مجلة الرسالة/العدد 842/إبراهيم عبد القادر المازني

مجلة الرسالة/العدد 842/إبراهيم عبد القادر المازني

ملاحظات: بتاريخ: 22 - 08 - 1949


موجة من الأسى غمرت شعوري كله وأنا أقرأ نعي الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني منذ أيام. . . ألأنه ودع الحياة وفارق أصدقائه ومحبيه على غير ترقب وانتظار، أملأني قد رأيته وجلست إليه ساعة أو بعض ساعة كانت هي اللقاء الأول والأخير، أم لأني قد هاجمته على صفحات (الرسالة) هجوماً عنيفاً راعيت فيه جانب الحق وأهملت كل ماعداه؟!

ليس من شك في أن تلك الأمور جميعاً قد تركت في نفسي إحساساً

عميقاً بالأسى لفقده؛ ومن دواعي الأسف حقاً أن يمسي الأحياء

ويصبحون فلا يجدون المازني يملأ مكانه، وأن ألقاه أنا منذ قريب

فيتحدث إلي وأتحدث إليه، ثم يشاء القدر أن أهاجمه هجوماً عنيفاً دون

أن أعلم أنه قد شد الرحال ومضى في طريقه. . . إلى لقاء الله!

لقيت المازني أول لقاء وآخر لقاء بمكتب الأستاذ توفيق الحكيم في (أخبار اليوم)، وكان ذلك منذ شهور. . . وحين دخلت الحجرة لم يكن بها غير بضعة أشخاص ما لبثوا أن استأذنوا مودعين وبقينا نحن الثلاثة: المازني وتوفيق الحكيم وأنا. . . ومضينا نطرق من أبواب الحديث ما شاءت السياسة والأدب والفن، متفقين حيناً ومختلفين حيناً آخر، ثم شاءت الظروف أن نعرض لمشكلة طال حولها الجدل بيني وبين المازني حيث قنع توفيق الحكيم بالإنصات ومضى يرقب نهاية الشوط بصبر لا ينفذ.

كان - رحمه الله - إنساناً جم الأدب في نقاشه، مهذب العبارة، مشرق اللمحة، لبقاً في التخفيف من حدة الجدل بالبسمة العذبة والنكتة البارعة، ولكن القضية كانت قضية بعدت فيها الشقة بين نظرتين: نظرة الشيوخ ونظرة الشباب، أو نظرة الأمس ممثلة في الماضي القريب، ونظرة اليوم ممثلة في الحاضر المشهود. وكأنما ضاق المازني بحجج محدثه فراح يسأل عنه توفيق الحكيم!. . .

ونظر إليه توفيق الحكيم في شئ من الدهشة وهو يقول: لقد ظننتك تعرفه حق المعرفة، ومن هنا لم يخطر لي أن أقدم كلاً منكما للآخر. . . هذا (فلان) كاتب (التعقيبات) ف الرسالة.

ورأيت المازني - رحمه الله - يمد إلي يده مصافحاً في حرارة، مصافحاً للمرة الثانية وهو يقول: معذرة، فأنا أقرأ لك ولا أراك! ومن العجيب أنك ثائر هنا وثائر هناك! ولكن لماذا تهاجم بعض من أعزهم من حين إلى حين. . . لماذا تهاجم العقاد مثلاً وفضله على الثقافة والأدب لا ينكر؟!

وأجبت وعلى فمي ابتسامة تسجل للمازني معاني الوفاء: ومن قال لك أني أنكر هذا الفضل؟ أنا أول من يعترف به، وإذا كنت قد هاجمت العقاد يوماً فلأنني أقدره، وكذلك الأمر بالنسبة إلى طه حسين وتوفيق الحكيم!

وكأنما أعجب المازني بهذا الجواب فارتسمت معالم السرور على وجهه، ثم قال وهو يغرق في الضحك ونغرق معه: هل أفهم من هذا أن ليس لي عندك منزلة هؤلاء السادة لأنك لم تهاجمني حتى الآن؟!

فقلت معقباً على اللفتة الرائعة: معاذ الله يا صديقي، أنك سترغمني إرغاماً على أن أقول عنك ما في نفسي إثباتاً لتقديري لك!

ويهتف المازني والابتسامة العذبة لا تفارق شفتيه: أنا أدرى الناس بما يمكن أن تقوله عني. . . ستقول إن المازني كان بالأمس خيراً منه اليوم، وإنه ترك زمرة الأدباء وانضم إلى زمرة الصحفيين، وإنه يكتب في كل مكان، ويكتب في كل شئ، حتى أصبح تاجر مقالات يهمه ملاحقة السوق أكثر مما تهمه جودة البضاعة، أليس كذلك؟. . . ولكن لا تنس أن الأديب في (بلدكم) مجبر على أن يسلك هذا الطريق ليكسب عيشه وعيش أولاده، وليستطيع أن يحيا حياة كريمة تشعره بأنه إنسان. . . ترى هل بقي شيء يمكن أن تقوله؟

فأجبت وأنا مأخوذ بصراحته المحببة وتواضعه الجم: نعم، بقي أن المازني لم يهتد حتى الآن إلى خير ملكاته، خيرها على الإطلاق. . . لو عرف المازني أن معدنه القصصي من أنفس المعادن لأفسح الطريق لملكته القاصة، ولغدا في ميدان القصة وهو قمة من القمم. . . لقد قلت ذلك لتوفيق الحكيم أكثر من مرة فكان يوافقني كل الموافقة!

وضحك المازني وهو يقول: هذا حق، ولكنك تريدني على أن أكون منافساً يسد الطريق في وجه توفيق الحكيم. . . لا يا سيدي، أنا لا أحب أن أرزاق الناس! ويهتز توفيق الحكيم من الضحك وأهتز معه، ويمضي الوقت حافلاً بأسباب الأنس الأنيس والمتعة التي تغمر آفاق النفس والروح

ويستأذن المازني فأنهض لتوديعه قائلاً: أنا سعيد بلقائك!

ويشد المازني على يدي بكلتا يديه قائلاً لي: ويسعدني أن يتكرر هذا اللقاء!

ولكن اللقاء لا يتكرر، ثم تشاء الظروف أن يثيرني رحمه الله مرتين فأهاجمه مرتين: أهاجمه وأنا لا أعلم أنه شد الرحال ومضى في طريقه. . . إلى لقاء الله!

لقد كان المازني عالماً من خفة الظل وعذوبة الروح، وعالماً من سماحة الطبع ونقاء السريرة، وعالماً من كرم الخلق وندرة الوفاء، وكان المازني وكان. . . وأصبح كل شيء في عداد الذكريات!

هذه كلمة عابرة تحدد من نفسي ونفوس عارفيه؛ أما مكانه من تاريخ الأدب العربي المعاصر فله حديث غير الحديث، ومناسبة غير المناسبة. . .

وأهتف مع العقاد في غمرة حزنه ووهج أساه: سلام على إبراهيم، وسلام على الدنيا!!

(أ. م)