مجلة الرسالة/العدد 854/صور من الحياة:

مجلة الرسالة/العدد 854/صور من الحياة:

ملاحظات: بتاريخ: 14 - 11 - 1949



كبرياء. . .!

للأستاذ كامل محمود حبيب

وقف الفتى أمام أبيه المسجى في كفن ينظر وإن نفسه لتضطرم بعوامل الأسى على أن فقد أباه أحوج ما يكون إليه، فهو ما يزال طالباً في المدرسة الثانوية لم ينهل من العلم إلا صبابة لا تغني من جهل ولا تعصم من طيش. وإن قلبه ليضطرب بخلجات الفرح، فهو أصبح - في رأي نفسه - ثرياً يملك آلاف الجنيهات وعشرات الأفدنة وقصراً مشيداً وسط حديقة وارفة الظلال دانية القطوف، فغداً ينعم بالمال ويسعد بالراحة ويلذ بالحرية. وثارت فيه نوازع الأسى والراحة في وقت معاً، فانهمرت عبرات عينيه على حين كان ينضم قلبه على نشوة جارفة من الفرح، فلطالما عانى الضيق والحاجة ولطالما أمسك أبوه عنه المال شحاً منه وكزازة. ثم سكنت خواطره حين بهره بريق الذهب وهو يتألق بين يديه فيجذب روحه ويصرفه عن أن يلقي بالاً إلى من ناح أو ندب.

وخلص الفتى من عسر الدرس إلى يسر الحقل، ومن ضيق المدرسة إلى سعة الحياة، ومن ذل الاستذكار إلى خفض العيش. وأحس - على حين فجأة - بأنه انفلت من قيود أبيه الثقال فأصبح رب نفسه يطير ويقع فلا يقع إلاّ على لذة أو متعة، وأخوه الأكبر يرى بعين الرجل دفعات العبث توشك أن تعصف بأخيه فتستلبه من صحته وماله في وقت معاً. وآذاه أن يقع الفتى بين مخالب رفاق السوء يبعثرون ماله وشبابه، فأراده على أن يتزوج من ابنة خاله عسى أن ينزع عنه طيش نفسه أو أن يفزعه عن صحاب السوء.

ومضت السنون فإذا الفتى زوج وأب، غير انه لم يرتدع عن غي ولا أقلع عن سفاهة. وأنى له أن يفعل وإن الحنين إلى اللهو الوضيع ليعاوده - بين الفينة والفينة - فيطلق لنفسه العنان فيندفع - في غير وعي - إلى الخمر والقمار والنساء جميعاً، ومن حواليه من شرذمة من السفلة يزينون له حياة الفسق والفجور، فيلقي إليهم السلم في غير عقل ولا تفكير.

وطمَّت لذاذات الطيش على عقل الفتى فما أفاق من نشوته إلا ليرى يده صفراً من الذهب والفضة معاً. لقد ابتلعت أسباب العبث والطيش كل ما ورثه من مال إلا الإفدنة وقد أهملته يد الفلاح فأصابها التلف والبوار، وإلا القصر وقد ضاقت جنباته بالفحش والمجون. . . القصر الذي يمرح فيه صغاره وهم ملائكة الأرض ينشرون عليها روح الجنة وطهارة السماء. ووقف الأب - ذات مرة - ينظر إلى بنيه وهم يتدافعون تحت ظلال شجرة في مرح لم ترهقه نوازع العيش ولا دنسته شواغل الحياة، فأصابه الضيق والأسى لأنه يوشك أن يلقي بهم - بحماقته وجهله - إلى هوة من الشقاء والذل.

ووجد الفتى مسَّ الحاجة فانطلق إلى أخيه الأكبر يستعينه على أمره ريثما يجمع غلات أرضه. وضحك الأخ الأكبر في شماتة حين وجد الفرصة سانحة فانحط على أخيه يقذع له في القول ويقسو عليه في اللوم ويعنف في الحديث، ثم قال (ورفاقك. . . رفاق السوء؟ إلا تنظر أيهم يستطيع أن يسد الثغرة في الشدة، أو يرأب الصدع عند اليأس، بعد إذ استنزفوا كل وفرك في التافه الوضيع؟ أما أنا فلا أستطيع لأن لي أولادا هم أحق منك بمالي وجهدي) فانفلت الفتى من لدن أخيه وهو يتعثر في الضيق ويجرر أذيال الخيبة. وغاظه أن يلقى من أخيه الأكبر الاحتقار والمهانة، وأن يحس فيه القسوة والعنف، وأن يخرج من داره تصفعه لاذعات الإخفاق والحرمان، فانطوى على أشجانه يدير الرأي ويقلب الفكرة: لقد أفاق من سكرات اللذة فما وجد صحابه، وصحا من غفوة النشوة فما وجد ماله. ونازعته نفسه إلى أن يستعين ببعض أهله ليصلح من شأنه أو يقيم من عوجعه، ولكن كلمات أخيه كانت ما تبرح ترن في مسمعيه فتدفعه عن أن ينشر ضعفه على عيني واحد من الناس خشية أن يناله الأذى أو أن تصيبه المهانة فأمسك على مضض وهم. وغبر ساعات يضطرب في لجة من الهواجس لا يهدأ ولا يستقر ولا يهتدي إلى حيلة ثم انفرجت ظلمات الحيرة عن قبس من هدى فعقد العزم على رأي.

وعلى حين غفلة من أهله انطلق إلى الإسكندرية.

وألقى الفتى بنفسه وأفدنته في خضم المضاربات المالية وهو يرى الهاوية أمامه تكاد تبتلعه فيقبل عليها في غير فزع ولا تردد. لقد سلبه اليأس الأناة والصبر يوم أن تراءت له فرجات الحياة تنسد أمام ناظريه، يوم أن لمس الجفوة والغلظة في حديث أخيه الأكبر وقد كان يطمع أن يجد فيه العون والساعد، فعزم على أن يختار لنفسه، وما في المضاربات المالية إلا الثراء العريض أو المتربة القاسية.

وهناك في الإسكندرية، ابتسمت الحياة للفتى وتألق نجمه وسما حظه، فأصاب من الثراء والغنى في سنة واحدة ما يعجز غيره عن أن يناله في سنوات، فطابت نفسه وهدأت جائشته. ثم أخذ الحنين يعاوده إلى القرية، إلى الأهل، إلى الرفاق! فطار إلى القرية ليعيش على نمط الصالحين يسكن إلى الراحة ويطمئن إلى الهدوء وينعم بالسعادة في الأسرة بين الزوجة والولد والأهل، لا تحدثه نفسه بنزوات العبث وقد قاسى مغبته، ولا يدفعه قلبه إلى الطيش وقد ذاق مرارته.

وتلقاه أخوه الأكبر - أول ما جاء إلى القرية - في بشر وسرور! يعانقه في شوق: ويقبله في حرارة، ويحدثه في شغف، ويستغفره عن زلته بقوله (لا تؤاخذني - يا أخي - بما فعلت ولا ترهقني من أمري عسراً، فما كان يخيل إلي أن كلماتي وهي هينة لينة ستفزعك عن دارك وأهلك ووطنك، وما كنت أطمع بحديثي إلا أن أردك عن هاوية توشك أن تتردى في قرارها بين رفاق لا كرم فيهم ولا شهامة) وأغضى الفتى عن حديث أخيه الأكبر فعاشا معا في رضى وطمأنينة.

ترى ماذا دهى الرجل الذي طرد أخاه الأصغر من داره أحوج ما يكون إليه فهو يقبل عليه في حب وشغف؟ هل استحالت حاله وانقلبت خواطره فندم على زلته فجاء يستغفر أخاه الأصغر وقد فات الأوان؟ أم هو قد أكبر فيه الهمة والنشاط حين عاد منصوراً مظفراً؟ أم هو المال يبهر العقول الضعيفة ويستلب الأحلام الوضيعة فتجلّه وتحترمه لأنه هو. . . هو المال؟

وانطوت السنون فإذا الفتى الطائش رجل فيه الرجولة والإنسانية، وفيه الكرم والشهامة، وفيه المروءة والسخاء. وإذا صغاره فتيان ملء البصر والسمع والقلب جميعاً تتوثب فيهم فوره الحياة والقوة وتتألق فيهم لمعان الذكاء والعقل، وإذا ماله يربو ويزداد فيكفل لهم جميعاً الجاه والسلطان ويحبوهم بالرفاهية والخفض.

ودأب الرجل على أن يختلس في كل سنة شهراً يقضيه في الإسكندرية، يفر - كزعمه - من مضطرب الحياة وشاغلها إلى هدوء الوحدة وراحتها. ولكنه - في الحق - كان يهرع إلى البورصة ليشبع رغبة نفسه في المضاربات المالية، ما يستطيع أن يصرف نفسه عنها بعد أن ذاق حلاوة الكسب ولذة الثراء.

وهو يرجع إلى أهله في القرية - كل مرة - طلق المحيه بادي البشر، تكسوه ثياب الصحة والعافية، وترتسم عليه علامات النشاط والقوة! لا يشغله الربح ولا تؤرّقه الخسارة.

ما لهذا الرجل يفزع من الإسكندرية - في هذه السنة - بعد أيام قلائل ليرجع إلى القرية مشتت الذهن مقطب الجبين، ينطوي على نفسه في صمت وسكون، لا يطمئن إلى رفيق ولا يهدأ إلى صاحب ولا يتحدث إلى صديق؟ وتلقفته الألسن والأبصار، وحامت حوله الشائعات: ماذا كان هناك في الإسكندرية؟ لعل حادثة عصفت بآثار المرح في نفسه، أو لعل نكبة نزلت فأطاحت بالبشر في قلبه! وحار الناس في أمره وهو في صمت، ومن حوله رجال لا يجد واحد الجرأة على أن يزيح الستار عن خبيئة نفسه.

الآن برح الخفاء، فهذا هو المحضر جاء ليوقع الحجز على كل ما يملك الرجل إلا صبابة لا تشفي غلة ولا تنقع صدى، حتى القصر الذي يعتز به ويوليه كل عنايته واهتمامه. وارتسمت على الشفاه ابتسامة التشفي والشماتة، ولاكت الألسن كلمات السخرية والاستهزاء، وقال واحد من الناس (من عسى أن يكون المحظوظ الذي يشتري أملاك الرجل الثري؟) وانبرى الأخ الأكبر يساوم الرجل لينقذه من براثن الدين ويستولي هو على أطيانه وقصره فلم يجد الرجل بداً من أن يلقي السلم فباع كل أملاكه بالثمن البخس.

وأرغمت الفاقة ربيب العز والثراء أن يسكن دارا وضيعة في ناحية قذرة من القرية، وأن يعمل طول يومه ليكسب قوته وقوت عياله على حين أغلق الأخ الأكبر من دونه باب داره، وأن ينزع أبناؤه من المدرسة ليجد فيهم من يشد أزره ويعينه على لأواء الحياة وشظف العيش. ولكن الابن الأكبر أبى أن يخضع لنزوة أبيه فراح يناقشه في حدة، وأراد أن ينطلق إلى عمه يرجوه أن يعينه على إتمام دراسته لقاء دين يسدده بعد أن يتخرج في الجامعة. ورفض الأب أن يستسلم لرأي ابنه الشاب. . . رفض أن يستخذى في إصرار وعناد. واحتدم النقاش بين الأب وابنه فثارت ثائرة الأب فلطم ابنه لطمة طار لها صواب الشاب فما شعر إلا وهو يهوي على خد أبيه بلطمة قاسية ثم يطير إلى عمه يستجديه.

وطفرت من عين الأب المنكود عبرة حرّى تحمل كل معاني الذل والشقاء.

وفي الصباح فزع الناس إلى الدار الوضيعة. . . دار ربيب العز والثراء ليروا الرجل ملقى في ناحية ينزف دمه آخر قطرة من الترفع، تنهمر من شريان في يده مزقته كبرياء لم تتصاغر من ذل الفاقة، ولا تطامنت أمام ذل اللطمة من ابن عاق. . .

كامل محمود حبيب