبة هوميروس ودانتي وملتن. والشاعر القصصي العظيم هو الذي ينشئ ملحمة أي منظومة قصصية طويلة بليغة يعتبرها قومه غرة أدبهم. وحفظ هذه المنظومة من الذيوع والانتشار يتوقف على نوع موضوعها. فإذا كان الشاعر قد اخترع الموضوع اختراعاً وتخيله تخيلاً ثم أفرغ عليه بعد ذلك ثوب بلاغته وقوة تصويره فهي ملحمة محدودة الذيوع، يقبل على قراءتها خاصة الأدباء والمثقفين وأساتذة الأدب في الجامعات. ومن هذا الصنف (المهزلة) لدانتي و (الجنة المفقودة) لملتن. أما إذا ألف الشاعر موضوعه من الحكايات الشائعة في قومه، وأساطيرهم التي يعتقدونها، وأغانيهم التي يتغنون فيها بذكر ما اختلف عليهم من الأحداث، ثم عرض ذلك كله عرضاً شعرياً قوياً بليغاً، وكان في ذلك فيلسوف النظرة يتناول العالم من ثنايا الخاص فيصور العالم وهو يصور قطعة منه محدودة، ويصف الطبيعة البشرية وهو يصف قبيله ومعشره، ويتناول الزمن وهو يتناول برهة منه، إذا فعل الشاعر ذلك فقد كتب لملحمته الذيوع والخلود. وسرعان ما يحل الحديث الموفق المحكم محل القديم المبعثر المتفرق، فتنسخ الملحمة الجديدة الحكايات القديمة، وتأخذ مكانها من قلوب الأمة التي تصور فعالها، وعلى مر الزمن تنفذ الملحمة من حدود المحلية والإقليمية وتشيع في أنحاء العالم المتمدين وتستحيل أثراً أدبياً عالمياً. وأشهر ملاحم هذا النوع، الألياذة والشاهنامة التي نحن بصدد الكلام عليها

والشاهنامة تسترعي اهتمام غير واحد من خاصة المتأدبين فاللغوي يطالع فيها صفحة واضحة من تاريخ اللغة الفارسية الحديثة، والاجتماعي يجد فيها عوناً على تصور المجتمع الفارسي القديم، ومعرفة أخلاق القوم وعادتهم ومواضعاتهم، والمعنى بالأساطير القديمة ينتفع بها انتفاعاً جماً في دراسة الميثولوجيا الإيرانية والمقارنة، ومؤرخ الأديان يستخلص منها صورة مجملة لعقائد الإيرانيين القدماء، والمؤرخ السياسي يرجع إليها في دراسة النظم الفارسية القديمة ويجد فيها صدى قوياً لعلاقة الفرس بمن جاورهم من الأمم وخاصة الهند والترك والعرب. والفنان الذي تستهويه بلاغة العبارة ودقة المعاني وقوة التصوير يرى في الشاهنامة مُثلاً عُليا لكل ذلك.

فالفردوسي يعرج في سماء البلاغة حتى يسامي النجم، وهو في الوقت نفسه يخاطب الناس بمألوف حديثهم ومتعارف معانيهم، ثم هو وصاف مبدع، إذا تصدى لوصف واقعة حربية أراك ميدان القتال، وجلا على عينك ما يجري فيه من كر وفر، وهجوم وتحيز، وأراك السيوف تلمع، والحراب تشرع، وأسمعك تصايح الكماة، وصهيل الخيل، وأنين الجرحى، وصور لك ظفر الغالب وهزيمة المغلوب. فإذا انتقل إلى وصف مجلس من مجالس الدعة والأنس مثل لعينك أسباب السرور ودواعيه وأدواته، ونقل إليك ما يشيع في المجلس من صفاء النفوس، واختلاط القلوب، فإذا أراد تصوير العاطفة البشرية أراك حنو الأم، وعطف الأب، وله العاشق، ووفاء الزوجة وإخلاص الصديق. لقد أدرك الفردوسي قوام الفن وملاكه، أدرك معنى الجميل ومعنى الجليل، وعرف كيف يعبر عنهما

على أن الناحية الأخلاقية من الشاهنامة هي عندي أهم نواحيها وأبعثها على التقدير العام بها. فالفردوسي لم يقصد إلى أن يكون مؤرخاً، ولا إلى إظهار بلاغته بمقدار ما قصد إلى أن يكون كتابه كتاب أدب وحكمة وتهذيب، نلحظ ذلك في الجانب التعليمي من كتابه، فالفردوسي لا يبرح واعظاً ومرشداً وهادياً، سالكاً حينا طريق الحقيقة وحينا طريق المجاز، ونلحظ ذلك القصد أيضاً في خلو الشاهنامة خلواً مطلقاً من الألفاظ والمعاني التي ينبو عنها الأدب والذوق السليم. . . بهذه المزية يصح القول بأن (كتاب الملوك) كتاب يتأدب بمطالعته الناس في كل زمان وكل مكان، وإذا كانت (الألياذة) تنمي فينا عاطفة الحياء والغضب للحق، وفضيلة الإيثار والانتصار للضعيف، وإذا كانت (مهزلة) دانتي تعرفنا بطريقتها الرمزية أي أساليب الحياة يؤدي في الآخرة إلى الثواب وأيها يؤدي الى العقاب، وإذا كانت (الجنة المفقودة) تقوي الروح الديني في نفس القارئ، فإن الشاهنامة ترمي إلى تهذيب النفس وتكميلها

وفلسفة الشاهنامة الأخلاقية تقوم على أربعة أمور عظام: الأيمان، والواجب، وطهارة القلب، والزهد

والأيمان عند الفردوسي ليس ذلك الشعور الذي يخالط ضعفاء النفوس وخورة الطباع، ولكنه إيمان الأبطال والملوك.

فالفردوسي يتعمد أن يظهر أبطاله وملوكه عند استكمالهم أسباب العزة والجبروت في مظهر النقص والافتقار إلى عون الله ومدده مبالغة منه في توكيد ضرورة الإيمان في الحياة، ورغبة منه في كبح جماح النفوس الطاغية، وكسر شرة القلوب العاتية. ولنمثل لذلك من الشاهنامة نفسها: فعندما خرج الملك (كيخسرو) إلى قتال (أفراسياب) انتقاماً لمقتل ابنه (سيا وخسر) جعل يدعو الله أن ينصره على عدوه. تقول الشاهنامة (وبعد ذلك اغتسل الملك كيخسرو ودخل متعبداً لهم، وجعل طول ليلته يتضرع إلى الله تعالى ويبتهل ويعفر خده بالتراب ويستنصره على أفراسياب، ويستعين به عليه، فقطع ليلته تلك بالسجود لله تعالى والدعاء، فلما انتصر على خصمه وفر خصمه من وجهة وأعياه طلابه رجع إلى الله يستعينه ويستهديه). تقول الشاهنامة (فاغتسل ذات ليلة وأخذ كتاب الزند وخلا بنفسه في مكان خال ولم يزل طول ليلته ساجداً لله تعالى يبكي ويتضرع إليه سبحانه ويقول (إن هذا العبد الضعيف الموجع الجسم والروح طاف الدنيا، فسلك رمالها وقفارها، وقطع جبالها وبحارها، طالباً لأفراسياب الذي أنت تعلم أنه سالك غير طرق السداد، وسافك بغير الحق دماء العباد، وأنت تعلم أني لا أقدر عليه إلا بحولك وقوتك، فمكني منه. وإن كنت عنه راضياً، وأنت تعلم ولا أعلم، فاصرفني عنه، وأطفئ من قلبي ثائرة عداوته وقف بي على سواء الطريق والنهج القويم) وعندما غمر الثلج أسفنديار وأصحابه في طريق (هفنجوار) الوعر الشاق ووجد ذلك البطل المغوار نفسه أمام قوة لا قبل له بها لم يسعه إلا أن يسلم أمره إلى الله تعالى فتقول الشاهنامة (فبينا هم كذلك إذ أظلم الجو واشتدت الريح، ونشأت سحابة أبرقت وأرعدت وأطبقت عليهم ثلاثة أيام بلياليها، تهيل عليهم الثلج هيلاً، حتى امتلأت الأودية، فصاح اسفنديار. . وقال: قد اشتد علينا الأمر وليس ينفعنا الآن رجولة ولا قوة. والرأي أن نلجأ إلى من لا ملجأ منه إلا إليه، فانه الكاشف للضر والقادر عليه. فاجتمعوا ورفعوا أيديهم وتضرعوا إلى الله تعالى مبتهلين، ودعوه دعوة الصادقين، فسكت الهواء وانجلت السماء)

والأصل الثاني من أصول الفلسفة الأدبية (لكتاب الملوك) القيام بالواجب: الشاهنامة تعني بهذا الأصل الذي هو قوام الحياة اليومية أتم عناية. فأعظم ملوك الشاهنامة أقومهم بواجبه، وواجب الملك في رعيته العدل، والحلم، والسخاء، وترك الاستبداد فإذا ما حاد الملك عن هذا السنن (جفت الألبان في الضروع، ولم يأرج المسك في النوافج، وشاع الزنا والربا في الخلق، وصارت القلوب قاسية كالحجر الصلد، وعاثت الذئاب وضريت بالأنس، وتخوف ذوو العقول من ذوي الغواية والجهل،) وعهد كسرى أنوشروان لابنه هرمز حافل بتلك الآداب السلطانية التي تنص صراحة على ما يجب على الملك نحو نفسه ونحو رعيته

وبطولة أبطال الشاهنامة تستند إلى شعورهم القوي بالواجب. أنظر كيف لبي رستم طلب (جًيْو) إنقاذ ابنه (بيثرن) وكان مقيداً مغلولاً في مطمورة مظلمة بأرض طوران. وقوله له (لا تهتم فإني لا أحط السرج عن الرخس حتى آخذ بيج بيثرن وأضعها في يدك) وانظر خطاب جيو للملك كيخسرو (أيها الملك! إن أمي ما ولدتني إلا لطاعتك، وتحمل المكاره فيما هو سبب راحتك. وهأنذا أشد وسطي في امتثال أمرك، ولا أسألك إلا سبيل خدمتك ولو أمطر الهواء على ناراً، وتحولت الأشفار في عيني شفاراً) وقول (اكشهم) لبيثرن وهو يجود بروحه (أيها الحبيب النافج لا تحمل على نفسك كل هذا، فانه أشد علي مما أنا فيه. واستر جراح رأسي بالترك، واجتهد في حملي الى حضرة الملك، فان قصارى بغيتي، وغاية أمنيتي، أن أتزود منه بنظرة، وأقر عيني بطلعته ولو لحظة، وإذا مت بعد ذلك مت وليس في قلبي حسرة، فإني لم ألد إلا للموت، ومن أدرك أمله فكأنه لم يمت، وأيضاً تجتهد فلعلك تستطيع أن تحمل هذين العدوين للذين أهلكهما الله على يدي إلى المعسكر، وأن لم تقدر فاحمل رءوسهما وعدتهما حتى تعرضها على الملك، ليعلم أني ما هلكت في غير شيء)

وروعة شخصية المرأة في الشاهنامة تقوم على وفور حضها من الأنوثة والوفاء لزوجها، يدل على ذلك نواح (ثهمينة) على ابنها (سهراب) ووفاء (منيزة) لزوجها (بيتزن) في محنته مع إن أباها كان المسلط على عذابه

وكما تفرض الشاهنامة القيام بالواجب من حيث هو فضيلة أساسية للحياة الفاضلة فإنها تدل بالأمثلة المحسوسة والوقائع المادية كيف يؤدي الواجب. فينبغي أن نؤدي الواجب محلى بأحسن آداب السلوك من جد ورفق، وسهولة خلق، وضبط نفس، ورقة شمائل، ولا أدل على ذلك من الحوار الذي دار بين بطلي الشاهنامة (رستم) و (اسفنديار) عندما لج بهما اللجاج وحمى الخصام، فهو حوار ينم عن نبل خلق وسراوة نفس. وقد بلغ من دقة حس الفردوسي ورقة قلبه أن أوجب علينا الوفاء لمن أحسن إلينا ولو كان حيواناً أعجم. أنظر بأي قلب وأية شمائل يخاطب رستم الغزالة التي كان طرده لها سبباً في وقوعه على عين ماء روي منها بعد أن كاد يهلك عطشاً، فهو يخاطبها بقوله: (لا زلت يا غزالة الريف، تفيئين الى الظل الوريف، وتكرعين في الزلال المعين، وتتقلبين بين الورد والياسمين، وأيما قوس راعك أنباضه: فلا زالت متقطعة أوتاره، فانك سددت رمقي وشفيت غلتي)

والأصل الثالث من أصول فلسفة الشاهنامة الأدبية طهارة القلب؛ والفردوسي يحثنا في غير موضع من كتابه على أن ننفي عن قلوبنا أدواء الحقد والحسد والضغينة. يقول رستم لاسفنديار: (. . . . . . . وطهر قلبك بفضيلة الرجولة من دنس الداء الدفين) والفردوسي لا يكتفي بأن يندب قارئه الى تطهير قلبه، بل لقد يتولى هو بنفسه ذلك مستخدماً في ذلك طريقه العرض الدرامي التي نلحظها في أكبر الملاحم والقصص. نلحظها في آثار هوميروس، وسفوكليس، واسخيلوس، وشكسبير، وملتن، ودستويفسكي. وذلك أن يعمد الشاعر الى حادث رائع مفظع، فيعرضه عرضاً فنياً قوياً، فيهز قلب القارئ ويمخضه، فيكون ذلك منه بمنزلة الدواء المر يتجرعه المريض على مضض، ولكنه تكون فيه سلامته من علته؛ وقد بلغ الفردوسي بسلوك هذه الطريقة أسمى غايات الفن، وأتى من رائع القصص ما يشغف القلب حسنه، ويسحر اللب بيانه. انظر كيف يعرض قصة قتل رستم ابنه سهراب على غير علم منه بأنه ابنه! تقول الشاهنامة: (. . . . ثم تناوشا الحرب، وتطاعنا حتى انتثرت كعوب رماحهما، فاستل كل واحد منهما سيفه، وتضاربا، وكأن النار تمطر من سيوفهما، ولم يزالا حتى تكسرت سيوفهما، فمدا أيديهما الى عموديهما، ورفعاهما، وجعلا يتضاربان ويتقارعان حتى تمزقت الأدراع الموضونة على أكتافهما، وتقطعت التجافيف على خيلهما، فضعفا، ووقف دوابهما، وبقيا من العرق غريقين، ومن العطش محترقين، فوقف الأب من جانب، والابن من جانب آخر، ينظر أحدهما الى الآخر. فيا عجبا! كيف انسدت دونهما أبواب التعارف، ولم تتحرك بينهما عروق التناسب؟ والأبل من غلظ أكبادها، تعطف على أولادها، والطيور في جو السماء، والحيتان في قعر الماء، لا تنكر أولادها وأفراخها! والإنسان من فرط حرصه تخفى عليه فلذة كبده ويستنكر قرة عينه ولا ينزع الى ولده!)

ثم يقول رستم: (لم أر قط قتالاً بهذه الصفة، ولقد انقطع رجائي من رجولتي) فإذا ما استأنفا القتال، قال سهراب لرستم وهو يجهل أنه أبوه: (إني أرى أن نخلع الجوشن، ونطرح السيف، ونكف عن القتال، فإن قلبي يميل كل الميل إليك، وإن وجهي ليغمره الحياء منك) ولكن يخيب رجاه، ويعود الأب وابنه الى المبارزة، فيتغلب الأب ويصرع ابنه، ويجثم على صدره، ثم يذبحه ذبحاً، ثم يتبين له، وقد سبق السيف العزل، أنه إنما ذبح ابنه، فيشق جيبه، ويضرب صدره، وينتف شعره، ويندب ولده، ويحاول استنقاذه من براثن الموت فيعجزه ذلك؛ ويموت سهراب، فتتقد لوعة الحزن في صدر رستم، ويصيح من فرط العذاب: (من الذي أصيب بمثل ما به أصبت؟ ومن الذي فجع بمثل ما به فجعت؟ قتلت ولدي حين شاب رأسي وانقضى عمري!)

إن القارئ ليتابع مشاهد هذه القصة وقلبه يتوثب في صدره فرقاً وذعراً. فإذا بلغ الى الكارثة الأخيرة فقد لا يملك دمعه أسى وحزناً، وهذا الذي قصد إليه الشاعر رغبة منه في أن يمكن فيه لعاطفتي الحنو والرحمة

ولا يقف الفردوسي عند هذا الحد من تطهير قلب قارئه، بل يجتهد في أن يروض من نفسه ويكبح من جماحها بأن يجلو لها تقلب هذه الدنيا، وتصرف أحوالها بالناس تصرفاً قد يسوء ضعاف النفوس، ولكنه لا ينال من ذوي النفوس القوية منالاً وهو على عادته يعمد الى أقوى شخصياته فيجعلها مناط فلسفته رامياً بذلك الى أن نأخذ الدنيا كما هي فنفرح بها إذا أقبلت في غير اغترار بها؛ ولا نأسى عليها إذا هي أدبرت. وإن فلسفته من هذه الناحية لترجع فلسفة الرواقيين الذين يريدوننا على أن نتجرد من العاطفة جملة، فلا نفرح ولا نحزن، ولا نغضب ولا نعتب. انظر كيف يصف الشاعر مصير الملك أفراسياب عندما قلب الزمان له ظهر المجن، وتجهم له وجه القدر، فآل أمره الى أن وقع أسيراً في يد رجل عابد فشد وثاقه واضطره الى أن يخاطبه بقوله (أيها العابد! ما تريد من رجل اختفى في مغارة ضيقة) فلما عنفه العابد على ما احتقب من أوزار قال (بهذا جرت على أقلام قضاة الله في الأزل، ومن المعصوم في هذه الدنيا الغدارة من الزلل؟) وإن مصير الملك دارا واغتيال عبديه له تقرباً بدمه الى الاسكندر ليجري مجرى حديث أفراسياب من حيث الدلالة على تقلب الدنيا، وهي تربنا الفردوسي جبرياً يرى أن الإنسان لا يملك لنفسه مع القدر نفعاً ولا ضراً

وإذا كان ذلك دأب الدنيا، فحليق بالعاقل أن يرفضها ويزهد فيها. والزهد في الدنيا هو الأصل الرابع من أصول فلسفة الشاهنامة الأخلاقي، والفردوسي لا يألو جهداً في صرف قلوبنا عن أن تفتن بالدنيا ولكن في غير اخلال بالواجب الذي يفرضه علينا وجودنا فيها. انظر إلى تصويره الحال المعنوية على الملك كيخسرو عندما انقبضت نفسه، وأزمع التخلي عن الملك، والذهاب في الأرض، فقد عهد إلى ابنه، وودع أكابر الدولة (ثم سار. . . وصحبه رءوس الإيرانيين. . . إلى أن صعد إلى جبل، فأقاموا عليه أسبوعاً، وخرج في أثره نساء الإيرانيين ورجالها زهاء مائة ألف نفس، يبكون ويضجون حتى طن بصياحهم وعويلهم السهل والجبل. ثم بعد أسبوع أشار الملك على الأكابر والسادات بالانصراف من ذلك المكان وقال: إن أمامنا طريقاُ صعباً لا ماء فيه ولا عشب، فانصرف دستان، ورستم وجوذرد، ولم ينصرف عنه الباقون، فسار الملك، وساروا معه حتى وصلوا إلى ماء، فنزلوا هناك، وقال لهم الملك: إذا طلعت الشمس غداً حان وقت المفارقة، فباتوا ليلتهم عند العين. ولما كان الثلث الأخير من الليل، قام الملك ودخل العين، واغتسل ثم ودعهم إلى إيران، ولما طلعت الشمس ركب الملك، وغاب عن أعينهم) وحديث الاسكندر الملك الشاب الفاتح الطموح مع أهل مدينة البراهمة المنقطعين عن الدنيا، والراضين منها بأيسر أمرها يرى إلى أي حد يذهب الفردوسي في تقرير فلسفته القائمة على العزوف عن الدنيا وعدم الركون إليها

وبعد، فأرجو أن أكون قد بينت للقارئ السبب في تقدير غير الفرس للفردوسي وللشاهنامة، وأختم هذا البحث بأن أنبه على أن مظهر هذا التقدير قديم، فقد ترجم الفتح بن علي البنداري الشاهنامة إلى العربية الفصحى في أوائل القرن السابع الهجري، وأن الشاهنامة قد نقلت إلى أشهر اللغات الأوربية الحديثة، وأن بعض هذه التراجم في غاية الدقة والعناية والإتقان

عبد الحميد العبادي