مجلة الرسالة/العدد 847/الأدب والفن في أسبوع

مجلة الرسالة/العدد 847/الأدب والفن في أسبوع

مجلة الرسالة - العدد 847
الأدب والفن في أسبوع
ملاحظات: بتاريخ: 26 - 09 - 1949



للأستاذ عباس خضر

تأبين المجمع اللغوي للمازني:

أقام مجمع فؤاد الأول للغة العربية حفل تأبين للمغفور له الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني يوم الأثنين الماضي بدار الجمعية الجغرافية الملكية. وقد اقتصر الحفل على كلمة الأستاذ عباس محمود العقاد التي رؤى الاكتفاء بها تجنباً للتكرار والإملال، وقد جاءت فعلا وافية بالغرض، فقد ألم فيها بحياة الفقيد إلماماً إجمالياً حلل في ثناياه أدبه وبَعض صفاته الشخصية التي أثرت في هذا الأدب. فأغنت عن كثير من خطب وقصائد مما يلقى في هذه المناسبة.

استهّل الأستاذ العقاد حديثه عن صديقه فقيد الأدب الأستاذ المازني بأنه كان (منذوراً) للأدب بكل ما نفهمه اليوم من معنى هذه الكلمة، وقد كان الأقدمون إذا قيل لهم عن أحد من الناس إنه منذور لهذا المعبد أو لهذا الحرم، فهموا من ذلك أنه قائم في خدمة معبده طول حياته، وأنه لا يملك أن ينحرف عن خدمته باختياره. وقد خيل للمازني أن يعطي مطالب المعيشة حقها، فلم يلبث حتى تبين له أنه للأدب وحده، وأن الأدب يلاحقه أينما ذهب، فلا يتركه حتى يعيده إلى جواره.

وبعد أن تحدث عن المرحلة التي لحق فيها المازني بمدرسة المعلمين العليا وتخرج فيها، قال: لقيت المازني في هذه الفترة، ولقيت الأستاذ عبد الرحمن شكري بعد ذلك، فمن عجيب التوفيق أن يكون شكري في الإسكندرية، وأن يكون المازني في القاهرة، وأن أكون أنا في أسوان، ثم نلتقي على قدر وعلى اتفاق فيما قرأناه وفيما نحب أن نقرأه، مع اختلاف في حواشي الموضوعات من غير اختلاف على جوهرها، وكان المازني أكثرنا ولعاً بالقصة والمقالة الوصفية، وكنا نلتقي في ناحية واحدة من نواحي القصة على الخصوص، وهي القصة الروسية، وأحسب أن القصة الروسية من أقوى المؤثرات في نزعته التي جنح إليها بقوته كلها بعد ذلك فيما نسميه بفلسفة الحياة.

وتحدث العقاد عن نزعة الاستخفاف عند المازني فقال إنها ترجع إلى جملة أسباب بعضها ما كمن في طبعه وأتى بعضها من عراك الحوادث ووحي المطالعة والتفكير. درج صديق رحمه الله على حب الدعابة منذ طفولته، يسري عن النفس، ولا يضير أحداً ممن يمسه بتلك الدعابة. . . كنا يوماً نركب الترام لأول مرة إلى ظاهر المدينة، فلما وقف في إحدى محطاته التفت المازني إلى رجل واقف يغري منظره بالمعاكسة - والحق يقال - فحياه وألح في تحيته والترام يتحرك ويبتعد، والرجل واقف حائر حتى استخار الله على شكه ورد التحية، فما فعلها حتى أومأ إليه صديقنا بلسانه إيماءة ساخرة ولكنها غير جارحة، وجعل يقول: والله إنه لرجل ظريف، والله إنه (لجنتلمان)

أما جانب التجربة في نزعة المازني إلى الاستخفاف، فمنه النفساني الذي خامره من إرساله الشعر خاصة بغير صدى يتلقاه ممن يعنيهم بشعره، ومنه آلام الصدمات والشدائد التي كان يخفف ثقلها بما استكن في طبيعته من نوازع الاستخفاف.

أما الجانب الذي أوحت به المطالعة فأحسبه راجعاً على الأرجح إلى كتابين من القصص الروسي أحدهما قصة (سانين) لمؤلفها (أرتزيباشف) والآخر قصة الآباء والأبناء لثورجنيف، وكلتاهما تخلق الاستخفاف على الأقل حين قراءتها لمن لا عهد له بالاستخفاف. ونحب أن نصف هنا هذا الاستخفاف بأصدق صفاته، لأن المستخف قد يبدي قلة الاكتراث لسببين نقيضين: قد يبديها لقلة إحساسه، وقد يبديها لفرط إحساسه. وقد كان فرط الإحساس هو الينبوع الذي يصدر عنه استخفاف المازني.

ثم قال الأستاذ العقاد: ولقد كانت ملكات المازني أول ما تناوله باستخفافه، وكان الشعر أول ما تناوله من تلك الملكات، ولكن استخفافه بشعره من قبيل استخفافه بكل شيء: فرط إحساس لا قلة إحساس. وإنه لمن الحظ السيئ للشرق العربي أنه لم يأخذ من المازني كل ما كان قادراً على أن يعطيه من صفوة ملكاته، وليست كلها مقصورة على الشعر ونقده، فقد امتاز بملكة أخرى هي ملكة الترجمة المطبوعة، أو ما يصح أن نسميه بعبقرية الترجمة، فقد كان يترجم الكلام في سليقته شعوراً قبل أن يترجمه لفظاً ومعنى. وختم الأستاذ العقاد كلمته الحافلة بتوجيه الخطاب إلى الفقيد الراحل قائلاً: ما أنت ممن يحسن إليه الناس بذكره، وإنما يحسنون إلى أنفسهم كلما ذكروك.

بين الفتى وأستاذه الشيخ:

قال الفتى لأستاذه الشيخ: سمعت أخيراً من الإذاعة المصرية حديثاً لأستاذ من أساتذة الجامعة عن شاعر عباس في سلسلة أعلام الأدب العربي، ولأن الشاعر معروف ومدروس في المناهج المدرسية وغيرها توقعت أن حديث الأستاذ عنه لابد أن يتضمن جديداً في شأنه، ولكنني وجدت الأمر على خلاف ما توقعت، فإن الأستاذ تحدث عن الشاعر حديثاً مكرراً مقتضباً وشغل أكثر الوقت بأمثلة من شعره.

قال الأستاذ الشيخ: إنني يا بني قد بلوت هذه الأحاديث فلم أر فيها غناء، والإذاعة تختار أولئك الأساتذة لمناصبهم، وهم يستندون إلى هذه المناصب فلا يشعرون بالحاجة إلى كد أذهانهم المترفة، لإحداث طريف أو إضافة جديد، وقد لا يأتون بشيء إن كدوا.

قال الفتى: وماذا ترى لعلاج هذا الأمر؟

قال الأستاذ الشيخ: العلاج يا بني يسير جدا، وهو أن يختار الأشخاص لا المناصب، ويجب قبل ذلك أن يُختار من يَختار.

كل بيت له راجل:

هذا هو اسم الفلم الذي عرض لأول مرة في هذا الأسبوع بسينما أوبرا. وتعالج قصة الفلم مشكلة عاطفية عرضت هكذا:

أمينة هانم لا تزال في شبابها تعيش في قصر زوجها المتوفي ومعها ابنتها (فاتن) وهي فتاة في السابعة عشرة من عمرها، وتبدو الأم في المنظر الأول حزينة على زوجها الراحل، فلا تكاد تسمع لحناً معيناً تعزفه ابنتها على البيان حتى تتأثر وتنهاها عنه، لأنه اللحن الذي كان يعجب به زوجها حين تعزفه ابنته. ولكن رجل يدخل المنزل فيغير مجرى الحياة فيه وتتحول إليه مشاعر الأم والبنت، وهو محمود بك رامي الذي ندبته دارالآثار ليفحص مكتبة الزوج المتوفي كي تشتريها الدار أو تشتري بعض محتوياتها. ولم نعرف بناء على أي شيء حضر المندوب لهذه المهمة ويبدو من حديث الأم مع ابنتها عند حضوره أنهما لم تطلبا ذلك من دار الآثار. ولا أدري لماذا لم يكن محمود بك موفداً من دار الكتب بدلا من دار الآثار!

يتبين محمود بك رامي في أثناء فحص المكتبة بحضور أمينة هانم وبمساعدتها، أنها سيدة مثقفة، كما يتأثر بجمالها وشخصيتها، فيثني عليها ويبدي لها إعجابه ويدعوها إلى حضور محاضرة له بمكتبة الأميرة فريال، فتلبي، وتعود إلى ابنتها فاتن التي تسألها عنه باهتمام، ويتحدثان عنه حديثاً يدل على إعجابهما به بل على حب كل منهما له، فقد شاهدته فاتن خلال حضوره إلى المنزل زعلقت نظراتها به. وتتطور علاقة محمود بك بأمينة هانم حتى يتكاشفا بحبهما، وتعده بزواجه بعد زواج فاتن. وتسافر فاتن مع صاحبتها ميمي ووجيه بك أخي ميمي الذي عاد من أمريكا بعد أن درس فن الزراعة وإصلاح الأراضي البور - تسافر معهما إلى القرية التي بها أملاك أبيهما، وفي أثناء ذلك يتودد وجيه بك إلى فاتن ولكنها تقابل تودده بتحفظ يدل على عدم حبها إياه. وتعود فاتن فتشاهد مظاهر الحب بين أمها وبين محمود بك، فتحزن لذلك. وتتولى حوادث تتخللها محاولات من جانب فاتن للظفر بحب محمود بك ولكنه يتخلص منها مع التلطف، ويقبل على أمها كل الإقبال، حتى يحدث أن تراه البنت يقبل أمها، فتتأثر من هذا المشهد غاية التأثر، وتلزم فراشها؛ وعند حضور أمها إليها تبدي لها استنكارها وتثور عليها ثم يقول لها صوت الضمير الذي ينطق مسموعاً: ما هذا يا فاتن؟ إن أمك لا تزال في شبابها ونضارتها ومن حقها أن تتمتع بالحياة، ومحمود بك رجل في سن والدك وهو يلائم أمك، فكيف تحبينه أنت وتحرمينه من أمك؟ وأنت يلائمك شاب صغير ينتظر إشارة منك. . . فتعود إلى عقلها وتستصفح أمها. ثم نرى المشهد الأخير وقد تزوج محمود بك بأمينة هانم وفاتن تقول له: لقد أخطأت في تكييف شعوري نحوك فأنا أحبك حقاً ولكنني أحبك كأبي ويظهر الجميع في منظر يقدم فيه وجيه بك إلى فاتن على أنه عريسها وفجأة ينشأ الحب بينهما ويلتقيان في ضمة وقبلة.

القصة سليمة في أَولها وتسلسل حوادثها، وقد عرضت عرضاً طبيعياً جميلا، وحددت سمات أبطالها وأشخاصها تحديداً دقيقاً، وصورت المشكلة فيها تصويراً واضحاً. ولكن ما كادت الوقائع تتقدم نحو الحل حتى ظهرت اللهوجة فهدمت البناء، وقصم الحل ظهر القصة.

كيف يمكن القضاء على عاطفة أو تحويلها، وإنشاء عاطفة أخرى مكانها، في لحظة واحدة دون تمهيد طويل أو قصير؟ هل يكفي صوت ينطق بتلك الجمل لكي تغمض الفتاة عينيها وتفتحها فترى الحبيب أباً والفتى الجامد محبوباً؟ لقد كان يمكن أن يكون وجيه بك شابا جذابا مغريا بالحب على أن يؤخر اتصاله بفاتن في الوقت الذي يمهد فيه لتحولها عن حب محمود بك. ولكن الفلم يعرض هذا الشاب في صورة جامدة كئيبة ثم يفرضه في النهاية محبوباً لفتاة رائعة تحب أو كانت تحب غيره!

وكان لوحيد بك مشروع لإصلاح الأراضي البور في القرية، لم يأخذ حقه في الإبراز، فقد قالوا لنا في الآخر إنه نفذ ونجح ولم نر علامة لذلك غير بضعة أشجار يغني بينهما عبد العزيز محمود. والحق أنه أجاد في غنائه وموسيقاه. وفي الفلم ظاهرة تتكرر في معظم الأفلام المصرية وهي إظهار الفلاحين أذلاء خاضعين لسلطان السيد صاحب الضيعة، وهي ظاهرة موجودة في بعض الجهات ولكن تكررها في الأفلام يدل على أن ذلك هو طابع الحياة في القرى المصرية، وليس الأمر كذلك إلا في القليل.

وقد أخرج الفلم محمود كامل مرسي ووضع قصته مجدي فريد، وهو فلم نظيف، ومناظره متسقة، وحواره جيد، والقصة لا بأس بها بصرف النظر عن تلك المآخذ، والتمثيل ممتاز، فقد أجادت أمينة رزق (أمينة هانم) في دور المرأة المحترمة المحبة، وكذلك فاتن حمامة (الآنسة فاتن) وخاصة في أثناء مصاحبتها لوجيه بك فقد مثلت دور الفتاة (الاسبور) المترفعة المتحفظة أحسن تمثيل، وكانت ظريفة عندما كانت تناقش نفسها في خلوتها: أيهما، هي أو أمها، أحق بحب محمود بك. ومثل محمود المليجي دور (محمود بك رامي) وهو شخصية محبوبة في الرواية، وكان المشاهدون يتوقعون أن يكون شريراً لكثرة ما شاهدوا المليجي في تمثيل الأشرار. ولكنه استطاع رغم ذلك - ان يقنع الجمهور بأنه رجل طيب. . .

أما الوجه الجديد وجيه عزت الذي قام بدور (وجيه بك) فوضعه في الفلم اقتضاه أن يظهر في جد (زيادة على اللزوم) وهو يجيد في مثل هذا الدور، على ألا ينتهي بحب فتاة مثل فاتن حمامة.

عباس خضر