مجلة الرسالة/العدد 845/تعقيبات

مجلة الرسالة/العدد 845/تعقيبات

ملاحظات: بتاريخ: 12 - 09 - 1949



للأستاذ أنور المعداوي

(تحت المبضع) للأديب السوري محمد روحي فيصل:

كتاب في بضع وثمانين صفحة، ولكنه يقدم صاحبه خير تقديم؛ يقدمه في معرض النقد الأدبي حين يكون للذوق المرهف أثره الملحوظ في اللمحة الفنية التي تغنى عن لمحات، وفي اللمعة الفكرية التي تهدي إلى لمعات. . . أما الكتاب، فهو (تحت المبضع)، وأما الكاتب فهو الأستاذ محمد روحي فيصل رئيس قلم المطبوعات في (حمص).

هذه كلمات يجب أن تقال قبل أن أقدم للأستاذ روحي فيصل خالص الشكر على هديته، وقبل أن أضع مبضعه تحت المبضع، فأتفق معه حيناً، وأختلف معه حيناً آخر. . . ولا بأس أبداً من أن نلتقي هنا لنفترق هناك، وما دامت السطور الأولى من هذه الكلمة النقدية تحمل إلى القراء حكما صادقاً وأخيراً على شخصية الكاتب وما كتب!

في هذا الكتاب فصول أفردت لنقد الشعر والنثر ممثلين في مهرجان أبي العلاء. . . ومرة أخرى نعود إلى فيلسوف المعرة لننظر فيما قاله الأستاذ روحي فيصل عن هؤلاء الذين اشتركوا في إحياء ذكراه، وبخاصة تلك النخبة من الشعراء أمثال الأساتذة: عمر أبي ريشة، وبدوي الجبل، وشفيق جبري، ومحمد البزم، ومهدي الجواهري. . . شعراء خمسة تقدم كل منهم إلى المهرجان بأبيات من الشعر تفاوتت في سبحات الخيال ورفات الجناح، وكاتب يقف منهم جميعاً موقف العارض في أمانة، المحلل في أناة، الناقد في ثقة واحتشاد.

أول شيء أود أن أشير إليه هو تلك الكوى الفكرية التي أطلت منها رؤوس الشعراء والناثرين لتنفذ إلى أغوار الشخصية العلائية. . . بماذا خرجت تلك الرؤوس من ذلك الفكر المسجى على فراش الأجيال والعصور؟ أكاد أقول لا شيء!. . . لا شيء غير تلك القصة المكررة التي ترويها كتب القدامى والمحدثين، ولا شيء غير ذلك (الفلم) الذي تعرض مناظره على (شاشة) الشعر والنثر دون أن تتجدد الزوايا العديدة في الصور النفيسة، وكأن أبا العلاء على كثرة (المخرجين) و (المصورين) نسخة واحدة أبرز فصولها مخرج واحد، والتقط مشاهدها مصور واحد، وكأني كنت أمد عيني إلى مهرجان أبي العلاء، وأرهف سمعي إلى ما يقال عنه يوم أن فلت في عدد مضى من (الرسالة): (لو قال الباحثون عن أبي العلاء إنه إنسان قلق لعبروا عن الواقع أدق التعبير، ولأحاطوا بكل جانب من جوانب شخصيته بهذه الكلمة الواحدة، ولكنهم ركزوا كل عنايتهم في جانب واحد انتهوا منه إلى حكم عام ما لبث أن استقر في الأذهان، واطمأنت إليه النفوس؛ هذا الحكم العام محوره (التشاؤم) في شخصية الرجل وفي فلسفته على حد سواء!. . . من الخطأ في رأيي أن ينسب الباحثون أبا العلاء إلى نزعة نفسية بعينها ليتفرد بها وليقف عندها لا يكاد يتعداها إلى غيرها من النزعات؛ ذلك لأن أبا العلاء قد مال إلى التفاؤل كما مال إلى التشاؤم، ونصح بالإقبال على الحياة كما نصح بالإعراض عن الحياة، وآمن بالبعث كما أنكر إيمانه بهذا البعث، وأوصى بالزهد في نعيم الدنيا كما أوصى بالإغراق في هذا النعيم، ونادى بفكرة الزواج والنسل، كما نادى بنبذ هذه الفكرة مقدماً من نفسه مثالاً لهذا الحرمان!. . . أبو العلاء إذن لم تكن له (لافتة) واحدة (يعلن) فيها عن رأي واحد تتميز به شخصيته الفلسفية والإنسانية، ولكنه كان أشبه بالتاجر الذي يعلن كل يوم عن (صنف) جديد من أصناف (بضاعته) عقب وروده بلحظات؛ وكل تلك السطور المتناقضة يمكنك أن تضعها تحت عنوان كبير مكون من كلمة واحدة هي: القلق!

ولقد فسرت هذا القلق على ضوء علم النفس الأدبي تفسيراً جديداً، حيث قلت بعد كلام طويل في هذا المجال: (الفراغ في حياة أبي العلاء، ولا شيء غير الفراغ، وعلى هديه نلتمس العلة الأصلية لتلك الذبذبة النفسية ممثلة في هذه الذبذبة الفكرية ولنا بعد ذلك أن نسأل: أي لون من ألوان الفراغ كان يشكو أبو العلاء؟ إنها ثلاثة ألوان: فراغ الشمس، وفراغ القلب، وفراغ الجسد. . . ولك أن تردهما جميعاً إلى الحرمان، فنفس أبي العلاء كانت تشكو الحرمان من العطف، وقلب أبي العلاء كان يشكو الحرمان من العاطفة، وجسد أبي العلاء كان يشكو الحرمان من المرأة. . . وقفْ طويلاً عند هذا الحرمان الأخير، فهو مصدر الحرمان كله، ومركز الفراغ كله، وعلة هذا القلق الذي وجه أبا العلاء ألف وجهة، وحيرة بين ألف رأي وعقيدة، وقذف بعقله إلى ألف درب من دروب الفكر، حيث يتجلى التناقض والتضارب والاختلاف! هذا الجدب العاطفي في القلب الإنساني، وهذا الكبت الطويل العنيف للغريزة الجنسية، هما في رأيي - ولا شيء غيرهما - مركبا النقص الخطيران في شخصية أبي العلاء، ولا حاجة بنا إلى الحديث عن مركب النقص وأثره في توجيه العقول والأفكار)!!

قلت هذا بعد أن تعرضت لآراء الباحثين ممن وقفوا عند الآفة الجسمية في حياة أبي العلاء مفسرين على ضوئها معالم الاضطراب في نظراته وآرائه. . . فليرجع القراء إلى ما قلت، لأن تلك السطور التي نقلتها هنا لا تغنيهم عن البحث كاملا مرتبط الفصول، متماسك الأجزاء، مسلسل النقلات، بين النتائج والمقدمات. . . قلته بالأمس، وأعود اليوم فأذكّر به، لأن الأستاذ روحي فيصل يتفق معي في خطباء المهرجان لم يأتوا بجديد حين يقول في مقدمة كتابه: (فأما إن أبا العلاء المعري نفسه قد استبان لنا على غير ما كنا نعرف من صورته، فذلك لا يقوله أديب له شيء من مشاركة في فهم الأدب على العموم، وفي فهم الأدب العربي على الخصوص. فما شع من هذا المهرجان الذي انقضى ضوء نظرية جديدة من شأنها أن تنير ناحية من أبي العلاء كانت مجهولة أو مظلمة، ولا انبثق عرض شامل بنظم هذا الرجل الكبير في شتى مجاليه)!

وأقف هنا وقفة قصيرة لأهمس في أذن الأستاذ فيصل قائلاً له: لقد كنت أرجو ألا يكون ناقداً فحسب، وإنما كنت أرجو أن يكون ناقداً وباحثاً في وقت معاً. . . أعني أنني كنت أود، وقد أشار إلى هذا الاجترار الممل فيما قيل عن أبي العلاء، أن يحاول هو من جانبه أن يضع شخصية الرجل تحت المبضع عسى أن يخرج من دراسته بنظرات جديدة. ولكن الأستاذ فيصل قد ترك أبا العلاء إلى هؤلاء الذين تحدثوا عنه من الكتاب والشعراء، مقتصراً على الإشارة العابرة إلى كلمات الفريق الأول، والنقد المفصل لقصائد الفريق الأخير!

وأنتقل بعد هذه اللفتة إلى الفصول النقدية الخمسة التي أفردها الأستاذ فيصل لشعرِ أبي ريشة والجبل وجبري والبزم والجواهري.

في تلك الفصول لمسات تنبئ في الكثير الغالب عن سلامة التقويم، ونزاهة التقدير، وعرض موقف للشخصية الأدبية على مدار الحقل الشعري واتساع مداه. . . هناك حيث تبحث عن معدن الملكة الناقدة فيشع في اللمحة الفنية التي تغنى - كما قلت لك - عن لمحات، وفي اللمعة الفكرية التي تهدى إلى لمعات. . . انظر مثلا إلى هذين البيتين من قصيدة بدوي الجبل حول مشكلة الآفة الجسمية في حياة أبي العلاء، وأحكم - بعد ذلك - على الذوق الأدبي عند روحي فيصل:

من راح يحمل في جوانحه الضحى ... هانت عليه أشعة المصباح

وجلا المصون من الضمائر فانتهى ... همس النفوس لضجة وصياح

(فاقرأ هذين البيتين كما قرأتهما أنا، وأعد تلاوتهما على نفسك، وانفذ إلى مطاويهما، وتذوق حلاوتهما، فستجد أنك حيال لون من الشعر المجنح الجميل طالما رغبنا في مثله، وطالما حرصنا على أن يسحب الشعراء على ذيله. وسترى عمل البيان في الخروج بخوافي النفس إلى دنيا النور أو دنيا الضجة والصياح كما يقول البدوي؛ وإنما يعجبني البيت الأول لأن صورة (الضحى بين الجوانح) من أرق الصور وأدناها إلى الخيال وأعقلها بالجمال. . . ويعجبني البيت الثاني لأن كناية (الضجة والصياح) من أبرع الكنايات في الدلالة على الكشف والإعراب).

هنا ذوق رائع في فهم الشعر ورفع الغطاء عن أسرار مراميه، ولكنني أختلف مع صاحبه حين يزن هذا البيت بميزان الأداء اللفظي في الوقت الذي أنادي فيه بإقامة الميزان للأداء النفسي في الشعر العربي الحديث. . . يقول بدوي الجبل في مجال الحديث عن موقع المرأة من شعور أبي العلاء:

يا ظالم التفاح في وجناتها ... لو ذقت بعض شمائل التفاح!

ويقول روحي فيصل في مجال التحليل والنقد: (فهنا عتاب ناعم يوجهه الشاعر لأبي العلاء فيما تجنى على المرأة من نقد، وهنا إغراء جميل على محاسن الأنوثة، وهنا فوق ذلك، ألفاظ خفاف، ومسرى حلو، ونغم لطيف، وشعور - على أنه سطحي وابتدائي وجماهيري - لا يخلو من شيء من الإحساس بفتنة المرأة وسحر الجمال).

معذرة إذا قلت للأستاذ فيصل: إن هذا الشعور الذي يصفه بأنه سطحي وابتدائي وجماهيري، هو وحده الذي أكسب بيت بدوي الجبل ذلك الأداء النفسي الذي أدعو الشعراء إلى أن يطرقوا أبوابه. . . إن كلمة (لو ذقت) هي التي أوحت إلى الأستاذ فيصل بهذا الوصف، ولكنه لو نظر إلى الظلال الفنية التي أسكنها الشاعر بناء التعبير ممثلة في تلك الكلمة، لتكشف له عمق الحركة النفسية في ذلك الصدق الشعوري المنبعث من بساطة الأداء.

ولقد كنت أود أن أطيل القول في مشكلة الأداء النفسي في الشعر، لولا أن هناك بحثاً يدور حول هذا الموضوع في انتظار العرض على صفحات (الرسالة) في الأيام المقبلة.

ويبدو لك من كتاب الأستاذ روحي فيصل أنه يفضل قصيدة عمر أبي ريشة على غيرها من الشعر الذي ألقى في المهرجان. . . وهنا أختلف معه مرة أخرى ما دام هو يضع الشعر أحياناً تحت مجهر الحركة اللفظية، وما دمت أنا أضعه أبداً تحت مجهر الحركة النفسية.

يقول أبو ريشة مثلاً:

أتريد الوجود منتهك الستر ... يرينا أسراره عريانا

ويفض الفدام عن قلبه السمح ... ويجريه للعطاش دنانا

لو بلغنا ما نشتهي لرأينا الله ... في نشوة الشعور عيانا

هنا معرض ألفاظ يعج بصور فكرية عادية التلوين مألوفة الأضواء، كل ما يهزك منها هو هذا الإطار التعبيري الذي يحيط بالصورة، ويضفي عليها شيئاً من الجمال، الجمال الذي يطالع الأنظار والأسماع ولا يطالع المشاعر والنفوس! ولكن الذوق المرهف يعود إلى محرابه الأصيل عند روحي فيصل عندما يهتز طرباً، وأهتز معه لهذا التصوير النفسي الموفق في هذين البيتين لمهدي الجواهري حول قسوة القدر على حياة أبي العلاء:

على الحصير وكوز الماء يرفده ... وذهنه، ورفوف تحمل الكتبا

أهوى على كوة في وجهه قدر ... فسد بالظلمة الثقبين فاحتجبا

ولمحة أخرى للأستاذ فيصل تبلغ الغاية في الإشراق، لمحة أصافح عليها يقظة النقد عند هذا الناقد الذواق. . . بيت من الشعر في قصيدة عمر أبي ريشة مأخوذ من بيت آخر في شعر شوقي، ويشهد الله أنني وقفت عند هذا البيت ورددته إلى منبعه الأصيل وتحدثت عنه منذ عام إلى بعض إخواننا من الأدباء، وكان ذلك يوم أن تلقيت من لبنان ذلك الديوان الجديد الذي أخرجته دار مجلة (الأديب) للشاعر أبي ريشة، والذي حوى إلى جانب ما حوى من شعره قصيدته التي ألقاها في مهرجان أبي العلاء. . . يقول شوقي في (مجنون ليلى):

قد يهون العمر إلا ساعة ... وتهون الأرض إلا موضعا ويقول عمر أبو ريشة:

قد تجف الحياة إلا وريداً ... ويضيق الوجود إلا مكانا

ويقول روحي فيصل: (. . . والتقى شاعرنا مع شوقي في بيت لا أدري كيف أخذه في رابعة النهار)! ثم يسكت عن الموازنة، تاركاً الحكم للقراء، حيث يقول: (أي البيتين أجمل وأروع؟ لا أريد أن أقطع أنا بالجواب الواضح، فالترجيح متروك لذوقك وفطنتك، ولفهمك فن البيان وفلسفة اللفظ، وحسبي الآن أني أثرت شوقك إلى البحث والموازنة، على ضوء مزاجك وثقافتك وصراحتك). . .

سكت الأستاذ فيصل عن الموازنة، ولكن هذا السكوت أفصح من كل الكلام. . . ولو كان في المجال متسع للإفاضة لقدمت أنا إلى القراء نقداً مفصلاً في مجال الموازنة بين البيتين، نقداً ينتهي فيه الحكم الأخير إلى هذه الكلمات:

لقد حاول أبو ريشة أن يقف من شوقي موقف سلم الخاسر من بشار فلم يبلغ شيئاً. . . إن الفارق بين بيت أبي ريشة وبيت شوقي، هو الفارق بين الجميز البلدي والتفاح الأمريكاني!!

وتبقى بعد هذا كله كلمة أخيرة أوجهها إلى الأستاذ روحي فيصل، وهي أن كثيراً من النقاد المتذوقين قد خلا منهم الميدان منذ أمد طويل، وحبذا لو تفرغ للنقد الأدبي ليضم جهده إلى جهود هذه القلة التي تعمل مخلصة على سد هذا الفراغ!

مصرع الكاتبة الأمريكية مرجريت ميتشل:

أسفت كل الأسف وأنا أطالع في الصحف منذ أيام نبأ مصرع الكاتبة القصصية الأمريكية مرجريت ميتشل. . . ومرجريت ميتشل كما لا يخفى على القراء هي مؤلفة تلك القصة الرائعة التي قرأها الملايين وشاهدوها على الشاشة، وأعني بها قصة (ذهب مع الريح. إن مصدر أسفي على مصرع هذه الكاتبة العظيمة هو أنها استطاعت بقصتها تلك أن تخرج أثراً فنياً لا يمكن أن تقاس إليه آثار كاتبة أخرى مثل جورج صاند، وأن تقدم الدليل على أن الأدب الأمريكي الحديث على تفاهته لا يخلو من الروائع، وأن قدرة المرأة على استكناه حقائق الحياة واستكمال أدوات الفن تفوق قدرة الرجال في بعض الأحيان!

ومن دواعي الأسف أيضاً أن تختم حياة هذه الفنانة بمثل هذا الختام الذي يثير الأسى والشجن. . . لقد كان من الممكن لو لم يقض القدر القاهر بانطفاء الشعلة المتوهجة في الخيال الخلاق، أن يفيض النبع أكثر مما فاض فيظفر عشاق القصة الطويلة بأثر فني آخر يضاف إلى ذلك الأثر الوحيد الفريد، وأعني به (ذهب مع الريح)! مهما يكن من شيء فحسب مارجريت متشل أن يدرج اسمها في سجل كتاب القصة الأفذاذ بهذه التحفة اليتيمة التي كانت في حساب الفن كل رصيدها المدخر، وإنه في ميزان النقد لرصيد عظيم. . . ومهما يكن من شيء أيضاً، فإن طريق الخلود لا يسلكه السالكون بكثرة ما قدموا إلى الناس من نتاج القرائح وعصارة الأذهان، وإنما يسلكونه بقيمة هذا النتاج ومدى تمثيله لصور الحياة وتصويره لحقائق النفوس على اختلاف الميول والأذواق وتفاوت الأجيال والعصور. الكيف لا الكم في ميزان الفن هو وحده أساس الخلود والبقاء؛ وإلا لما استطاع كاتب مثل بنجامان كونستان أن يأخذ مكانه في صفوف الخالدين بقصة واحدة هي أدولف تلك القصة التي قال عنها بول جورجيه: (إن أدولف لتعد مثلاً أعلى للقصة الذاتية، ولقد بقيت من كل تلك القصص التي ظهرت في القرن التاسع عشر وهي أحفلها بالحياة، وأكثرها إنسانية، وأشدها أسراً للشعور، ولا توجد قصة أخرى تهزني كما هزتني هذه القصة). . . كما قال عنها فردينال برنتيير: (إن أدولف قصة إنسانية لا يمكن أن ترقى إلى حقيقتها التحليلية قصة أخرى

ينظر بورجيه إلى الفن من ناحية القيم الإنسانية، وينظر إليه برنتيير من ناحية القيم التحليلية، وبهذين الجناحين معاً يحلق الفن في أرحب الآفاق، فإذا ما نال منه الجهد فهبط ليستريح فإن مكانه هناك. . . في أعالي القمم! أما الإنسانية في (ذهب مع الريح) فهي في تلك الدفقات العاطفية العميقة المنبعثة من قلب امرأة حائرة بين رجلين: رجل جدير بحبها ومع ذلك فهي لا تحبه ورجل غير جدير بهذا الحب ومع ذلك فهي تحبه، وهكذا كان حال (سكارليت) وهي موزعة الفكر والشعور بين (أشلي) و (بتلر)!. . . وأما التحليل فهو في تلك الصفحات الزاخرة بقصف المدافع ودوي القذائف وأنات الضحايا وزفرات الثكالى وعصف الحديد، هناك حيث تقدم مرجريت ميتشل للحرب الأهلية الأمريكية صورتين لا مثيل لهما في متاحف الفن ومتاحف التاريخ!. . .

بعض الرسائل من حقيبة البريد: بين يدي وأنا أكتب هذه الكلمات كثير من رسائل القراء في مصر والأقطار العربية. . . أما الذين يبعثون إليَّ برسائلهم معبرين عن حسن الظن وكريم التقدير فلهم خالص الشكر وعاطر التحية، وأما أصحاب الأسئلة التي يوجهونها إليّ في محيط الأدب والفن فبودي أن أوجه إلى بعضهم رجاء خاصاً، هو أن يراعوا في أسئلتهم مدى الفائدة التي يمكن أن تعود على القارئ وهم في انتظار الجواب؛ وذلك بأن تكون الموضوعات التي تثار جديرة بخلق قضية من القضايا الأدبية بهم القراء وضعها على بساط البحث والمناقشة. وإلى الأعداد المقبلة حيث أتناول بالتعقيب بعض هذه الأسئلة، ولا بأس من تسجيل الشكر في مجال الرد على بعض التحيات. . .

أنور المعداوي