مجلة الرسالة/العدد 840/قناة السويس ومستقبلها

مجلة الرسالة/العدد 840/قناة السويس ومستقبلها

ملاحظات: بتاريخ: 08 - 08 - 1949



للأستاذ أحمد رمزي بك

حديث الليلة، يتناول قناة السويس، وموقع مصر الممتاز باعتبارها صاحبة البذخ، الذي كان يفصل بين البرين لافتتاح القناة.

1 - ولبيان أهمية هذا الموقع، أعرض عليكم تاريخين مهمين:

في 7 مارس سنة 1949 وقعت الحكومة الملكية المصرية اتفاقاً مع شركة القناة بعد مفاوضات ومباحثات قامت بها وزارة التجارة والصناعة: وهو اتفاق تناول أقطاب الوزارة نصوصه وبنوده بأحاديث، وأبانوا ما حصلت عليه مصر من مزايا وما حققته لنفسها من أهداف: وبعد إتمام هذا الاتفاق عملاً وطنياً كبيراً يصح لوزارة التجارة والصناعة أن تفخر به، وهو عمل معروض الآن على الهيئات التشريعية للبلاد لإقراره والتصديق عليه.

وفي 17 مارس سنة 1968 ينتهي عقد الامتياز المنوح للشركة.

2 - وبين هذين التاريخين تقع فترة من الزمن تقرب من عشرين عاماً، تحتم علينا أخذ الأهبة والاستعداد لتسلم هذا العمل العظيم حتى ننهض به ويتحمل أعبائه أمام العالم بالتوقيع على الاتفاق أصبحنا شركاء لحد ما مع الشركة نقاسمها وتقاسمنا المغانم والأعباء ونعمل معها على قواعد أكثر ملاءمة لنا مما عهدناه من قبل وفي فترة تحضر لتمصير القناة وجعلها مشروعاً قومياً صميما.

3 - فهل لنا أن نتساءل، ماذا أعددنا لهذا اليوم؟ أما من الناحية الإدارية والفنية، فأعتقد أن مصر لن تعجز عن إخراج الفنيين والإداريين الذين يتولون هذا العمل ويثبتون كفايتهم وجدارتهم على صيانة هذا الطريق العالمي: أما من ناحية المستقبل الذي يحيط بالقناة وما يتبعها من اثر موقع مصر الجغرافي الممتاز، فهذا الذي يجعلنا نفكر تفكيراً منطقياً يتفق مع ما يحيط من أحداث وما يغمر الدنيا من اتجاهات وتطورات، أخشى أن تؤثر في أهمية القناة وموقعنا الجغرافي، أو تساعد على الإقلال مما كان لهذا الموقع العالمي يسبغه علينا من مظاهر احتكار إحدى طرق المواصلات العالمية.

4 - إنا لا ننسى أن مصر تعرضت مرتين وسط كل من الحربين العالميتين في القرن العشرين لهجومين يرمي كل منها إلى انتزاع هذا الموقع الجغرافي الهام. فف 1915، 1916 تعرضت القناة مباشرة لهجوم من جانب الجيش التركي، وإذا من ضفة القناة الشرقية تبدأ حملة الهجوم المضاد الذي اقتحم سيناء وفلسطين وسوريا ولبنان وانتهى عند جبال طوروس سنة 1918

وفي سنة 1941 - 1942 تكرر الهجوم من ناحية الصحراء الغربية ووجهته منطقة القناة، والذي ساعدته الظروف لزيارة هذه الجهة أيام معارك العلمين كان يرى التجمعات التي أتت تترى من قوات الجيش التاسع وأخذت أماكنها على الضفة الشرقية لقبول المعركة إذا قدر لقوات المحور اقتحام استحكامات الدلتا ووصولها إلى منفا في قناة السويس.

فهذه الجيوش التي تجمعت في الحرب العالمية الأولى والثانية كانت تقصد بهجمتها قناة السويس وانتزاع هذا الموقع الهام باعتباره الشريان الحيوي الذي يربط القارات الثلاث، وجاءت هزيمتها في العلمين بهجوم مضاد استمر حتى تونس في الحرب الأخيرة 1942.

فالذي يسيطر على القناة، يسيطر على مقدرات الحروب وتوجيهها وانتصاراته، ويفرض على خصمه ما شاء من القرارات الحاسمة التي يتوقف عليها مصير الحروب ونهاية المعارك ونحن إزاء هذه الأهمية نرجو ألا يشاركنا غيرنا بامتلاك طريق عالمي آخر يقلل من أهمية هذه المنطقة في يوم من الأيام.

5 - هذا ما لمسناه في السنوات الاخيرة، أما في الماضي فقد لعب هذا الموقع الجغرافي لمصر صاحبة السيادة على برزخ السويس دوراً هاماً في حياتها، إذ جعلها صاحبة احتكار الطرق البرية والبحرية بين الشرق والغرب.

ففي القرون الوسطى، كانت مصر تحتل مكاناً مرموقاً في اقتصاديات العالم المعروف وقتئذ. وكانت تجارة جزء كبير من الدنيا يمر من البحر الأحمر عبر مصر إلى موانئ البحر الأبيض المتوسط، وكانت مراكز التجارة في إيطاليا تشارك مصر في هذا الاحتكار وخصوصاً مدينة البندقية.

6 - وما كاد يكتشف طريق رأس الرجاء الصالح إلى الهند حتى فقدت مصر أهمية موقعها الجغرافي الممتاز الذي كان يدر الخير عليها، ولم تقبل مصر أن تقف موقفاً سلبياً بل أرسلت حملات بحرية إلى آسيا عن طريق برزخ السويس وساعدها في ذلك حلفاءها من البنادقة، وكان القصد منها رد غائلة البرتغاليين عن الهند. وأراد هؤلاء أن يهاجموا مراكز مصر في البحر الأحمر فتعرضت سواكن وغيرها لحروبهم، واستمر هذا النزاع حتى العهد العثماني.

7 - وفي عدد المجلة الجغرافية الأمريكية بواشنجتن، مقال تحدث فيه كاتبه عن أثر التوابل في اكتشاف طرق الملاحة وفي خدمة علم الجغرافية العالمية، ويفهم منه أن مصر بحكم سيطرتها على هذا الموقع الجغرافي، كانت تسيطر أيضاً على تجارة التوابل، وأن هذا الاحتكار للطرق المائية أدى في النهاية إلى اندفاع الدول البحرية نحو اكتشاف آفاق بعيدة وطرق مواصلات تقلل من أهمية هذا المركز الممتاز وتضعف من أثر هذا الاحتكار

وتنتهي هذه الاكتشافات العظيمة بأن تفقد مصر هذا المركز الذي يدر عليها الخير، وتهبط أهمية البندقية وجنوة وغيرها وتصبح ثغوراً من الدرجة الثانية بعد أن كانت دولاً مستقلة فيها مستودعات المتاجر ومراكز الثروات المالية.

8 - وها نحن اليوم نواجه عهداً يذكرنا بتلك الأيام البعيدة: إننا نرى أمامنا تقدماً بعيد المدى وانقلاباً شاملاً في طرق المواصلات الجوية والبرية والبحرية التي تربط الأرض.

ونعيش في زمن مليء بالأحداث الكبرى والتطورات السريعة وأرى في الآفاق بنا قوات قد اتجهت إلى البناء والخلق والإنشاء وهي نعتقد أن عمل المعجزات ممكناً وأنه بوسعها إحياء الأموات من الأرض ونقل السكان وإجلائهم عن مواطنهم. ونشعر بأن الشرق الأوسط يتمخض عن تطور وتغيير شامل.

9 - فمن ناحية المواصلات يتحدثون عن طرق القوافل القديمة التي كانت تخترق ويؤملون في إعادة تعبيدها حتى تستعمل لنقل البضائع، ويتحدثون عن العقبة وأثرها ومستقبل خليجها، ونسمع عن طرق حديدية توضع على الخرائط ثم تنفذ مشاريعها، ونرى أنابيب البترول تأتي من الأماكن البعيدة لتصب في أماكن معينة، ونسمع عن موانئ وثغور توسع وتفرض نفسها على هذا الجزء من شرقي المتوسط.

10 - وقد يبدو هذا لأول وهلة صعب التحقيق ولكن المطلع على ما كان عليه الشرق من عظمة وحضارة وغنى لا يعجب أن يسمع في القريب العاجل بعودة العمران إلى هذه المناطق، ويكفي أن نستعيد ما كانت عليه مدينة أنطاكية في العصور السالفة لنعرف شيئاً مما يخبئه المستقبل لثغر مثل حيفا يطل علينا.

11 - إنه من أصعب الأمور مواجهة المستقبل على قياس الحاض، كما أنه من أخطر الأمور الاكتفاء بنظرتنا القومية بل يجب أن نتبعها بنظرة عامة لما يبدو حولنا.

ولهذا نقول أن منطق الحوادث الدائرة حولنا يحتم علينا دراسة مستقبل قناة السويس دراسة علمية، لا من ناحية المصلحة المحلية وحدها، بل على ضوء التطور العالمي وما يدور في بقاع هذه المنطقة المحيطة بنا والتي تحاول أن تشاركنا في مركزنا الممتاز.

12 - إننا في حاجة إلى عدة مشاريع إنشائية: أهمها توسيع الموانئ المصرية في بور سعيد والسويس، وإنشاء مناطق حرة متسعة، وفي وضع شبكة من المواصلات البرية السهلة من الشرق إلى القناة ومن الغرب إليها، وفي حاجة لسياسة عامة للخطوط الحديدية حول القناة، ثم في حاجة إلى عدد من المطارات الكبرى والمحطات المائية لبتي تسمح بهبوط أي نوع كبير من الطائرات فيها.

13 - إن تطور مصر سيفرض نشر العمران في سينا، ومصلحة القناة تحتم إنشاء منطقة صناعية كبرى في المثلث الذي تشغله المعسكرات البريطانية: لأن توسيع الصناعات الكبرى يفرض من المبدأ أن تكون على الطرق المائية.

هذه نظرة لمستقبل القناة في السنوات القادمة إذا أخذنا بها نقول: أن مصر قد انتقلت من الزمن الذي كانت معدة فيه لخدمة القناة ودخلت العهد الجديد الذي يضع القناة في خدمة مصر

أحمد رمزي