مجلة الرسالة/العدد 840/إلى اللقاء
مجلة الرسالة/العدد 840/إلى اللقاء
للأستاذ كامل محمود حبيب
(إلى أبنائي الذين أحسوا لذع الفراق يوم الوداع الأول، وهم
ما يزالون أطفالا، فاغغرورقت عيونهم بالعبرات، ثم كفكفوها
لأنني قلت لهم: يازجال!)
إلى اللقاء، يا بني، هناك على سيف البحر حيث تموج الدنيا بفلسفة الحرية في معاني اللهو والعرى.
إن الإنسان ليحن - دائماً - إلى حيوانيته الأولى فيسعى ليتحلل من أعباء الرزانة والعقل وليحطم أغلال الإنسانية حين يحس أنها قد كبلته بقيود من الجدار والثوب.
يا لبؤس الحيوان حين تعصره الزريبة بين جدرانها فلا يستطيع أن ينفلت منها إلى الحقل. . . إلى العشب والنور والشمس والهواء! ويا لشقاوة الطير حين يضغطه القفص بين قضبانه فلا يجد السبيل إلى روح الغابة. . . إلى الحرية والسعادة والجمال!
هناك على شاطئ البحر، عند الربيع الأزرق، يخلع المرء ثوبه فيخلع إنسانيته حيناً بالحيوانية، ويئد عقله لينعم بالجهل، ويفزع عن صوابه ليسعد بالحمق.
وأنت - بابني - طفل يلذ لك أن تنطلق إلى طفولتك لا يربطك ولا يمسكك غل ولا يحدك عقل.
فإلى اللقاء، يا بني، على سيف البحر حيث تموج الدنيا بفلسفة الحرية في معاني اللهو والعرى.
أتذكر - بابني - يوم أن جاء خالك يطلب إلي أن أدعك تصحبه إلى الإسكندرية فتشبثت بي ترجوني، لأنه شاقك أن تمرح على شاطئ البحر مرة أخرى. ونزلت أنا عند رأيك الفطير، رأى الطفولة الوثابة، لأنني خشيت أن يضربك الأسى والحزن وأشفقت أن تعصف بك معاني الخيبة واليأس، فتستشعر الصغار والذلة وأنت ما تزال غض الإهاب لين العود لدن العظم
لقد كان بودي أن أرافقك لولا غل الوظيفة وشواغل العيش وعنت الصيام، فبقيت أنا هنا - في القاهرة - ترمضني الهاجرة ويمضي لا فراق. ونسيت أنني سأجد فقدك لاذعاً في قرارة نفسي
ولبثت ليلتك تهيئ حاجاتك، وإن إهابك ليكاد ينقد من شدة الطرب والسرور. وأرغمني على أن أشاطرك فرحة نفسك فغبرت حيناً طفلاً كبيراً وقد وخطه الشيب وهدته السنون يعبث بين أطفال صغار. واستشعرت اللذة والسعادة فاندفعت أرتب حاجاتك بين المزاح والدعابة. ثم انحلت عزيمتك وكلت قوتك فانحططت في فراشك تغط في نومك، ووقفت أنا إلى جانبك أتملى سمات البهجة وقد رسمها الأمل الحلو على قسمات وجهك النائم!
وفي القطار أقبلت أقبلك قبلة الوداع، فأحسست أنت مرارة الفراق، فاغرورقت عيناك بالدمع وشرقت بالكلمات، وأوشكت عواطفك أن تثور، فتشبثت بي وقد طغت مشاعرك الطاهرة على نوازع طفولتك وهي تدفعك إلى البحر. ولكنني قلت لك: (ماذا جرى، يا رجل؟). . . فكفكت عبراتك وتماسكت وكتمت خفقات قلبك النقي، ثم تعلقت عينك بي فما تطرف حتى تحرك القطار، وتواريت أنا عن ناظريك. . .
لشد ما حز في قلبي أن تحمل نفسك عل تكفف عبراتك الرقراقة الغالية، يابني لتبدو رجلا قبل الأوان!
آه، يا بني، لقد كانت هذه الكلمة - كلمة الرجولة - شديدة الوطأة على نفسك لأنها حملت طفولتك فوق الطاقة وكلفتها فوق الجهد، ولكن. . .
ولكن إلى اللقاء، يا بني على سيف البحر حيث تموج الدنيا بفلسفة الحرية في معاني اللهو والعري!
لقد دعوتك، يا بني، أن أفسح صدري لطهر الطفولة وسخفها، وأن أسع عبثها ومجونها، وأن أتقبل نزواتها وطيشها، وأن أستسيغ حلوها ومرها، فلا تنفض طفولتك كلها أمام خالك فيحس بالجفوة أو يستشعر الضيق، أو يجد الملل!
وإذا ربت على كتفك في عطفن أو قبلك في حنان، أو ضمك في شوق، فلم تحس لين كفه، ولا حرارة قلبه، ولا دفء صدره، فلا تمتعض ولا تتململ، لأنك لن تلمس اللين والحرارة والدفء إلا في رجل واحد هو أنا. . . لأنني أنا أبوك!
وإذا طلبت إليه أمراً فأغضي عنك، أو أمتهن رغبتك، فلا تحزن لأنني أنا وحدي الذي لا أضيق بحاجاتك ولا أسخر من نزواتك. . . أنا أبوك!
وإذا ابتسمت فعبس أو عبست فابتسم فلا تأس لأنني أنا وحدي الذي أشاطرك سرورك وحزنك، وأشاركك مرحك وشجوك. . أنا أبوك!
وإذا افتقدني - على حين فجأة - فضاقت نفسك بالحياة وهي تتألق فيك عن اللذة وهي تضطرم في قلبك، فلا تدع شجونك تستلبك من سعادتك وأنت على شاطئ البحر كالفراشة الطروب تطير وتقع فلا تقع إلا على مرح وبهجة!
وإذا أحسست بالغربة والضياع فلا تضق بما ترى ولا تفزع مما تجد فغداً أكون معك!
وإلى اللقاء، يا بني، على سيف البحر حيث تموج الدنيا بفلسفة الحرية في معاني اللهو والعرى!
لست آسي، يا بني على عمر مضى خلو من نبضات القلب، ولا على شباب انطوى من دفعات الهوى، لأنك أنت أفعمت قلبي بالحب والأمل والحياة جميعاً!
فأنت النبتة اليانعة النضيرة في صحراء العمر، وأنت الزهرة الرفافة الزاهية في بيداء الحياة، وأنت النشاط في زمن الخمول، والقوة في سني، والخلود في دنيا الفناء!
وأنت نور العين إن أظلمت الحياة، وانطوت زهرة الشباب، وأنت بهجة القلب إن ذوى العود وهي الجلد. . . إن أوشكت القدم أن تنزلق إلى طريق الأبد!
وأنت عمري الدائم، وصوتي المدوي، وحكمتي الأبدية، وروحي الخالدة!
فدعني، يا بني أوقع على أوتار القيثارة الإلهية - قلبي - لحن الحنان الأبوي الذي فاضت به مشاعري يوم أن دفعني العطف لينزل عند نزوات طفولتك الطائشة، فافترقنا لأول مرة!
إن ألحاني شجية أخاذة، غير أن عقلك الغض لا يدرك معناها، ما تبرح في جهلك الأول. . . ولكن حين تصقل السنون عقلك، حينذاك أجلس إلى نفسك وأستشف - في إمعان - ما وراء هذا النغم الحي. . .
لقد رأيت يا بني - ذات مرة - رجلاً يضن على صغاره بالضئيل ويبخل بالتافه، ولكنني رأيت - أيضاً - الحيوان يطعم صغاره ويستمرئ هو المسغبة، ورأيت الطير يزق فراخه ويستعذب المخمصة!
آه، يا من أفنيت عمرك صعلوكاً في دنيا العزوبية! لقد سفلت حين نبذت معاني الأبوة في نفسك، وصغرت حين مسحت على آثار النبوة في دارك، وانحططت حين استعبدت لأنانيتك الوضيعة!
يا لحكمتك أيها الفلاح الساذج حين ذهبت تجتث جذور الشجرة التي لا تثمر ولا تفيء الظل!
ويا بني، لا تجزع إن تراءت لك كلماتي فوق عقلك الصغير، وبدت لك خواطري فوق قلبك الغض!
فإلى اللقاء على سيف البحر حيث تموج الدنيا بفلسفة الحرية في معاني اللهو والعرى. . .
وإلى اللقاء حين تصقل السنون عقلك وتشحذ الأيام ذهنك فترقى إلى المعاني السامية التي تفيض بها قلب أبيك الكبير، وهي تتدفق بالعطف والحنان. . .
كامل محمود حبيب