مجلة الرسالة/العدد 842/من صور النكبة:

مجلة الرسالة/العدد 842/من صور النكبة:

ملاحظات: بتاريخ: 22 - 08 - 1949



رقية. . .

للآنسة فدوى عبد الفتاح طوقان

تدلَت عن الأفق أم الضياء ... ملفعَةً باصفرار كئيبِ

وقد لملمت عن صدور الهضاب ... وهام التلال ذيول الغروب

وجرَت خطاها رويداً رويداً ... وأومتْ إلى شرفات المغيب

فأطبقن دون رحاب الوجود ... وأغرقنه في الظلام الرهيب

وغشَى الدجى مهجات نبضن ... بشوق الحياة، بوهج اللهيب!

وأخرى تلاعب ثلج السنين ... بها فخبت في حنايا الجنوب!

وأوغل في حاليات القصور، ... وأوغل في كل كوخ سليب

فمدَ الجناح على بسمات الشفاه، ... وفوق جراح القلوب

وضمَ السعيد بأحلامه، ... وضمَ أخا البؤس نِضْو الكروب

وفي وحشة الليل، ليل المواجع، ... ليل المواجد، ليل الهموم

وللريح ولولة في الشعاب ... وللرعد جلجلة في الغيوم

وللبرق خفق توالى دراكاً ... يشق حجاب الظلام البهيم

بدا (جبل النار) ترب الخلود ... له روعة الأزليِ القديم

تعالى أشمَ أمام السماء ... يجاذب منها حواشي الأديم

كأنَ ذراه رُفعن هناك، ... على الأفق، متكأ للنجوم

وكان وراء غواشي الدجى ... رهيب السكون عميق الوجوم

تحسُ به رجفة الكبرياء ... الجريحة والعنفوان الكليم

وفي قلبه النار مكبوتة الزَفير، ... فيا للهيب الكظيم!

هنالك، في سمح مهد البطولات، ... والمجد، والوثبات الكُبَرْ!

هنالك، تحت الضباب المسفِ ... والأرض غرقى بدفق المطر

كأن الرحاب العلى بعيون ... السحائب تبكي شقاء البشر. . .

هنالك ضمَ (رُقيَة) كهفٌ ... رغيب عميق كجرح القد تدور به لفحات الصقيع ... فيوشك يصطك حتى الصخر

وتجمد حتى عروق الحياة ... ويطفأ فيها الدم المستعر

(رقية)؛ يا قصة من مآسي ... الحمى سطرتها أكفَ الغير

ويا صورة من رسوم التشرد، ... والذل، والصدعات الأخر. . .

طغى القُرُ، فإنطرحت هيكلاً ... شقيَ الظلال، شقيَ الصور!

تعلَق شيءٌ كفرخ مهيض ... على صدرها الواهن المرتعدْ

وقد وسَدت رأسَه ساعداً ... وشدَت بآخر حول الجسد

ولو قدرت أودعته حنايا الضلو ... ع، وضمَت عليه الكبد!

عساها تقيه بدفء الحنان ... ضراوةَ ذاك المساء الصَرِد

وعانقها وهو يصغي إلى ... تلاحق أنفاسها المطَرِد

وكانت خلال الدجى مقلتاه ... كنجمين ضاَءا بصدر الجلد

تشعَان في قلبها المدلهمُ ... فيوشك في جنبها يتَقد

وغمغم: أُمَ، وراحت يداه ... تعيثان ما بين نحرٍ وخد

فأهوت على الطفل تشتمُ فيه ... روائح فردوسها المفتقد

وفي مثل تهويمة الحالمين ... وغيبوبة الأنفس الصَافيه

أطلَت على أفق الذكريات ... وفي عمقها لهفة ظاميه

تعانق بالروح طيف الديار ... وتلثم تربتها الزاكيه

وتبصر في سبحات الخيال ... ملاعبها الرحبة الحانيه

وأفياَءها الدافئات وتلك الدهاليز ... في الروضة الحاليه

ومن ههنا ظّلة الياسمين ... ومن ههنا ظّلة الداليه

وإلفُ الحياة يُشيع الحياة ... بأجواء جنَها الهانيه

فيا دار ما فعلته الليالي ... بأشيائك الحلوة الغاليه؟

وربُك. . . كيف تهاوت به ... يدُ البغي والقوة الجانيه!

ومرَ على قلبها طيف يومٍ ... دجيِّ الضحى، عاصف مربد

وقد نفرت في جموح الإباءِ ... نسور الحمى للحمى تفتدي دعاها نفير العلى والجهاد ... فهبَت خفافاً إلى الموعد

تذود عن الشرف المستباح ... وتدفع عنه يد المعتدي

وتقتحم الهول مستحكماً ... وتسخر باللهب الموقد

فتنقضُ مثل القضاء المتاح ... وتهبط كالأجل المرصد

وليست تبالي وجوه الردى ... كوالح في الموقف الأربد

فياللحِمى! كم حميٍ أبيٍ ... تجدَل فيه. . . وكم أصيد!

أباحوا له المهج الغاليات ... وأسقوا ثراه دم الأكبد

وطالعها في رؤى الذكريات ... فتاها، نجيُ العلى والطماح

إباء الرجولة في بردتيه ... وزهو البطولة ملء الوشاح

يشدُ على الغاصب المستبد ... ويضرب دون الحمى المستباح

ويلقى عراك المنايا وجاهاً ... ويكتسح الهول أيَ اكتساح

وتعرف منه الوغى كاسراً ... قويَ الجناح عنيد الجماح

يخط على صفحات الجهاد، ... سطور الفدا بدماء الجراح

نبيل الكفاح إذا الخصم راغ ... ومن شرف الحرب نبل الكفاح

فيا من رأى النسر تجتاحه ... وتلوي به بغتات الرياح

تهاوى صريعاً وأرخى على ... حطام أمانيه ريش الجناح!. . .

وفاضت لواعجها، لا أنيناً ... جريحاً، ولا عبرة زافره

ولكن ذعافاً من الحقد والبغض والضغن والنقم الغامره!

متى يشتفي الثأر؟ يا للضحايا ... أتهدر تلك الدماء الطاهره

ويا للحمى! من يجيب النداَء ... نداَء جراحاته النافره

وقد أغمد السيف، لا رد حقاً ... ولا أطفأ الغلة الساعره

تململ في حضنها فرخها ... فضمته محمومةً ثائره. .

ومالت عليه وفي صدرها ... مشاعر وحشيةٌ هادرة. .

لترضعه من لظى حقدها ... ونار ضغائنها الفائره. .

وتسكب من سم خلجاتها ... بأعماقه دفقةً زاخره!.

هنا (جبل النار) كان يطوَف ... حُلمٌ بأجفانه الساهره

تغاديه فيه طيوف نسورٍ ... تغلَ بأفق العلى طائره

مخالبها راعفات. . . وملء ... جوانحها نشوة ظافره. .

وبرد التشفيَ بثاراتها ... وراء مناسرها الكاسره

(نابلس - جبل النار)

فدوى عبد الفتاح طوقان