مجلة الرسالة/العدد 854/صدى مقتل الحسين في التاريخ الإسلامي والأدب
مجلة الرسالة/العدد 854/صدى مقتل الحسين في التاريخ الإسلامي والأدب
العربي
للأستاذ ضياء الدخيلي
في محرم الحرام تغشى الكآبة والحزن الأقطار التي يتغلب فيها التشيع لآل البيت عليهم السلام كما في العراق وإيران والهند وأقسام في الأفغان والتبت في الصين وجبل عامل في لبنان ومحلة الأمن في دمشق ومحلات المتاولة (أي المتولين لأهل البيت) وبعض عشائر الحجاز حوالي المدينة وفي البحرين الكويت وتركستان والففقاز في روسيا ومحلات أخرى أجهلها. في الأصقاع الشيعية تجد المساجد والجوامع تجلل في محرم من كل عام بالسواد القاتم حزناً على شهيد كربلاء وتخرج المواكب باكية معولة تندب ابن بنت رسول الله (ص) الحسين بن علي بن أبي طالب (ع) الذي قتله جند عبيد الله بن زياد بأمر من يزيد بن معاوية وذلك عام 61 هـ (680م) - قتلوه هو وصحبه الكرام وأهل بيته حتى طفله الرضيع ومثلوا بأجساد الطاهرة وأحرقوا خيامهم وسبوا نساءهم وذلك في كربلاء على مسافة من الكوفة عاصمة أبيه الأمام (ع) وقد بالغوا في القسوة وفظاعة التمثيل وحرموه هو وأطفاله الماء حتى مات عطشان! كل ذلك لأخافه شيعة أبيه في العراق وقصد إخماد كل ثورة يحتمل أن يقوم بها الشيعة في العراق للانفصال من الحكم الأموي؛ ولكنهم اقترفوا من الفظائع ما أثار حفيظة العالم الإسلامي وأغضب كل من وقف على الواقعة من الناس حتى المستشرقين، فاقرأ ما كتبه المستشرق الفرنسي سيديو في كتابه (تاريخ العرب العام) والمستشرق الإنجليزي ميور في كتابه (الخلافة بزوغها وانحداره وسقوطها) - إنك لتجد أقلام هؤلاء على نصرانيتهم - تسيل سخطاً على الجيش الأموي وما قام به في كربلاء من ظلم وعدوان. لذلك صار اسم محرم رمز الحزن والكآبة في العالم الإسلامي وكان شهر النوح والبكاء عند الشيعة على الأخص فقد حدث المؤرخون أن الشيعة في العهد الأموي كانوا يعقدون المواكب والاحتفالات الصاخبة، وقد اتخذوا يوم كربلاء يوم حزن ورثاء، وكانوا يولونه كثيراً من عنايتهم فيجتمعون في الأسواق ويسيرون المواكب ويلزمون أنفسهم الامتناع عن تناول أطايب الطعوم ولذيذ المشروب ويتناشدون الأشعار بالنوح على الحسين (ع) والطعن في قاتليه! وظل الحال على ذلك في العراق إلى أن تولى الحجاج الثقفي العراقيين في عهد عبد الملك بن مروان فقابل الشيعة بالضد وحمل الناس على اتخاذ هذا اليوم عيداً وألزمهم لباس الثياب الفاخرة وتناول الأطعمة الشهية واتخاذ صنوف الحلوى والافتنان فيها ومنها الحبوب المطبوخة باللبن والسكر وكان من نتيجة ذلك أن وقعت مصادمات دامية بين الشيعة والسنة وحدثت مجازر مؤلمة بين المسلمين وقانا الله شرها.
حتى إذا قامت الدولة البويهية في العراق جعلت الاحتفال بذكرى مصرع الحسين أمراً رسمياً تلتزم القيام به الدولة المستولية على أزمة الحكم. قال السيوطي في (تاريخ الخلفاء)، وفي سنة 352 هـ يوم عاشوراء ألزم معز الدولة (البويهي) الناس بغلق الأسواق ومنع الطباخين من الطبيخ ونصبوا القباب في الأسواق وعلقوا عليها المسوح (والمسوح جمع المسح وهو الكساء من شعر، وما يلبس من نسيج الشعر على البدن تقشفاً وقهراً للجسد) قال السيوطي وأخرجوا نساء منشرات الشعور يلطمن في الشوارع ويقمن المآتم على الحسين! وهذا أول يوم نيح عليه ببغداد. واستمرت هذه البدعة سنين: وفي 18 ذي الحجة منها عُمل عيد غدير خم وضربت الدبادب (والدبادب جمع الدبداب وهو الطبل سمي بذلك حكاية لصوته).
وقال ابن الأثير في أخبار سنة 352 هـ وفي هذه السنة عاشر محرم أمر معز الدولة الناس أن يغلقوا دكاكينهم ويبطلوا الأسواق والبيع والشراء وأن يظهروا النياحة ويلبسوا قباباً عملوها بالمسوح، وأن يخرجوا النساء منشرات الشعور مسودات الوجوه قد شققن ثيابهن يدرن في البلد بالنواح ويلطمن وجوههن على الحسين بن علي (ع) ففعل الناس ذلك. ولم يكن للسنية قدرة على المنع منه لكثرة الشيعة ولأن السلطان معهم. وفي 18 ذي الحجة أمر معز الدولة بإظهار الزينة في البلد وأشعلت النيران بمجلس الشرطة وأظهر الفرح وفتحت الأسواق بالليل كما يفعل ليالي الأعياد، فعل ذلك فرحاً بعيد غدير (وضربت الدبادب والبوقات وكان يوماً مشهوداً) وقال أبو المحاسن في (النجوم الزاهرة) في حوادث سنة 363 وفيها أعاد عز الدولة يختار النوح في يوم عاشوراء إلى ما كان عليه.
وقال ابن الجوزي في المنتظم في أخبار سنة 352 فمن الحوادث فيها أنه في اليوم العاشر من المحرم غلقت الأسواق ببغداد وعطل البيع ولم يذبح القصابون ولا طبخ الهراسون ولا ترك الناس أن يستقوا الماء ونصبت القباب في الأسواق وأقيمت النائحة على الحسين (ع).
والظاهر أن ما سنه معز الدولة البويهي استمر في بغداد والعراق وتمسك به شيعة بغداد والتزموا القيام به في كل عام؛ حتى اليوم تجد تلك المواكب الحزينة الباكية تقام في العراق ومنه أخذها العالم الإسلامي الشيعي. وقد جر إصرار الشيعة على إقامة تلك التقاليد المذهبية أن حدثت عدة أصطدامات بينهم ويبن إخوانهم الأعزاء من أبناء السنة! ففي الأيام الأخيرة عندما حاول يأسين باشا الهاشمي منعها قامت ثورات دامية في الفرات في لواء الديوانية وفي لواء الناصرية.
أما في العصر العباسي الأخير فقد كانت الفتن المذهبية قائمة على قدم وساق بين الشيعة والسنة من أجل إصرار الشيعة على إحياء المواكب العزائية في كل عام وقت محرم كما سنها معز الدولة البويهي ومن سبقه في العصر الأموي قبل أن يجعل الحجاج يوم عاشوراء عيداً نكاية بشيعة العلويين.
قال ابن الأثير في حوادث سنة 441 هـ وفيها منع أهل الكرخ من النوح (على الحسين) وفعل ما جرت عادتهم بفعله يوم عاشوراء فلم يقبلوا وفعلوا ذلك فجرى بينهم وبين السنية فتنة عظيمة قتل فيها وجرح كثير من الناس ولم ينفصل الشر بينهم حتى عبر الأتراك وضربوا خيامهم عندهم فكفوا حينئذ، ثم شرع أهل الكرخ في بناء سور على الكرخ، فلما رآهم السنية من القلائين ومن يجري مجراهم شرعوا في بناء سور على سوق القلائين. وأخرج الطائفتان في العمارة مالا جزيلا وجرت بينهما فتن كثيرة وبطلت الأسواق وزاد الشر حتى انتقل كثير من الجانب الغربي إلى الجانب الشرقي فأقاموا به. وتقدم الخليفة إلى أبي محمد بن النسوى بالعبور وإصلاح الحال وكف الشر فسمع أهل الجانب الغربي ذلك فاجتمع السنية والشيعة على المنع منه وأصلحوا أمرهم بأنفسهم، وأذَّنوا في القلائين وغيرها بحي على غير العمل (وهذا النداء ينفرد به الشيعة في آذانهم) وأذَّنوا في الكرخ: الصلاة خير من النوم (وهذا نداء ينفرد به أذان السنية وقت الفجر) وأظهروا الترحم على الصحابة فبطل عبور النسوى) هذا ما نقله ابن الأثير وفيه ترى التشاحن بين أهالي بغداد لم يكن منبعثاً بدوافع مذهبية فحسب، بل أنه دخلت في تكوينه أسباب أخرى جاهلية هو ما كان بين المحلات من تفاخر، وهذا مظهر لانحطاط عقلية العامة من الناس في تلك العهود وانتشار الجهل بين الطبقات الاجتماعية الدنيا الذي أدى إلى توسيع شقة الخلاف.
قال ابن الأثير ثم تجددت الفتنة سنة 443 هـ في صفر وعظمت أضعاف ما كانت قديماً فكان الاتفاق المتقدم غير مأمون الانتقاض لما في الصدور من الإحن. ووصف ابن الأثير في الجزء الثامن ص 209 قيام بعض رجال الدولة العباسية من أهل السنة بالانتقام من شيعة الكرخ بإحراق أسواقهم ودورهم بوضع النار في عدة مواضع منها مما أدى إلى احتراق سبعة عشر ألف إنسان وخسارة عظمى في الأموال وهذا من أفظع صور المعارك الطائفية في العصر العباسي الأخير مما مهد إلى انقراض الدولة الإسلامية وذهاب ريحها.
قال ابن الأثير وفي سنة 502 هـ وقع الصلح ببغداد بين السنية والشيعة بعد فتن تكررت بينهم سنين عديدة، ولم يستطع خليفة ولا سلطان أن يصلح بينهم، (بل الصحيح أن الملوك لم يكونوا يريدون الإصلاح، بل كانوا يزيدون النار حطباً على أساس القاعدة: فرق تسد) فترى مما تقدم ما تركه مصرع سيدنا الحسين (ع) من أثر سيئ ظل يدوي صداه في الإعصار الإسلامية! وقد سبب مجازر طائفية دامية أضاعت شوكة الإسلام وشغلت المسلمين بأنفسهم وألقت بأسهم فيما بينهم وأعداؤهم يتربصون بهم الدوائر، ويتحينون الفرص للانقضاض عليهم وتدمير معالم حضارتهم وإلقاء نير العبودية في رقابهم وقد سنحت لهم الفرصة في عهد المستعصم الذي قام جيشه بأفضع مجزرة طائفية في الكرخ إذ قتل ونهب وسبى العلويات بقيادة (أمير الجيش) وأبي بكر ابن المستعصم كما وصف الحادثة ابن الفوطي من أبناء ذلك العصر في كتابه (الحوادث الجامعة والعبر النافعة في المائة السابعة).
وأما في مصر فقد قال المقريزي في (خططه) ج2 ص385 عن عاشوراء كان الفاطميون يتخذونه يوم حزن تتعطل فيه الأسواق ويعمل يفه السماط العظيم المسمى سماط الحزن وقد ذكر عند ذكر المشهد الحسيني فأنظره، وكان يصل إلى الناس منه شيء كثير. فلما زالت الدولة اتخذ الملوك من بني أيوب يوم عاشوراء يوم سرور يوسعون فيه على عيالهم ويتبسطون في المطاعم ويصنع الحلاوات ويتخذون الأواني الجديدة ويكتحلون ويدخلون الحمام جرياً على عادة أهل الشام التي سنها لهم الحجاج في أيام عبد الملك بن مروان ليرغموا بذلك آناف شيعة علي بن أبي طالب كرم الله وجهه الذي يتخذون يوم عاشوراء يوم عزاء وحزن فيه على الحسين بن علي لأنه قتل فيه وقد أدركنا بقايا مما عمله بنو أيوب من اتخاذ يوم عاشوراء يوم سرور وتبسط وكلا الفعلين غير جيد والصواب ترك ذلك والاقتداء بفعل السلف فقط.
وكان الفاطميون ينحرون يوم عاشوراء عند القبر (أي قبر رأس الحسين (ع) الذي نقله الأفضل بن أمير الجيوش من عسقلان في فلسطين إلى مصر) - الإبل والبقر والغنم ويكثرون النوح والبكاء ويسبون من قتل الحسين (ع) ولم يزالوا على ذلك حتى زالت دولتهم.
قال ابن زولاق في كتاب (سيرة المعز لدين الله): في يوم عاشوراء من سنة 353 هـ انصرف خلق من الشيعة وأشياعهم إلى المشهدين قبر كلثوم ونفيسة (يقول المقريزي أن السيدة كلثوم هي بنت القاسم بن محمد بن جعفر الصادق (ع) والسيدة نفيسة هي بنت الحسن بن زين العابدين بن الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب (ع) وقد توفيتا بمصر ودفنتا هناك) ومعهم جماعة من فرسان المغاربة ورجالتهم بالنياحة والبكاء على الحسين (ع) وكسروا أواني السقاءين في الأسواق وشققوا الروايا وسبوا من ينفق في هذا اليوم ونزلوا حتى بلغوا مسجد الريح وثارت عليهم جماعة من رعية أسفل فخرج أبو محمد الحسين بن عمار وكان يسكن هناك في دار محمد بن أبي بكر وأغلق الدرب ومنع الفريقين ورجع الجميع فحسن موقع ذلك عند المعز ولولا ذلك لعظمت الفتنة لأن الناس قد أغلقوا الدكاكين وأبواب الدور وعطلوا الأسواق وإنما قويت أنفس الشيعة بكون المعز (الفاطمي) بمصر. وقد كانت مصر لا تخلو منهم في أيام الإخشيدية والكافورية وكانوا يجتمعون في يوم عاشوراء عند قبر كلثوم وقبر نفيسة. وكان السودان وكافور يتعصبون على الشيعة وتعلق السودان في الطرقات بالناس ويقولون للرجل من خالك؟ فإن قال معاوية أكرموه، وإن سكت لقي المكروه وأخذت ثيابه وما معه حتى كان كافور قد وكل بالصحراء ومنع الناس من الخروج.
وقال المسبحي (قال لي الدكتور مصطفى جواد هو عز الدين المسبحي له كتاب مفقود في تاريخ الدولة الفاطمية ومسبح هنا اسم مفعول من سبح بالتشديد) - وفي يوم عاشوراء من سنة 396 هـ جرى الأمر فيه على ما يجري كل سنة من تعطيل الأسواق وخروج المنشدين إلى جامع القاهرة ونزولهم مجتمعين بالنوح والنشيد؛ ثم جمع بعد هذا اليوم قاضي القضاة عبد العزيز بن النعمان سائر المنشدين الذين يتكسبون بالنوح والنشيد وقال لهم لا تلزموا الناس أخذ شيء منهم إذا وقفتم على حوانيتهم ولا تؤذوهم ولا تتكسبوا بالنوح والنشيد، ومن أراد ذلك فعليه بالصحراء. ثم اجتمع بعد ذلك طائفة منهم يوم الجمعة في الجامع العتيق بعد الصلاة وأنشدوا وخرجوا على الشارع بجمعهم وسبوا السلف فقبضوا على رجل ونودي عليه هذا جزاء من سب عائشة وزوجها (ص) وقدم الرجل بعد النداء وضرب عنقه.
وقال ابن المأمون وفي يوم عاشوراء يعني سنة 515 هـ (وذلك في عهد الآمر بأحكام الله سنة 1121 م) عبئ السماط بمجلس العطايا من دار الملك بمصر التي كان يسكنها الأفضل ابن أمير الجيوش وهو السماط المخصص بعاشوراء وكان يعبأ في غير المكان الجاري به العادة في الأعياد ولا يعمل مدورة خشب بل سفرة كبيرة من أدم والسماط يعلوها من غير مرافع نحاس وجميع الزبادي أجبان وسلائط ومخللات، وجميع الخبز من شعير وخرج الأفضل من باب (فرد الكم) وجلس على بساط صوف من غير مشورة واستفتح المقرئون واستدعى الأشراف على طبقاتهم وحمل السماط لهم وقد عمل في الصحن الأول الذي بين يدي الأفضل إلى آخر السماط عدس أسود ثم بعده عدس مصفى إلى السماط ثم رفع وقربت صحون جميعها عسل نحل.
ضياء الدخيلي