مجلة الرسالة/العدد 844/تعقيبات

مجلة الرسالة/العدد 844/تعقيبات

ملاحظات: بتاريخ: 05 - 09 - 1949



للأستاذ أنور المعداوي

كلمات عن الإذاعة موجهة إلى الوزير المسئول:

نقلت الصحف أن معالي الدكتور محمد هاشم وزير الدولة سيخص محطة الإذاعة المصرية بجزء من وقته وجهده، عسى أن تفلح العناية والرعاية في تخفيف شيء من سخط الجمهور المستمع في كل مكان. . . هذا الخبر إذا تخطى مرحلة التصديق إلى التحقيق كان حرياً أن يبعث في النفوس اليائسة من إصلاح الأمور في الإذاعة، أملاً كبيراً مبعثه الإيمان الصادق بأن الشباب في أكثر خطواته. . . عمل وأمل!

أعرف وزير الدولة الشاب منذ تسع سنوات على التحديد؛ أعرفه معرفة هيأتها قاعة المحاضرات في كلية الآداب، يوم كنا نجلس متجاورين لنستمع إلى محاضرات الدكتور طه حسين بك عن الأدب المصري الحديث. . . ولو علم القراء مبلغ عشق الوزير الشاب للأدب ومدى تعلقه به لبدا لهم الأمر عادياً لا غرابة فيه، فيما لو قدر لهم أن يروا الدكتور هاشم المدرس بكلية الحقوق في ذلك الحين وهو يترك محاضراته ليأخذ مجلسه بين الطلبة في كلية الآداب! كنت أدخل إلى قاعة المحاضرات فأرى الدكتور هاشم وقد سبق الطلاب إلى التبكير بالحضور، حتى لقد كان في الكثير الغالب من الأحيان أول (طالب) يلقي على القاعة تحية الصباح. وآخذ مكاني إلى جانبه دون أن أعرف شيئاً عن هذا الذي أجاوره؛ فكثيراً ما كان يقع في الظن أنه زائر غريب أقبل من خارج الجامعة ليستمع إلى الدكتور طه حسين، شأن أولئك الزائرين الغرباء الذين كانوا يسعون إلى محاضراته ليروه رأي العين والفكر في وقت معاً!

ولكن هذا الزائر الغريب كان يثير اهتمامي بشخصية، تلك الشخصية التي كنت ألمح في سماتها مظهر العلماء. . . جلسة هادئة متزنة فيها الكثير من الوقار، ونظرة نفاذة ساهمة تزن حقيقة المحاضر على ضوء كلماته، وأذن مصيخة واعية تحتشد للحديث لتلتقط كل ما يقال، ووجهة مشرق القسمات يعبر عن إمتلاه النفس والعقل والشعور. . . هذا كله دفعني يوماً إلى أسأله عن أسمه شغفاً بمعرفته، ولشد ما راعني أن أعرف أنه الدكتور محمد هاشم المدرس بكلية الحقوق. ومنذ ذلك اليوم وأنا أحمل له في نفسي كثيراً من معاني الإكبار والإعجاب!

واليوم، وبعد تسع سنوات من اللقاء الأول في قاعة المحاضرات بكلية الآداب يصبح الدكتور هاشم وزيراً للدولة. . أنا سعيد بأن يكون في كرسي الوزارة هذا الشاب العالم الأديب فليس من شك في أن كل عمل ينتسب إليه إنما ينتسب إلى همة الشباب، ويصطبغ بصبغة الخلق، ويطبع بطابع الآفاق الرحيبة التي تحلق فيها أجنحة ممتازة من الثقافة والعلم والأدب. . . ولهذا أود أن أخاطب فيه كل تلك الصفحات مجتمعة، حين أسوق إليه بعض الحقائق عن الإذاعة المصرية وهو أهبة النهوض بها من وضع كما يقال.

يعلم وزير الدولة أن الإذاعة في كل أمة من الأمم ما هي إلا وسيلة من وسائل الترفيه والتثقيف والإصلاح. . . الترفيه عن طريق تغذية النفوس بالتسلية الرفيعة التي تهدف إلى مثل عليا وغايات، والتثقيف عن طريق إمداد العقول بكل مفيد في ميدان الآداب والعلوم والفنون، والإصلاح عن طريق تنوير الأذهان بعرض كل مشكلة في نطاق صلة الفرد بالمجتمع الذي يعيش فيه ولن يتحقق هذا كله إلا إذا تحقق التوفيق في الاختيار. . . اختيار المشرفين على أقسام الإذاعة، واختيار المشتركين في برامج الإذاعة ثم أولئك الذين يوجهون دفة الأمور في كل شأن من الشئون.

المراقب العام للإذاعة يجب أن يكون من صفوة المثقفين، وكذلك المشرفون على الأقسام والمشتركون في البرامج؛ ولست أطالب هنا بأن يكون هؤلاء السادة من حملة الإجازات العلمية كالدكتوراه والماجستير، كلا فليست العبرة بما يحمل الإنسان في يده من شهادات ولكن بما يحمل في رأسه من ثقافات. هؤلاء جميعاً هم المسئولون عن سخط الجمهور وتذمره وضيقه بما يسمع في الصباح والمساء: محاضرات دينية يقف الجهد فيها عند سطحية السرد وسذاجة العرض، فهي أشبه بتلك القصص التي تلقى على الأطفال، ومحاضرات أدبية تخلو من عمق الفكرة وإشراق اللمحة فهي ترديد وتقليد، ومحاضرات سياسية وعلمية واجتماعية تنقل نقلا عن الصحف، فإذا قرأت هذه أمكنك أن تستغني عن سماع تلك! وتمثيليات تافه مسفة قصد بها إلى ملء الفراغ الذي تحسه البرامج لا الفراغ الذي تحسه الأذهان، وعناء مريض يدغدغ الغرائز ويرضى هواة الانحلال ممن يعانون مركب النقص في صفات الخلق والرجولة، ومقرئون يسيئون إلى روعة الترتيل بأصواتهم المنفرة التي يقع عليها اختيار الآذان الصم والأذواق الفاسدة!

وأعجب العجب أن الأسماء التي تطالعك اليوم من وراء المذياع هي الأسماء التي طالعتك بالأمس القريب والأمس البعيد، وستطالعك في الغد القريب والغد البعيد، أتدري لماذا؟ لأنها أسماء فرضت فرضاً وكأنها ضريبة يدفعها الجمهور المستمع من وقته الضائع وأعصابه المرهقة! وإذا رجعت إلى بعض دعاة الإصلاح في الإذاعة قالوا لك: لقد حاولنا فضاع الجهد وتبدد الأمل وذهب التوجيه مع الريح. . . إذا رغبنا في هذا (الفلان) رغب غيرنا في ذاك، وإذا رأينا الرأي هنا صدر الأمر بإلغائه من هناك! أسماء مفروضة ولو شكت رءوس أصحابها من أزمة الخواء، وأسماء مرفوضة ولو ناءت رؤوس أصحابها بنعمة الامتلاء، وهذا هو مصدر الداء الذي يجب أن يعالج ليستقيم كل معوج من الأمور وكل منحرف من الأوضاع!

إذا أراد الدكتور هاشم أن ينهض بالإذاعة فليس أمامه إلا أن يعيد النظر في تلك الفئة من المشرفين على الإذاعة، فإذا خطر له أن يبقى كلا منهم في مكانه فلا بأس من تكوين لجنة من العقول الممتازة في ميدان الأدب والعلم والفن، تكون مهمتها الإشراف على هؤلاء المشرفين حتى لا يخطوا خطوة يمليها الهوى والغرض أو يميلها الجهل الأصيل بقواعد الذوق السليم. . . وعليه بعد ذلك أن يراجع تلك الجهات التي تصدر أمرها وتفرض رأيها على الإذاعة في مسألة تلك الأسماء المعروفة التي ملتها النفوس ومجتها الأسماع، فإذا حقق تلك الغاية فلا بأس مرة أخرى من تكوين بضع لجان تقوم بتنظيم البرامج في كل قسم من الأقسام، وانتهاج خطة دائمة يسير عليها العمل وتجنبه الركود والجمود، ولها أن تختار من يصلحون للإذاعة من الأدباء والعلماء والفنانين على ضوء الكفاية الشخصية لا الكفاية الحزبية!

هذا هو الطريق. . . ونحن في انتظار الخطوة التالية لوزير الدولة ووزير الشباب، وعهدنا بالشباب دائماً إذا اهتدى بنور العلم ونور الخلق أن يتخطى السدود ويحطم القيود!!

جائزة أدبية والمقال مسروق من (وحي الرسالة):

جريدة (بيروت المساء) اللبنانية جريدة عزيزة على نفسي حبيبة إلى قلبي. . . عزيزة وحبيبة لأنها من لبنان، ولأن محررها الفاضل الأستاذ عبد الله المشنوق صديق كريم، وما أكثر أصدقاء القلب والروح في لبنان الشقيق.

ولست أدري ما هو رأي الصديق الكريم في هذه القضية التي يشترك فيها بنصيب. . . ولعله قد جهر بهذا الرأي على صفحات (بيروت المساء)، ثم لم يقدر لي أن أطلع عليه، لأن الجريدة العزيزة الحبيبة قد انقطعت عن الوصول إليَّ منذ أمد بعيد، انقطعت على الرغم من وعود الأستاذ سهيل إدريس بأن (بيروت المساء) و (الصياد) في طريقها إليَّ من أسبوع إلى أسبوع. . . وها هو شهر قد مضى وأعقبته شهور ولم أر وجه الصحيفتين الحبيبتين، ولا أدري. . . أأعتب على الصديق سهيل إدريس، أم أعتب على الصديقين عبد الله المشنوق وسعيد فريحه؟!

مهما يكن من شيء، فحسبنا أننا نستروح أنسام لبنان ونتسقط أخباره من مصادر أخرى تحمل إلينا مما نريد قليلاً من كثير. . . هذه جريدة (صدى الأحوال) اللبنانية تطالعنا في عددها الصادر يوم السبت 6 آب بمقال افتتاحي أشارت فيه إلى سرقة أدبية وقعت بين جدران كلية المقاصد الإسلامية ببيروت، أما تلك السرقة، فمن كتاب (وحي الرسالة) للأستاذ الكبير الزيات، وأما الذي أقدم عليها في رابعة النهار فهو طالب جرئ من طلاب كلية المقاصد لم يجد حرجاً في السطو على أدب الأستاذ الزيات من جهة، وعلى مال الأستاذ محي الدين النصولي من جهة أخرى!

هذه القصة الغربية أشارت إليها (صدى الأحوال) بهذه

الكلمات: (نشرت جريدة بيروت المساء بعددها الصادر في

3051949 مقالاً بعنوان (مقارنة خلقية بين بريطانيا وفرنسا)

مهد له قلم التحرير بهذه المقدمة: منذ أثنين وعشرين عاماً

والزميل الكبير الأستاذ محي الدين النصولي يقدم بانتظام

جائزة مالية سنوية توزع على الفائزين من طلاب كلية

المقاصد الإسلامية في مباراة خطابية إنشائية. وقد امتازت مباراة هذا العام بالمستوى الرفيع الذي بلغه المتبارون في

ناحيتي الكتابة والخطابة، وكان المحكمون الأساتذة: حسن

فروخ، وموسى سليمان، والدكتور جميل عانوتي موفقين في

أحكامهم. ويبدو في الصورة المحكمون الثلاثة وخلفهم الطلاب

الفائزون الثلاثة، ونحن إذ نشكر الأستاذ النصولي على

الأريحية العتيقة (عمرها 22 سنة) يسرنا أن ننشر فيما يلي

الخطاب الذي كتبه وألقاه الشاب الأديب السيد ظافر تميم الفائز

بالجائزة الثانية وعنوانه (مقارنة خلقية بين بريطانيا وفرنسا).

. .).

بعد هذا يعقب الأستاذ يوسف أبو عبد الله محرر (صدى الأحوال) قائلا: (إن المقال الذي فاز بتلك الجائزة منقول نقلاً أميناً عن مقال لأحد مشاهير الكتاب وهو الأستاذ الزيات تحت عنوان (إنجلترا هي المثل) في الجزء الثاني من (وحي الرسالة)، منقول بنصه وفصه، فلا تحريف ولا تأويل ولا استيحاء ولا اقتباس!. . . ولقد عدت إلى نفسي متسائلا: كيف جازت هذه السرقة على لجنة من المحكمين الجهابذة! وكيف لم يفطن لها الأستاذ الكبير عبد الله المشنوق، بل كيف لم يتمكن أحد من كبار الأدباء ممن يساهمون في تحرير الزميلة (بيروت المساء) من معرفة ذلك؟!. . لقد ذهب قسم من الجائزة إلى من لا يستحقها، إلى مختلس جازت حليته على المحكمين! إنني أقترح على الأستاذ النصولي أن يبدي رأيه في الموضوع وفيما عساه أن يفعل بالجائزة التي تمكن منها من هو غير أهل لها، وفيما إذا كان مستعداً للتعويض على من يجيئ بعده من المتبارين، ومكافأة الفتى زهير لاوند مكتشف السرقة الأدبية. . . أما كلمتي للجنة (الموفقة)، فهي أنها دون شك لم تكن مطلعة على الاختلاس، ولم يخامرها ريب في أن الموضوع هو من وضع الطالب، وسوى ذلك لما جازفت بنشره في الجريدة كأداة جرمية تدين المجرم والمتواطئين معه، فهي غير ملومة من هذا القبيل، ولها من حسن نيتها خير شفيع، إنما يمكن نعتها بالقصور وعدم الاطلاع الكافي لتكون أهلا لضبط مثل هذه المهمات البسيطة)!

هذه هي الكلمات التي عقب بها المحرر الفاضل على السرقة الجريئة، وإنك لتلمس فيها غيرة كريمة على القيم الأدبية والأوضاع الخلقية يستحق عليها كل ثناء وكل تقدير.

حول الفن والحياة مرة أخرى:

يذكر القراء تلك الرسالة التي بعثت بها إليَّ شاعرة فاضلة في العدد (839) من (الرسالة) ويذكرون أنها سألتني عن صلة الفن بالحياة وعما إذا كانت الثقافة الناضجة يكفي فيها الكتاب وحده عن كل ما عداه. . . ولقد رددت عليها في ذلك الحين بهذه الكلمات: (إن جوابي عن هذا السؤال هو أن الكتب لا يمكن أن تكفي لسبب واحد هو أن ثقافة من هذا الطراز يشوبها النقص ويعتريها القصور؛ لأنها تفقد عنصراً خطيراً هو عنصر التطبيق على الحياة! كيف تستطيعين أن تتذوقي آثار الفن وأنت بعيدة عن منابعه؟ وكيف تستطيعين أن تحكمي على نتاج القرائح وليس بين يديك قاعدة ولا ميزان؟ إن الثقافة يا آنستي ليست قراءة فحسب، ولكنها فهم وهضم وتذوق واستيعاب. . . وحياة من وراء هذا كله تعين الذهن على الإحاطة، وتسعف الحواس على التوهج، وترفع من قيم المواهب والكلمات)!

قلت هذا فعقب الدكتور طه حسين في (الأهرام) على ما قلت، وكذلك فعل الأستاذ توفيق الحكيم في (أخبار اليوم)، وذهب الأول إلى أن الإنسان يستطيع أن يكون مثقفاً عن طريق القراءة والاستماع فلا حاجة إلى الحياة، وأكد الثاني أن الكاتب يستطيع أن يخرج فناً ولو حسبته في جب وأغلقت عليه بسبعة أختام وتركته الأعوام. . . إلى آخر هذا الكلام العجيب الذي يفتقر إلى سلامة المنطق وقوة الدليل كما أثبت ذلك في حينه!

واليوم أعود إلى الموضوع بمناسبة مقال ظهر في (الرسالة) منذ أسبوعين تحت عنوان (القراءة وأصول الثقافة) للأستاذ الفاضل إيليا حليم حنا. . . في ذلك المقال أورد الأستاذ إيليا كلمات قالها (جونسن)، وهي كلمات تؤيد الواقع الذي ناديت به، وتغنى عن كل تعقيب!

يقول جونسن: (من يتصور أن الأفكار لا توجد إلا في الكتب، وأن في الكتب كل الأفكار، فما هو إلا واهم. . . الأفكار تجري مع الأنهار والمجاري، وتطفو على وجه البحر، وتتكسر على شواطئه، وتسكن التلال والجبال، وتسطع مع نور الشمس، وتنسدل على أجنحة الظلام. . . إن الأفكار موجودة في كل مكان وزمان)!

فإلى الكاتبين الكبيرين اللذين خالفاني فيما ناديت به. . . أهدي هذه الكلمات!!

أنور المعداوي