مجلة الرسالة/العدد 854/ركن المعتزلة:

مجلة الرسالة/العدد 854/ركن المعتزلة:

ملاحظات: بتاريخ: 14 - 11 - 1949



قدرة الله في مذهب المعتزلة

للدكتور ألبير نصري نادر

- 2 -

تقول المعتزلة أن الله لا يفعل إلا ألأصلح وأن قدرته لا تأتي إلا بما هو كمال! فقط هناك نقطتان ذواتا أهمية كبرى وهما التوفيق بين قدرة الله تعالى وحرية الاختيار عند الإنسان من جهة ومن جهة أخرى مسألة الظلم: هل يمكن أن يفعله أم لا يمكن.

قدرة الله وقدرة الإنسان على أعماله:

لما كان الله قادراً على كل شيء، ولما كانت قدرته لا متناهية كذاته ومتجهة دائماً نحو الكمال، فمن أين إذن الشر والمعصية وما يترتب عليهما من عقاب وألم؟ إنهما لا يقعان إلا عن كائن حر الاختيار في نياته وأعماله، يتردد ثم يختار ويعزم. وفي تردده هذا دليل على عجزه وعدم كماله. ويترتب على اختياره نتائج ملائمة لما اختاره من عمل حسن أو سيئ. فأين قدرة الله من عمل الإنسان هذا؟ أن قدرته تعالى تحدها حرية الإنسان. والمعتزلة يتمسكون بشدة بهذا المبدأ ويبنون عليه المسألة الأخلاقية بكاملها.

ربما أن الثواب أو العقاب هو نتيجة لما اختاره الإنسان بمجرد حريته فلا يمكن الله أن يغير أو يبدل في هذا الثواب أو العقاب. ويقول النظام بهذا الصدد: أن الله لا يقدر على أن يخرج أحداً من أهل النار. ويقول أيضاً: لو وقف طفل على شفير جهنم لم يكن الله قادراً على إلقائه فيها وقدر الطفل على إلقاء نفسه فيها. إننا لا نعب من قول المعتزلة هذا لأنهم أثبتوا من جهة قدرة الله لا متناهية؛ وهي في مذهبهم ليست سوى الذات؛ وأثبتوا من جهة قدرة الإنسان على أنه حر في اختيارها. وبعد ذلك وجدوا أنفسهم أمام مشكلة عويصة وهي هل الله قادر على كل شيء: على الظلم والجور كما هو قادر على العدل؟ وبمعنى أوضح هل يقدر الله تعالى أن يثيب من استحق العقاب وان يعاقب من استحق الثواب؟ بحثت المعتزلة هذه المسألة على ضوء العدل وسنبين فيما بعد الحل الذي أتوا به وقبل أن تعرض لهذا الحل نذكر هنا عقيدة راسخة عند المعتزلة استنتجوها من قولهم بعدل الله وقد الإنسان على أعماله، وهي أن الله تعالى يعمل لما فيه صالح الخلق ولكنه يترك الإنسان حراً في اختياره. ولما كان الله تعالى لم يزل يعلم ما يختاره الإنسان من أعمال فإنه يأتي أحياناً بلطف من عنده لمساعدة ذوي الإرادة الحسنة. لذلك يقول بشر ابن المعتمر أن الله لو علم من عبد أنه لو أبقاه لآمن كان إبقاؤه إياه أصلح له من أن يميته كافراً فنلمس هنا مسألة اللطف الذي يتدارك به الله الفاسق. ولكن المعتزلة تقول أن هذا اللطف لا يمنح إلا في حالات شاذة نادرة. وخلاص نفوسنا أو هلاكها عائد إلينا، وذلك بفضل حرية اختيارنا لذلك يقول بشر بن المعتمر ومعه جميع المعتزلة أن الله لا يكون موالياً للمطيع في حال وجود طاعته، ولا معادياً للكافر في حال وجود كفره؛ وإنما يوالي المطيع في الحالة الثانية من وجود طاعته، ويعادي الكافر في الحالة الثانية من وجود كفره.

هذا قول واضح بأن الإنسان بمحض إرادته يصبح مطيعاً أو كافراً ولا قدرة لله في ذلك. وبعدما يصبح الإنسان مطيعاً (وهي الحالة الثانية التي يتحدث عنها المعتزلة) حينئذ يكون الله موالياً له! وبعدما يصبح كافراً (وهي الحالة الثانية في الكفر) حينئذ يكون الله معادياً له. ويستدل المعتزلة على ذلك بقولهم إنه لو جاز أن يساعد الله الإنسان في حال وجود الطاعة فيه لجاز أن يساعده في حال وجود الكفر فيه. وهذا محال في مذهبهم لأن الله لا يفعل الشر! والشر في الحقيقة هو المعاصي الموصلة إلى عذاب الله، على حسب قول قاسم الدمشقي.

الحكمة في أعمال الله:

تقول المعتزلة عن الله غاية في الحكمة ولا يفعل إلا الإصلاح فهو تعالى لا يعمل شيئاً اتفاقاً أو جزافاً. فعليه توجد قوانين ثابتة ومحددة من لدن حكمته تعالى تسوس جميع الأمور في هذا العالم؛ وهذه القوانين خاضعة لحكمة الله الكاملة. فيجب أن ننظر إلى كل ما يحدث في الدنيا كأنه تعبير لهذه الحكمة. وعقل الإنسان، في رأيهم، يمكنه أن يدرك هذا النظام الكامل في العالم والذي يدل على وجود خالق أزلي حكيم كامل عادل.

هل يقدر الله على أن يظلم؟

يبدو هذا السؤال غريباً في مذهب المعتزلة القائلين بأن الله كلي الكمال! ولكنهم بالرغم من ذلك فحصوا هذا السؤال حتى يوضحوا فكرتهم عن الله ويجلوها.

من الجلي أنهم جميعاً يردون أي فكرة تؤدي إلى الاعتقاد بأن هناك ظلماً في عمله تعالى وهم يرددون دائماً بأن الله يفعل ما فيه صالح الخلق فإذا بحثت المعتزلة هذا الموضوع فيكون ذلك من جهة القدرة فقط، وليس من جهة عمل الظلم فعلا من لدنه تعالى. فيكون الموضوع مجرد بحث نظري. وعلى هذا الشكل نجد حلين مختلفين لهذا السؤال عند المعتزلة.

الحل الأول: القول بالقدرة:

القائلون بها من المعتزلة هم ابو الهذيل العلاف وأبو موسى المردار وجعفر بن حرب وبشر بن المعتمر. وقولهم مقتضى أن الله يمكنه أن يفعل الظلم ولكنه لا يفعله أبداً وأوضح المردار حجتهم في ذلك بقوله: أن الله يوصف بالقدرة على العدل وعلى خلافه وعلى الصدق وعلى خلافه، لأن هذه هي حقيقة الفاعل المختار أن يكون إذا قدر على فعل شيء قدر على ضده وتركه ولكن يضيف المردار إلى هذا قوله: ولو فعل تعالى مقدوره من الظلم والكذب لكان إلها ظالماً كاذباً وهذا ما يناقض فكرة الله عند المعتزلة وتعريفهم له تعالى إذ يقولون أن ذات الله هي الكمال والظلم لا يقع إلا عن كائن غير كامل. فإذن يستند أصحاب هذا الرأي على فكرة الاختيار عند الله ليقرروا أنه تعالى قادر على الظلم؛ ولكنهم يعودون ويقولون أن الله لا يفعله. ويقول أبو الهذيل في هذا الصدد: أن الله يقدر على الظلم والكذب ولكنه لا يفعلهما لقبحهما وهو تعالى كامل لا يفعل القبيح. ويضيف جعفر بن حرب قوله: لن يسأل هؤلاء المعتزلة: أفمعكم أمان من أن الله لا يفعل الظلم وهو قادر عليه؟

(أ) قلنا: نعم هو ما أظهر من حكمته وأدلته على نفي الظلم والجور والكذب.

(ب) فيستنتج من ذلك أن المعتزلة القائلين بقدرة الله على الظلم لأنه مختار لأفعاله يذهبون في آخر الأمر إلى القول بأنه لا يفعل الظلم لأنه تعالى كامل ولأن الظلم قبيح في ذاته. ولهذين السببين يقولون أن الله مع قرته على الظلم لا يفعله.

الحل الثاني: القول بعدم القدرة:

يقول النظام وعلى الأسواري والجاحظ والإسكافي أن الله لا يوصف بالقدرة على الظلم والكذب وعلى ترك الأصح من الأفعال إلى ما ليس بأصح وأحالوا أن يوصف الله بالقدرة على عذاب المؤمنين والأطفال وإلقائهم في جهنم لأن المخلوق العاقل في رأيهم يقدر أن يفعل الشر كما يقدر أن يفعل الخير لأن إرادة الإنسان الحرة يمكنها أن تختار بين الخير والشر وهي تثاب أو تعاقب حسب ما اختارته من أعمال. ولكن لا يوجد هذا الاختيار في قدرة الله، لأن قدرته تعالى على قول هؤلاء المعتزلة لم تزل متجهة فقط نحو الخير المطلق. وللنظام حجته في ذلك. فهو يقول: أن القبح إذا كان صفة ذاتية للقبيح وهو المانع من الإضافة إليه فعلا ففي تجويز وقوع القبيح من الله تعالى قبح أيضاً! فيجب أن يكون مانعاً. ففاعل العدل لا يوصف بالقدرة على الظلم، لأنه لو وصف بالقدرة عليه لكان عنده ميل إلى الظلم. وهذا الميل نقص وضعف مما يناقض ماهيته تعالى الكاملة. وخلافا لمن زعم من المعتزلة أن الله يقدر على أن يظلم، يقول النظام إننا لا يمكننا أن نصف الله بهذه القدرة لأن ذاته تعالى لم تزل ثابتة وليس فيها أي ضعف أو عجز. لذلك يقول النظام أن الله لا يقدر على أن يفعل لعباده في الدنيا ما ليس فيه صلاحهم، كما انه لا يوصف بالقدرة على أن يزيد في عذاب أهل النار شيئاً، ولا على أن ينقص من نعيم أهل الجنة، ولا أن يخرج أحداً من أهل الجنة. وليس ذلك مقدوراً له لأن الظلم والكذب لا يقعان إلا من جسم ذي آفة. فالواصف لله بالقدرة عليهما قد وصفه بأنه جسم ذو آفة. ثم هناك قول آخر شديد لأبي جعفر الإسكافي في هذا الصدد إذ يقول أن الأجسام تدل بما فيها من العقول والنعم التي أنعم الله بها عليها على أن الله ليس بظالم لها. والعقول تدل بأنفسها على أن الله ليس بظالم. فليس يجوز أن يجامع دفوع الظلم منه ما دل لنفسه على أن الظلم ليس يقع منه.

هذان القولان: القول بقدرة الله على الظلم والقول بعدم قدرته تعالى عليه، ولو أنهما مختلفان إلا أن النتيجة التي يصلان إليها واحدة وهي أن الله لا يظلم أبداً حتى ولو قدر على الظلم. إلا أن أصحاب القول الأول بنوا رأيهم على فكرة وجود الاختيار عند الله في حين أن أصحاب القول الثاني لا يقولون بهذا الاختبار لأن الله في زعمهم غير مختار وهو الكمال المطلق، والاختيار تفضيل أمر على أمر وهذا ليس من خصائص الله تعالى. والذي جعل أصحاب القول الأول يتراجعون ويقولون إنه تعالى لا يأتي الظلم هو أن الظلم قبيح في ذاته وأن الله كمال مطلق. فالفارق بين هؤلاء وهؤلاء فارق نظري بحت.

ألبير نصري نادر

دكتور في الآداب والفلسفة