مجلة الرسالة/العدد 85/النزاع بين إيران والعراق

مجلة الرسالة/العدد 85/النزاع بين إيران والعراق

مجلة الرسالة - العدد 85
النزاع بين إيران والعراق
ملاحظات: بتاريخ: 18 - 02 - 1935



للأستاذ محمد عبد الله عنان

كان مما عرض على عصبة الأمم في دورتها الأخيرة الخلاف بين إيران والعراق على مسألة الحدود؛ ولكن مجلس العصبة لم يشأ كعادته أن يبادر إلى درس خلاف يخشى أن يحول تعقيده وخطورة العوامل والاتجاهات المتصلة به إلى فشل العصبة في بحثه باستقلال ونزاهة؛ ولهذا آثر بعد بحث المسائل الشكلية أن يرجئه إلى دورة أخرى عسى أن يوفق الفريقان المتنازعان إلى تسويته بمفاوضات مباشرة، فينجو المجلس بذلك من الحرج والتعرض إلى فشل يزيد في ضعف العصبة وانحلال هيبتها

ومما يبعث إلى أشد السف أن ينشب مثل هذا الخلاف بين دولتين شرقيتين كإيران والعراق تربطهما صلات تاريخية قديمة ترجع إلى عصور وآماد بعيدة، وتجمع بينهم مصالح مشتركة اقتصادية وسياسية وعسكرية، ويضاعف هذا الأسف ألا تستطيع الدولتان الشقيقتان حسم هذا الخلاف بالتفاهم المباشر، وأن تضطرا إلى عرضه على هيئة دولية دلت سوابقها وأعمالها في بحث المسائل الشرقية على أنها لا تملك بحثها دائماً بحرية ونزاهة، وأنها تتأثر غالباً بالنفوذ الأقوى. وفي هذا الخلاف، على رغم قيامه بين دولتين شرقيتين، ما يهم بعض الدول الغربية ذات لمصالح والنفوذ

والخلاف الايراني العراقي قديم يتناول علائق الدولتين منذ ظهور العراق في الوجود كوحدة سياسية خاصة، أعني منذ خاتمة الحرب الكبرى؛ وقد كان من نتائجه أن لبثت إيران مدة أعوام طويلة تصر على عدم الاعتراف بالعراق الجديدة، ولم تعترف بها إلا في سنة 1929 نزولاً على سعي لسياسة البريطانية. وإذا قلنا باضطراب العلائق بين إيران والعراق في تلك الفترة، فمعناه اضطراب العلائق بين إيران وبريطانيا العظمى التي كانت يومئذ تسيطر على أقدار العراق وتتولى توجيه علائقه الخارجية، وقد كان يرجع أحياناً إلى أسباب خارجة عن العراق ذاته، كالخلاف بين إيران وانكلترا على مسألة البحرين، وأحياناً إلى أسباب تتعلق بالعراق مباشرة كالخلاف على الحدود، واقتحامها بين حين وآخر من بعض رعايا هذا الفريق أو ذاك، أو على بعض المسائل التجارية وغيرها. ولما حصل العراق على استقلاله بعقد المعاهدة العراقية الانكليزية في صيف سنة 1930 سعي إلى التفاهم مع جارته، وانتهت جهود الفريقين في ذلك السبيل إلى شيء من النجاح، وقام المغفور له الملك فيصل بزيادة رسمية إلى طهران، وكان من نتائجها أن زاد التقرب بين الدولتين وسويت بينهما مسائل كثيرة، ولكن الخلاف على الحدود بقي على حاله، والظاهر أن إيران كانت تنظر لاثارته فرصة ملائمة

ويقع الخلاف الحاضر بين الدولتين على الحدود الايرانية العراقية مما يلي شط العرب في الجهة الجنوبية الغربية بالنسبة لأيران، والجنوبية الشرقية بالنسبة للعراق. ومعروف أن شط العرب هو الاسم الذي يطلق على المجرى المشترك الذي يندمج فيه دجلة والفرات قبل صبهما في الخليج الفارسي بنحو مائة ميل، وعليه تقع مدينة البصرة. وتبدأ الحدود الايرانية العراقية من الخليج الفارسي شرق شط العرب (بالنسبة لإيران) متجهة نحو الشمال بحذاء شط العرب وعلى قيد بضعة أميال منه، ولا تتسع هذه الشقة الضيقة بين شط العرب والحدود الايرانية إلا عندما تحاذي البصرة تقريباً، وتستمر الحدود شمالاً محاذية لنهر دجلة وتتسع تدريجياً حتى يصير بينها وبين بغداد نحو سبعين ميلاً. وموضع الخلاف الحالي من الحدود هو الجزء الذي يحاذي شط العرب شرقاً ويفصل بين إيران وشط العرب، فان حكومة إيران تطالب به وتقول إن الحدود الطبيعية لايران يجب أن تكون هي شط العرب، ويجب أن تضع إيران يدها على الضفة الأخرى من النهر لتستطيع أن تعمل على تأمين حقوقها في حرية الملاحة فيه، ولكن العراق تعارض هذه الدعوى لأن الحدود الحالية بينها وبين إيران والتي تضع بمقتضاها يدها على شط العرب والشقة الواقعة بينه وبين الحدود الإيرانية، إنما قررت باتفاق جزءاً من تركيا، وقد تلقت العراق حدودها الحالية بمقتضى هذا الاتفاق، فهي لا تستطيع أن تتخلى عن شيء من أرضها والواقع أن هذه الشقة اتي تطالب بها إيران ذات اهمية عسكرية واقتصادية خطيرة، واستيلاء إيران عليها يجعلها إلى جان العراق سيدة الملاحة في شط العرب، ويهدد مركز البصرة ثغر العراق ومعقله الجنوبي؛ وللبصرة أهمية عسكرية خاصة بالنسبة للدفاع عن العراق

أما حجة إيران في المطالبة بهذه البقعة فهي أن الانفاق الذي عقدنه في شأن الحدود مع الدولة العثمانية سنة 1913 باطل لأنه لم يعقد في جو من الحرية، ولأنه لم يبرم لا في تركيا ولا في ايران، وأن دلالة بطلانه هو أن القيم الشمالي من الحدود الإيرانية التركية القديمة، وهو الذي يفصل اليوم بين إيران والجمهورية التركية قد رسم وعدل باتفاق جديد بين الدولتين باعتبار أن التخطيط القديم باطل لا يعول عليه؛ هذا من جهة، ومن جهة أخرى فان مقتضيات عملية ودولية توجب أن يكون شط العرب هو الحد الفاصل بين الدولتين؛ وتلقي إيران تبعه الخلاف على العراق، وتقول إنها لم يسعها حين التجأ العراق إلى عصبة الأمم إلا أن تقابلها أمام مجلس العصبة راجية أن تتمكن العصبة من بحث المسألة بما يحسم الخلاف ويضع الأمور في نصابها؛ وهو ما يدل على أن إيران لم تكن راغبة في طرح الموضوع على عصبة الأمم

ويلوح لنا أن الأسباب التي تستند إليها وجهة النظر الايرانية مما يصعب قبوله، لأن القول ببطلان معاهدة قائمة عقدت على أساس اتفاقات سابقة وقد نفذت نصوصها بالفعل، لا يسوغ من الوجهة القانونية؛ ولو جاز أن تفسخ المعاهدات برأي فريق واحد من المتعاقدين على نحو ما تقدم إيران، لما بقي للمعاهدات الدولية أية قيمة؛ وأما كون الحدود الشمالية عدلت مع تركيا الجمهورية، فذلك يرجع إلى اتفاق الفريقين؛ وليس هنالك ما يمنع أن يعقد مثل هذا الاتفاق بين إيران والعراق إذا ارتضت كل منهما عقده. ومشاكل الحدود تقوم في الأغلب على اعتبارات قومية، كأن يكون سكان البقعة المطالب بضمها من نفس جنسية الأمة المطالبة، وأن يعربوا عن رغبتهم في الانضمام إليها بصورة عملية، فهل تستطيع إيران مثلاً. أن تقول إن سكان الشقة التي تطالب بها وأن أغلبهم ينتمون إلى الجنسية الإيرانية؟ وهل يطالب هؤلاء السكان بالانفصال عن العراق والانضمام إلى إيران؟ هذا ما لم تستطع أن تعرضه إيران، ولو استطاعت لكان لها سنداً قوياً معقولاً

وأما عن طرح النزاع على عصبة الأمم، فان العراق هي التي لجأت هذه الخطوة، وهو ما لم تكن ترغبه إيران؛ والفريقان المتنازعان من أعضاء الخطوة، وهو ما لم تكن ترغبه إيران؛ والفريقان المتنازعان من أعضاء العصبة، وإيران بنوع خاص من أقدم أعضائها؛ وليس في الواقع ما يؤخذ على العراق في مسلكها، لأنها تصرفت طبقاً لما ينص عليه ميثاق العصبة صراحة في مادتيه الثانية عشرة والثالثة عشرة؛ إذ تنص الأولى على (أنه إذا ثار بين أعضاء العصبة خلاف قد يجر إلى قطع العلائق، فانهم يطرحونه إلى إجراءات التحكيم أو أمام مجلس العصبة) وتنص الثانية على انه (إذا ثار بين أعضاء العصبة خلاف يمكن تسويقه بالتحكيم؛ فانه إذا لم يمكن تسويقه بطريق المفاوضات السياسية، فانه يطرح برمته إلى التحكيم الاختلاف على تفسير معاهدة، أو على أي نقطة تتعلق بالقانون الدولي. . . . الخ)؛ ولكن الذي نعرفه من موقف إيران أمام العصبة هو أنها تأبى قبول التحكيم أو بعبارة أخرى الاختصام إلى محكمة العدل الدولية، بحجة أن دستورها الأساسي لا يسمح بذلك، وأنها تصر على بطلان المعاهدة المعقودة، فالمسألة بالنسبة إليها ليست خلافاً على تفسيرها، ولكنها لا تأبى المثول لدى مجلس العصبة، لي يبحث المجلس هذا الخلاف ويحاول أن يضع حداً له؛ ومتى أتمت العصبة بحث الخلاف، فان إيران تقوم عندئذ بمفاوضات مباشرة مع العراق لتسوية النزاع وحسمه بصورة عملية

ومع أنا نرجو أن توفق الدولتان إلى حسم هذا الخلاف الخطير سواء على يد مجلس العصبة، أو بطريق المفاوضات المباشرة، فانا لسنا نعلق كبير أمل على مجهود العصبة في هذا الشأن؛ بل يلوح لنا أن تدخل العصبة لم يكن مرغوباً فيه، لأن سوابق العصبة في نظرها وبحثها للمسائل لشرقية لا تشجع على حسن الظن بها خصوصاً إذا كان الامر ما يتصل بنفوذ إحدى الدول الكبرى، وقد أبدت عصبة الأمم أنها في بحث المسائل الشرقية تتأثر دائماً بما يحيط بها من مطامع ومصالح غريبة، وأقرب شاهد على ذلك، مسألة اعتداء إيطاليا على الحبشة وإغارتها على أراضيها بنية ظاهرة في الغزو والاستعمار؛ ومع ذلك فقد أبدت عصبة الأمم حين أرادت أن تلتجئ الحبشة إليها فتوراً ورغبة ظاهرة في التنحي عن بحث هذا النزاع، لأن إيطاليا لم ترغب في بحثه على يد عصبة الأمم. ولن يتغير اعتقادنا في العصبة بالنسبة لموقفها من النزاع الايراني العراقي، بغض النظر عن ظروفه الخاصة، فاعتقادنا دائماً أنها لا تستطيع معالجة هذه المسائل بروح من النزاهة والاستقلال

نرجو إذن أن يحسم الخلاف بين الدولتين الشقيقتين بالحسنى والاتفاق المباشر، خصوصاً وأن انكلترا من جهة أخرى تعلق أهمية خاصة على سلامة هذه البقعة من الأراضي العراقية. ذلك أن البصرة استثنيت من نصوص المعاهدة العراقية الانكليزية فيما يتعلق بالجلاء وبها قاعدة جوية عسكرية بريطانية هي إحدى قواعد الطريق الامبراطوري، وإيران من جانبها تتوجس من السياسة البريطانية في شبه جزيرة العرب، وتخشى أن يكون لها بما تنشئه من المطارات الحربية فيما وراء الفرات (تنفيذاً للمعاهدة العراقية الانكليزية) غايات أخرى غير تأمين المواصلات الامبراطورية. والعلائق بين إيران وانكلترا ليست على ما يرام، وهنالك عدة مسائل معلقة بين البلدان. ومنذ سنة 1922 ترتبط إيران بلا ريب، فاذا استطاعت إيران بالضغط على العراق أن تدفع حدودها إلى شط العرب، فإنها تكسب بهذا التعديل مزايا عسكرية خطيرة. وعلى هذا فمن صالح إيران والعراق أن تعمل كل منهما لحسم الخلاف تواً حتى لا تدع سبيلاً إلى التدخل الأجنبي، وعسى أن يكون في استئناف المفاوضات أخيراً في رومة بين مندوبي العراق وإيران مما يؤذن بقرب التفاهم والوئام بين الجارتين الشقيقتين

محمد عبد الله عنان المحامي