مجلة الرسالة/العدد 847/تعقيبات

مجلة الرسالة/العدد 847/تعقيبات

ملاحظات: بتاريخ: 26 - 09 - 1949



للأستاذ أنور المعداوي

مشكلة الأداء النفسي في الشعر العربي:

مشكلة الأداء النفسي في الشعر مشكلة تهم الشعراء المحدثين، وتهم النقاد المحدثين، وتهم القراء المحدثين. تهمهم جميعاً لأن نظرة الشاعر إلى النفس والحياة قد تفاوتت بين الأمس واليوم، وكذلك نظرة الناقد ونظرة القارئ. . . ويلاحظ هنا أنني أقصر الحديث على الشعر العربي وحده دون سواه.

إن رأيي في الشعر العربي القديم هو رأيي في مشكلة الأداء اللفظي في هذا الشعر، وهي مشكلة شغلت الشعراء القدامى فأفرغوا فيها كل طاقاتهم الشعرية لا الشعورية، وشغلت النقاد القدامى فأقاموا موازينهم للألفاظ من حيث الدلالة المادية لا النفسية، وشغلت القراء القدامى لأن فهمهم للشعر قد استمد أسباب وجوده مما بين أيديهم من نتاج شعري يسير في ركابه النقد الموجه لهذا النتاج. . . إذا قلت لك إن الشعر العربي القديم كان في جملته شعر (السطوح الخارجية) للنفس والحياة، فلا تحمل هذا القول على التعصب للحديث والوقوف إلى جانبه. إن أمامك هذا الشعر، فراجع فيه نفسك، واستشر في حقيقته ذوقك وحسك، إنه شعر يشعرك بفراغ (الوجود الداخلي) عند قائليه، لأنهم كانوا يعيشون خارج (الحدود النفسية) في الكثير الغالب من الأحيان، فإذا عادوا إلى تلك الحدود فتغلبوا على مشكلة (الصدق الشعوري) قامت في وجوههم مشكلة أخرى هي مشكلة (الصدق الفني). . . وهنا مفرق الطريق بين المشكلتين الرئيسيتين: مشكلة (الأداء النفسي) ومشكلة (الأداء اللفظي)، في معرض الموازنة بين الشعر العربي الحديث والشعر العربي القديم!

وأحب هنا أن أوضح الفوارق بين هذه القضايا الفنية في حدود التعبيرات الاصلاحية والنقدية. . . فما هو الصدق الشعوري أولا، وما هو الصدق الفني ثانياً، حتى نستطيع أن نصل إلى الهدف الأخير حول مشكلتي الأداء في الشعر؟

الصدق الشعوري هو ذلك التجاوب بين الوجود الخارجي المثير للانفعال، وبين الوجود الداخلي الذي ينصهر فيه هذا الانفعال. أو هو تلك الشرارة العاطفية التي تندلع من التقاء تيارين: أحدهما نفسي متدفق من أعماق النفس، والآخر حسي منطلق من آفاق الحياة. أو هو ذلك التوافق بين التجربة الشعورية وبين مصدر الإثارة العقلية في مجال الرصد الأمين للحركة الجائشة في ثنايا الفكر والوجدان. . . هذا هو الصدق الشعوري وميدانه الإحساس، أما الصدق الفني فميدانه التعبير؛ التعبير عن واقع هذا الإحساس تعبيراً خاصاً يبرزه في صورته التي تهز منافذ النفس قبل أن تهز منافذ السمع، وهذه هي التجربة الكبرى التي تختلف حولها القيم الفنية للشعر في معرض التفرقة بين أداء وأداء!

هناك شاعر يملك الصدق في الشعور ولا يملك الصدق في الفن، لأنه لم يؤت القدرة على أن يلبس مشاعره ذلك الثوب الملائم من التعبير، أو يسكن أحاسيسه ذلك البناء المناسب من الألفاظ، ولا مناص عندئذ من الإخفاق في إظهار الطاقتين معاً: الشعرية والشعورية. . . وهنا يأتي دور الأداء النفسي في الشعر، وهو الأداء الذي يعتمد على اللفظ والجو الموسيقي: اللفظ ذو الدلالة النفسية لا المادية، اللفظ ذو الظلال الموحية لا الظلال الجامدة، اللفظ الذي يتخطى مرحلة إشعاع المعنى الجزئي الواحد إلى مرحلة إشعاع المعاني الكلية المتداخلة!

هذا هو مكان اللفظ من الأداء، أما الجو فنقصد به ذلك الأفق الشعري الذي ينقلك بصدقه إلى مكان الفن وزمانه، ويحقق لك تلك المشاركة الوجدانية بينك وبين الشاعر، ويحدث لك نفس الهزات الداخلية التي تلقاها وهو في حالة فناء شعوري كامل مع (الوجود الخارجي).

ويبقى بعد ذلك عنصر التنغيم في مشكلة الأداء، وهو عنصر له خطره البعيد وأثره الملحوظ في تلوين الانفعالات الذاتية في التعبير. وهنا يبدو الارتباط كاملا بين العناصر الثلاثة، لأن (الحقل الشعري) ممثلا في عنصري الألفاظ والأجواء لا غنى له بحال عن عنصر (الموسيقى التصويرية) التي تصاحب (المشهد التعبيري) في كل نقلة من نقلات الشعور، وكل وثبة من وثبات الخيال!

ويظهر أثر الربط بين هذه القيم في مشكلة الأداء النفسي حين نلتمس ذلك التناسق بين فنون الشعر المختلفة. . . إن لكل فن من هذه الفنون طابعه الخاص المتميز في مجال التصوير الفني عن طريق اللفظ والجو الموسيقي؛ فمن أسباب الإخلال بالأداء النفسي أن تتخير اللفظ الهامس، والجو الهادئ، والموسيقى الحالمة مثلا في شعر الملاحم، وأن نعكس القضية من وضع إلى وضع فتتخير اللفظ الهادر، والجو الصاخب، والموسيقى العاصفة مثلا في شعر الغزل والرثاء!

نترك هذا التحديد لكل تلك القضايا الفنية لنقول إن أصحاب الشعر العربي القديم لم يفطنوا إلى قيم الأداء النفسي في الشعر إلا في القليل النادر الذي لا يحسب له حساب. . . وإذا كانت هناك ومضات من هذا الأداء تطالعك في هذا الشعر، فهي ومضات متفرقة يصعب أن تجمع بينها لتخرج من هذا الجمع برصيد يمكن أن ينسب إلى شاعر واحد، لتخلق من شخصيته الشعرية قمة من قمم الأداء النفسي! مصدر الداء أنهم نظروا إلى مظهر اللفظ أكثر مما نظروا إلى مخبره، وأنهم شغلوا عن (الذاتية النفسية) بتلك (الذاتية البيانية)، وأنهم عبروا عن الشعور المصنوع أكثر مما عبروا عن الشعور المطبوع!

على هذا الأساس سار الشعر القديم يبارك خطواته النقد القديم؛ ذلك لأن الأجيال قد دأبت على أن تخلق أبناءها في ميدان الفن من طينة واحدة، وأن تصوغ ملكاتهم من معدن واحد: يقف الشاعر عند (الهياكل العظمية) للألفاظ ويقف معه الناقد، وغاية الفن عند هذا وذاك أن يطلب الأول إلى صاحبيه أن يقفا لحظات ليبكيا معه، وأن يشير الثاني إلى أنه بلغ القمة لأنه وقف واستوقف وبكى واستبكى، أو لأنه مثلا قد وقف إلى تشبيه شيئين بشيئين في بيت واحد!

لا أريد أن أذهب في القول إلى أكثر مما ذهبت في هذا المجال، لأن مشكلة الأداء اللفظي لا تحتاج إلى أن نستخلص لها الشواهد من الشعر العربي القديم، ولأن تلك الشواهد قد مر بها القراء والأدباء في مطالعتهم لذلك الشعر، وهي بعد ذلك أوضح في حساب الكثرة من أن يشار إليها أو تجمع في حساب التسجيل والإحصاء!

حسبنا أن نقول إن الشعراء المحدثين قد خطوا بفهمهم لأصول الفن الشعري خطوات جديدة، ووثبوا بالأداء النفسي وثبات أقل ما يقال فيها إنها ردت للألفاظ قيمها التعبيرية حين ردتها إلى محاريبها النفسية فغدت وهي صلوات شعور ووجدان ويستطيع النقد الحديث أن يقول إنه قد وجد ضالته في هذا الشعر الذي وجد نفسه. . . وإذا قلنا الشعر العربي الحديث، فإنما نعني ذلك الشعر الذي بدأت مرحلته الأولى بتلك المدرسة من بعض شعراء الشيوخ وعلى رأسهم (شوقي)، وبدأت مرحلته الثانية بتلك المدرسة الأخرى من بعض شعراء الشباب وعلى رأسهم (إليا أبو ماضي)، وفي شعر هذين الشاعرين تبدو ومضات الأداء النفسي أكثر لمعاناً منها في شعر الآخرين!. . .

ولقد قدمت إلى القراء نقداً تحليلياً لمشكلة الأداء النفسي في الشعر، ويبقى أن أقدم إليهم نموذجاً كاملاً لهذا الأداء، حتى تتكشف لهم جوانب ذلك النقد على ضوء هذا المثال، وهو قصيدة للشاعر إليا أبو ماضي، وقعت عليها دون أن أعمد إلى شيء من الاختيار. . . عنوان القصيدة (وطني)، وبناؤها هذه الأبيات:

وطن النجوم. . . أنا هنا حدِّق. . . أتذكر من أنا؟

ألمحت في الماضي البعيد فتى غريراً أرعنا

جذلان يمرح في حقولك كالنسيم مدندنا

المقتنى المملوك ملعبه وغير المقتنى

يتسلق الأشجار لا ضجراً يحس ولا ونى

ويعود بالأغصان يبريها سيوفاً أو قنا

ويخوض في وحل الشتاء مهللا متيمنا

لا يتقي شر العيون ولا يخاف الألسنا

ولكم تشيطن كي يدور القول عنه: تشيطنا!

أنا ذلك الولد الذي دنياه كانت هاهنا

أنا في مياهك قطرة فاضت جداول من منى

أنا من ترابك ذرة ماجت مواكب من منى

أنا من طيورك بلبل غنى بمجدك فاغتنى

حمل الطلاقة والبشاشة من ربوعك للدنى

كم عانقت روحي رباك وصفقت في المنحنى

للبحر ينشره بنوك حضارة وتمدنا

لليل فيك مصلياً. . . للصبح فيك مؤذنا

للشمس تبطئ في وداع ذراك كيلا تحزنا

للبدر في نيسان يكحل بالضياء الأعينا

فيذوب في حدق المهى سحراً لطيفاً لينا للحقل يرتجل الروائع زنبقاً أو سوسنا

للعشب أثقله الندى. . . للغصن أثقله الجنى

عاش الجمال مشرداً في الأرض ينشد مسكنا

حتى انكشفت له فألقى رحله وتوطنا

واستعرض الفن الجبال فكنت أنت الأحسنا

هذا هو الأداء النفسي الذي أبحث عنه وأدعو إليه، الأداء النفسي الذي يستمد صورته التعبيرية من الصدق الفني والصدق الشعوري، ويعتمد على العناصر الثلاثة التي حدثتك عن قيمها الفنية، وهي اللفظ والجو الموسيقي: اللفظ الخاص، والجو الخاص، والموسيقى الخاصة. . . وتعال نستعرض مواكب الألفاظ أولا في شعر أبي ماضي:

قف عند البيت الأول لتتفيأ الظلال النفيسة في كلمة (حدِّق). وقف مرّة أخرى عند البيت الثاني لتنفذ إلى أعماق الواقعية في كلمة (أرعن). وقف مرة ثالثة عند البيت الثالث لتتذوق المعاني الحسية في كلمة (مدندن). وطبق هذه اللمحات واللفتات على الأبيات التالية حين تقف عند كلمة (يتسلق) و (يخوض) و (تشيطن) من ناحية الحركة المتدفقة في ثنايا التعبير. وعندما تبلغ البيت العاشر قف طويلا لتطرق الأبواب الشعورية الضخمة في كلمة (ولد). . . لو قال أبو ماضي مثلا (أنا ذلك الطفل) بدلا من (أنا ذلك الولد) لغدت اللفظة عادية لا تثير في النفس شيئاً من المشاعر والأحاسيس. ولو قال مثلا (أنظر) بدلا من (حدق) لبدت اللفظة مغرقة في المادية فلا إشعاع ولا إيحاء!

إن الألفاظ هنا قد اختيرت لتوضع في مواطنها الأصيلة لتؤدي دورها الأصيل في إرسال الموجات الصوتية المعبرة عن واقع الهزات المنبعثة من الوجود الداخلي. . . وانظر إلى كلمتي (فاضت) و (ماجت) في البيتين الحادي عشر والثاني عشر، وإلى كلمتي (عانقت) و (صفقت) في البيت الخامس عشر لترى مبلغ الإثارة الوجدانية في الصورة الوصفية. وقل مثل ذلك عن البيت الثامن عشر والتاسع عشر والعشرين عندما تضع في بوتقة الشعور كلمة (تبطئ) و (يكحل) و (يذوب). . . وأقم الميزان كل الميزان لهذا الحقل الذي (يرتجل) الروائع من الزنبق والسوسن، ولهذا الجمال الذي (شرد) في شعاب الأرض يلتمس المأوى حتى إذا ظفر به (ألقى رحله) واستراح. ولا تنس ذلك الفن الذي (استعرض) الجبال ليختار أحسن الأوطان!

وتعال بعد ذلك أحدثك عن عنصري (الجو والموسيقى) في هذا الأداء؛ الجو الذي قلت لك عنه إنه الأفق الشعوري الذي ينقلنا إلى مكان الفن وزمانه، ويحقق لنا المشاركة الوجدانية بيننا وبين الشاعر، ويحدث لنا نفس الهزات الداخلية التي يتلقاها وهو في حالة فناء شعوري كامل مع الوجود الخارجي. . . إن الشاعر هنا يصور ملاعب الطفولة البريئة في رحاب الوطن الأول، وهو بعد ذلك يستعيد ذكرى عهود، عهود مرت بنا ونسيناها، فإذا هي تعود إلينا من وراء الوعي حية نابضة، وما هذا النبض وتلك الحياة إلا من أثر القدرة على البعث والإثارة!

إنك لتحس من هذا (الجو) الذي ترسمه ريشة الشاعر على لوحة الشعور أنك قد نقلت نقلا على جناح الخيال إلى هناك، إلى ذلك الأفق البعيد الموغل في طوايا الزمن. . . وإذا أنت في كل بيت من أبيات أبي ماضي تكاد تلمح طفلا يتوثب مرحاً ونشاطاً وحيوية، طفلا يخيل إليك أن كل نقلة من نقلات الإيقاع الموسيقي هي وقع الخطى من قدميه الصغيرتين!

ولعلك تلحظ أن الإيقاع هنا هو إيقاع الموسيقى الحالمة، ذلك لأن الجو الشعري هو جو الأحلام الخالصة، جو الذكريات التي يهمس بها الماضي الحبيب في مسارب النفس الخفية، فيرتد الصدى العميق من تلك الأغوار إلى ثنايا الكلمات، ممثلا في تلك الوقدات الملتهبة من جيشان العاطفة. . .

وهذا هو دور الموسيقى التصويرية التي قلت لك عنها إنها تصاحب المشهد التعبيري في الأداء النفسي، وتعمل على تلوين الانفعالات المختلفة تلويناً خاصاً يتناسب وطبيعة الألفاظ في مجال القيم الفنية والنفسية.

أنور المعداوي