مجلة الرسالة/العدد 85/حكايتي مع بوبي

مجلة الرسالة/العدد 85/حكايتي مع بوبي

ملاحظات: بتاريخ: 18 - 02 - 1935



للأستاذ ابراهيم عبد القادر المازني

وقعت عيني عليها، فلم أعد أرى سواها. وكنتُ أركب (الامنيبوس) ففتحت الباب وإذا بها أمامي! وفي حجرها كلب أبيض صغير غزير الشعر، وإلى جانبها صاحب لي - جالس كالدمية! فغضضتُ الطرف - أعني أني حولتُ عيني عنها إلى التمثال، وكانت نظرتي واشية بالاعجاب والسرور، فانقلبت نظرة حسد وغيظ - ومقت أيضاً! ولكني كتمتُ ذلك، وأمسكت على ما بنفسي منه، ولم أسمح له أن يطل من عيني، لظني كان تمثالاً مبنياً أو منحوتاً من الحجر، لا إنساناً حياً من لحم ودم، فمضت عنه إلى آخر معقد، وقد زاد حقدي عليه وحسدي له. وجعلت أقول لنفسي - وأنا قاعد، وبيتي وبينهما صفان - إنها لا يمكن أن تكون زوجاً أو قرية، فما خلق مثلها ليشقى بزواج مثله أو يُبتلى بقرابته، وأنه لاحق له في زحامها على مقعدها، وأن من سوء الأدب ألا يفسح لها

ورثيتُ لها، وأشفقتُ عليها من برد هذا التمثال الجامد الذي لا ينبض فيه عرقٌ ولا يطرف له جفن، وهممتُ مرات أن أدعوه إلي، ولكني رددت نفسي عن ذلك، مخافة أن تكون معه، فان النساء - كل شيء - حظوظ وأرزاق، وقد سمعتُ وحفظتُ من أمثال عامتنا أن الله يشاء أحياناً أن يعطي الحلق لمن ليس له اذنٌ!

وبلغتُ (محطتي) فنزلت، ومنحتُ السيارة ظهري، فقد شق علي أن أراها تمضي بهذه الفتاة. فلما آذنني صوتها - أعني صوت السيارة - أنها بعدت عني، درت، فاذا بالفتاة إلى جانبي وأطراف أصابعها على فمها، وفي وجهها كل آيات الحيرة والاضطراب، ولم أر الكلب، فتلفتُ فبصرت به يعدو ويسابق ظله الصغير، ولم أبصر صاحبي في مكان قريب أو بعيد، فلم يبق محل للتردد، فخلعتُ معطفي ورميته بلا تفكير، وذهبت أعدو وراء الكلب، فأدركته بلا عناء، فقد كان صغيراً وخطوه متقارباً، ورفعته عن الأرض ووقفت أمسح له شعره الناعم - لأستريح!

وسمعت صوتاً رخيما يقول لي: (أشكرك! إن هذا منك غاية المروءة)

فدرت وقلت بسرعة: (العفو - استغفر الله!)

قالت الفتاة: (منتهى اللطف ولاشك!) فلم أدر ماذا أقول، وكنت أنا أحمل الكلب، وهي تحمل معطفي - كما تبينتُ فيما بعد - ولكني لم أكن أرى أو أدرك شيئاً، سوى أن لساني قد انعقد، وأني فقدت القدرة على الكلام وعادت الفتاة تقول: (صحيح، أنا متشكرة جداً)

فكان كل ما فتح الله به علي: (إني أحب الكلاب)

ولم أكن صادقاً في ذلك، فما أحب الكلاب ولا أطيقها، وما رأيت قط كلباً - ولو كان ميتاً - إلا ذهبت أفكر بسرعة في أقرب مستشفى للكلب!

وسمعتها تقول: (لا شك أنك تحبها! وإلا لما جريت وراءه هكذا!)

فقلت: (نعم، إني أحب. . . . أحبها. . . هل تحبينها؟)

قالت: (نعم، حباً جماً)

قالت: (بعض الناس لا يحبونها)

قلت: (صحيح - أنا. . . مثلاً. . . أحبها. . . أحبها كثيراً)

ثم كأنما انحلت عقدة لساني، ونزلت عليه الفصاحة والبيان فقلت من غير أن أتلعثم أو أتأتيء أو أفأفيء:

(أحب الكلاب بأنواعها - القَلَطي والسلوقي والمالطي والأرمنتي والبول دوج والثعلبي، وأحب هريرها ونباحها وهوهوتها، وأحب لعبها وعبثها وعضها)

وخانني بياني فأمسكت. فقالت:

(يظهر أنك تحب الكلاب!)

فقلت: (نعم، أحب الكلاب. . . جداً)

قالت: (إن لها مزاياها)

قلت: (صحيح - إن للكلاب مزاياها -) وفتح الله علي فأضفت (وكذلك للقطط مزاياها)

فقالت: (صحيح - القطط أيضاً لها مزاياها)

قلت: (لاشك - ولكن القطط تختلف عن الكلاب)

قالت: (نعم تختلف - لقد لاحظتُ ذلك)

وكان ينبغي أن أجيب بشيء، فقد اتسع الموضوع ولم يعد مقصوراً على الكلاب، ولكنه لم يخطر لي كلام أقوله، فعضضت لساني من الغيظ، وسكت، وسكتت هي أيضاً، ووقفتُ أمسح لكلب شعره، وبودي لو أخنقه، فقد كبر في ظني أنه هو الذي جر على هذه الحبسة التي أصابت لساني، ثم رفعت عيني إلى الفتاة فرأيتها تنقل معطفي من ذراع إلى ذراع، فأسرعت أقول:

(معذرة - لقد كنت ذاهلاً)

وتناولت المعطف، فحملت عني كلبها وهي تقول:

(هو الذي أذهلك - إنك تحبه، أليس كذلك؟)

فقلت: وأنا أتشهد - في سري - (أحبه؟ آه! نعم، أحبها - أعني الكلاب!)

قالت: (إنك. . . .؟؟)

قلت: (إني؟)

قالت: (نعم! إنك. . . اعني. . . إني لست أعرف لمن أنا مدينة بهذا الجميل؟)

قلت: (آه! صحيح! أعني. . . . كلا. . . لا فضل ولا جميل. . . لا لا لا. . . لاشيء!. . وسخطتً على نفسي جداً، فقد كان واضحاً أنها تسألني عن اسمي وما إلى ذلك. فجاء جوابي كأني لا أرتاح إلى تعريفها شيئاً منه، وأحر بهذا أن يصدمها ويفتر ما بيننا)

ثم قالت: (ألا تتفضل معي قليلاً؟)

وأشارت إلى بيت، فقلت:

(هذا مسكنك؟)

قالت: (نعم. تفضل، فان أمي يسره أن تشكر لك صنيعك، وأظنها تحب بوبي أكثر مما تحبني)

وضحكت، فقلت: (في وقت آخر. . . لا موجب للشكر. . . ما فعلت إلا ما يفعله أي إنسان)

وصافحتها وانصرفت مسرعاً، وبودي أن أجرد من نفسي شخصاً أظل ألعنه وألكمه حتى أشفى غيظي، فما أذكر أني كنت قط أسخف مني في ذلك اليوم، وإني لثرثار، وإني لثرثار في العادة، ولست أتهيب المرأة أو أجهل طبيعتها، فمن أين جاءني هذا البكم؟ وماذا عسى أن تقول عني هذه الفتاة؟ وكيف لم يخطر لي كلام إلا (إني أحب الكلاب؟؟)

وآليت - من فرط سخطي على نفسي وخجلي من عي وفهاهتي - أن أجنب السير في هذا الطريق، وحرصت على ذلك أشد الحرص، ومضت أيام لا أذكر عددها، ونسيت الحكاية، وصرفتني عن الحياة مطالب الدنيا ومشاغل الحياة، ثم اتفق لي أن ركبت (الامنيبوس) مرة أخرى في هذا الطريق عينه، مع صديق لي، وكان قد دعاني إلى العشاء، فلما بلغت المكان هجمت علي الذكرى، فانتفضت قائماً، وقلت لصديقي:

(سألحق بك، فامض أنت)

قال: (الى أين؟)

قال: (زيارة وجيزة)

قال: (من؟)

قلت: (زيارة. . .! ما سؤالك هذا؟)

قال: (أفي الأمر سر؟)

قلت: (لا يا سيدي. لا سر ولا شبهه، سأزور كلباً)

قال: (كلب؟)

قلت: (نعم، كلب! وأي غرابة في ذلك؟)

قال: (ولكنك تكره الكلاب!؟)

قلت: (أكرهها؟ من قال إني أكرهها؟ إنما أكره ما يستحق الكراهة من كل شيء)

فصاح بي وأنا أنزل: (ولكنك لا تعرف البيت)

فقلت: (بل أعرفه. . . لا تخف علي!)

فصاح بي - من النافذة: (بل لا تعرفه. . . أنا واثق، فأصعد)

فقلت بحماقة. (يا أخي أعرفه. . . هي دلتني عليه!

فقال: (هي؟)

فعضضت لساني من الغيظ، ومضيت عنه!

ودققت الجرس، فخرجت لي خادمة وقالت: (نعم!)

فحرت ماذا أقول؟ وذكرت أني لا أعرف اسم الفتاة، ولا أسم أمها، ووقفت متردداً ثم قلت:

(اسمعي يا شاطرة! إن عندكم كلباً صغيراً جميلاً، أبيض الشعر، أليس كذلك؟)

فقالت بدهشة: (كلب؟ تسأل عن كلب؟) قلت: (نعم. . . أسمه. . . اسمه. . . آه! تذكرت. . . اسمه بوبي. . . نعم بوبي)

قالت: (آه. . . بوبي. . . . ماله؟)

قلت: (أ. . . إ. . . كيف صحته؟ إن شاء الله يكون بخير؟)

فدارت اللعينة، وقات تخاطب من لا أرى:

(إنه رجل غريب يسأل عن صحة بوبي!)

فبرزت لي سيدة ضخمة - ضخمة جداً - أضخم شيء رأيته في حياتي، حتى لقد احتجت أن أدور بعيني في أنحاء جسمها المتباعدة، لأحيط بها علماً، وأقبلت على تسد الفضاء في وجهي وقالت:

(من هذا؟)

قالت الخادمة: (لا أعلم. . لم أره من قبل)

فسألت خادمتها، كأنها لا تراني - وهل أنا إلا ذرة أو هباءة؟ -: (ماذا يريد)

قالت الخادمة: (يريد أن يعرف كسف صحة بوبي؟)

فقالت: (ما شأنه به! هل يعرفه؟)

فتدخلت في الحوار وقلت: (نعم يا سيدتي، لقد تشرفت بمعرفته يوم فر من سيدته وكاد يضيع أو يختفي)

فقالت: (آه!) ولم تزد

قلت: (نعم، وقد خطر لي أن أسأل عنه كيف حاله؟)

قالت: (بخير. . أشكرك بالنيابة عنه)

قلت: (ألا يمكن أن أراه؟ وأطمئن عليه)

قالت: (لا. . . لا يمكن)

قلت: 0أهو لا قدر الله. . . . .؟)

قالت: (خرج. . .)

قلت: (خرج؟ يا سيدتي كيف تتركينه يخرج وحده؟)

قالت: (لا. . خرج مع إيلين. . . لا خوف عليه. . متشكرة. .)

فلم أدر (إيلين) هذه من تكون؟ الفتاة أم خادمة أخرى، ولكني قلت أجازف وأمري إلى الله، وسألتها:

(وكيف حالها؟ بخير إن شاء الله!)

قالت: (حالها؟ من؟)

قلت: (المدموازيل إيلين؟)

قالت: (المدموازيل. . .؟)

قلت: (آه. . . بنتك. . . أليست بنتك؟)

فقالت: (بنتي؟ عن أي شيء تتكلم؟)

فتشجعت وسألت: (أليس هذا بيت المدموازيل إيلين؟ معذرة إذا كنت مخطئاً!)

قالت: (بيت المدموزيل ايلين؟ ماذا جرى لعقلك؟ من أنت؟ أنها خادمة هنا!)

فأحسست أنه لم تبق لي قدرة على المضي في هذا الحوار، فاعتذرت لها مرة اخرى، وفررت

وصرت في الطريق، فأخرجت المنديل، وأقبلت على وجهي أمسح العرق المتصبب عنه في الشتاء، وإذا بالفتاة تقول بأرخم من صوتها الأول:

(سعيدة. . . هذا بوبي)

ومدت لي يديها به، فلم أتناوله، وتركته على كفيها وسألتها:

(هل أنت إيلين؟ قولي بسرعة!)

فقالت وهي متعجبة: (إيلين؟ كلا. . . إني. . . .)

فقاطعتها: (لا تقولي شيئاً. . . . هذا حسبي. . يكفي. . . . انك لست إيلين.)

قالت: (ولكني لا أفهم. . . .)

قلت: (ستفهمين كل شيء. . . بعد أن أتنفس وأشكر الله)

ثم قصصت عليها الحكاية، فضحكت، ولما سكنت الضجة، واستطاعت أن تتكلم أخبرني أني غلطت، وأن هذا مسكن جيران، وأن كلبهم كان قد ضاع، فرده عليهم بعضهم، وأن هذه السيدة الضخمة لابد أن تكون قد استرابت بي، وشكت في أمري، لأنها تعرف الذي أعاد الكلب، ففهمتُ السبب فيما بدا مها من الجفوة، ولماذا تركتني واقفاً على عتبة الباب وأبت أن تدعوني إلى الدخول فقلت: (إذن ناوليني بوبي. . . . .)

وحملته عنها وصدعت معها إلى أمها. . .

وضحكنا كثيراً في ذلك المساء، ولا أحتاج أن أقول إني نسيت صديقي وعشاءه. . .

ابراهيم عبد القادر المازني