مجلة الرسالة/العدد 854/عالمية الأدب العربي

مجلة الرسالة/العدد 854/عالمية الأدب العربي

ملاحظات: بتاريخ: 14 - 11 - 1949



للأستاذ محمد وهبي

لئن كنا نفهم الأدب على انه التعبير الصادق للنفس البشرية، وتصوير الحياة من جميع وجوهها النفسية والفكرية والاجتماعية بواسطة الألفاظ، فإننا نستطيع أن نجد بذلك التفسير العميق لخلود الآداب على وجه العموم. فما دامت النفس الإنسانية هي هي في جوهرها على مر الأزمنة والعصور، فإنها تدأب على تمجيد صورها الفنية الرائعة التي رسمتها ريشة الأدباء والشعراء على اختلاف نحلهم وأوطانهم. وهي تمجد هذه الصور لأنها تظل تفهمها مهما تقدم بها الزمن.

على أن الخلود ليس الصفة الوحيدة التي تتمتع بها الآداب! فهناك صفة العالمية، أو قل طابع الشمول الإنساني الذي لم نجده في جميع الآداب، وإنما امتاز به بعضها فقط.

لقد يخلد أدب في أبناء القوم الذين أنتجوه، لأنه يحمل بين طياته صورة لحياتهم الخاصة، وغذاء معينا لذوقهم المحلي، ولكنه لا يستطيع أن يمتد إلى ذوق سواهم من البشر، ولا أن يصل بكامل روحه إلى إفهام غيرهم من سكان المعمورة إذا ترجم لهؤلاء لأنهم لا يجدون فيه ما يتجاوب مع نفسياتهم، ولا ما يعبر عن أحوالهم وأفكارهم التي قد يشاركهم فيها جميع البشر إنه أدب محلي شخصي، ينطوي على فردية متقلصة ضيقة فقيرة، تجهل صفة الإنسانية العامة، الغنيمة بمعانيها الحية. ولهذا نجد آداباً كثيرة جمدت ضمن البيئات التي نشأت فيها لاحتفاظها بصفة الفردية الضيقة، ثم اندثرت مع الحضارات التي رافقتها، حتى أصبحت لا تذكر إلا على سبيل التأريخ لحياة الأمم التي أنتجتها! بينما نرى آداباً خلدت وانتشرت في أكثر اللغات، وظلت حية مجدة في كل صقع وكل قطر، لأنها تتمتع بصفة العالمية الواسعة. . .

والأدب العربي من زمرة الآداب العالمية التي لها صفة الشمول الإنساني. . . نقول هذا ونؤكده، ونحن نعلم تمام العلم أن من المستشرقين من أنكروه قطعاً، وحجتهم خلو هذا الأدب من المسرحيات التمثيلية والملاحم الضخمة، واقتصاره على وصف الأحوال والبيئات الخاصة لأعلامه. ولا يجد الواحد منا كبير عناء في الرد على مثل هذا الادعاء المنهار الأساس. فالأدب العربي يحتوي على عناصر إنسانية عدة، تنوب عن الفن المسرحي، وتكاد تفوقه في الأهمية كما سنرى. وقبل أن ننفذ إلى بحث فنون هذا الأدب، أو قل عناصره التي تجلى بها، لنأخذ لغته التي تشكل قاعدته الاولى، وعصبه الأساسي.

اللغة العربية لغة حية ما في ذلك إشكال، وهي إلى هذا غزيرة مرنة قد برهنت خلال العصور على قدرتها على التسرب إلى مختلف الشعوب، والتأثير في كثير من اللغات. والأدلة على هذا كثيرة: فمع أن الفاتحين الذين ظهروا في الشرق قبل العرب لم يستطيعوا أن يفرضوا على الأمم المغلوبة لغاتهم، فقد تمكن العرب من فرض لغتهم عليهم. ولما صارت اللغة العربية عامة في جميع البلاد التي استولوا عليها، حلت محل ما كان فيها من اللغات: كالسريانية واليونانية والقبطية والبربرية وغيرها. وقد كان للغة العرب مثل ذلك الحظ حتى في بلاد فارس على الرغم من يقظة الفرس، بل لقد ظلت اللغة العربية في تلك البلاد لغة أهل العلم والأدب، وظل الفرس يكتبون لغتهم بالحروف العربية ولم تؤلف كتب الكلام والعلوم الأخرى في بلاد فارس بغير لغة العرب، وإلى اليوم لا يزال أمر اللغة العربية في ذلك الجزء من آسيا كالذي كان للغة اللاتينية في القرون الوسطى بأوربا.

وقد كان للغة العربية فوق هذا أثر عميق في اللغات اللاتينية ذاتها، حتى أن لمستشرقين (دوزي) و (أنجلْمن) وضعا معجما في الكلمات الأسبانية والبرتغالية المشتقة من اللغة العربية.

وحتى اللغة الفرنسية أيضاً لم تنج من تأثير اللغة العربية التي أعطتها مثلما أعطت الإيطاليين اصطلاحات كثيرة، وخصوصا الاصطلاحات البحرية. ويذهب الدكتور (غوستاف لوبون) في كتابه (حضارة العرب) إلى القول بأن الأوربيين اقتبسوا فن القافية في الشعر من العرب، وأن الشعر الأسباني والشعر البروفنسي مدينان في ظهورهما لشعراء عرب الأندلس، ويؤيده في هذا عدة مستشرقين.

لسنا في حاجة إلى الاسترسال في التدليل على خاصة المرونة في اللغة العربية، تلك الخاصة التي جعلت منها لغة عالمية عظيمة الانتشار، فكان لها الأثر الأكبر في نقل الأدب العربي إلى أقطار كثيرة، وتزويد روحه بعناصر شتى ومواد غزيرة في بلاد متنوعة، مما جعله بالتالي أدباً عالمياً قريباً إلى نفس الإنسان في أي مكان. ولا أدل على ما نذهب إليه من كثرة الترجمات الأدبية من اللغة العربية إلى اللغة الأجنبية، ورواج هذه الترجمات وتعدد طبعاتها. . .

وإذا ما نظرنا في الأدب العربي، فأول ما يسترعي انتباهنا في روحه ذلك الاتصال المباشر الدقيق بأعماق النفس الإنسانية على وجه العموم، بحيث أنه وصفها وحللها وتواجد معها، ونبض بمعانيها على اختلافها وتنوعها من سمو وضعة، ومن قوة وضعف. ويبرز أمامنا في هذا المعنى شعر عمر بن أبي ربيعة الذي عبر أصدق تعبير عن نفسية الإنسان في غرامه وفي فهمه لعقلية النساء. وإن أنس لا أنس داليته المشهورة التي قالها في محبوبته (هند)، حيث يصور لنا مشهداً فريداً في نوعه، ويعطينا وصفاً طريفاً لأحاديث النساء فيما بينهن، بحيث يخلص منه إلى إبراز الغيرة التي تخالج نفس المرأة أياً كان لونها أو زمنها، لنصغ إليه إذ يقول:

زعموها سألت جاراتها ... وتعرت ذات يوم تبترد:

أكما ينعتني تبصرنني ... عمركن الله لمْ لا يقتصد؟

فتضاحكن وقد قلن لها: ... حسن في كل عين من تود

حسداً حملنه من أجلها ... وقديماً كان في الناس الحسد

ونستطيع أن تبين اوجه الشبه القوي في هذه الخاصة بين ابن أبي ربيعه و (راسين) في الأدب الفرنسي، أو (الفرد دو موسيه) كذلك، بل أن ابن أبي ربيعه بلغ من إتقانه تصوير النفس البشرية حداً جعله يستعمل أبسط الألفاظ وأقربها إلى العامية أحيانا لأجل تأدية المعاني الدقيقة.

ويشارك ابن أبي ربيعه في هذه الميزة أبو نواس، ذلك الشاعر العالمي النادر المثال الذي لم يدع حالة من أحوال اللهو والمجون إلا وصفها وصفاً صريحاً كشف عن أدق النزعات والنزوات التي تخامر نفس الإنسان ويكبتها أو يحجبها عن المجتمع.

وخاصة ثانية ارتقى بفضلها الشعراء العرب إلى مرتبة الشعراء العالميين، تلك هي إحساس الطبيعة، أو قل تعشق الطبيعة، والتواجد معها، وتقديس جمالها والافتنان بتصويره. فابن الرومي، ذلك الفنان المتيم بالألوان، والبحتري يستويان في هذا الباب في مرتبة (لامرتين) و (شاتوبريان) و (فيكتور هوجو).

وأما شعراء الأندلس، فلا تسل عن الشأو الرفيع الذي بلغوه في هذا التواجد الإنساني، الذي يتجلى في قول ابن خفاجة حين يصف روضة عند الصباح:

والنور طرفٌ قد تنبه دامعٌ ... والماء مبتسمٌ يروقُ صقيلُ

فالروض مهتز المعاطف نعمة ... نشوان يعطفه الصبا فيميلُ

ريان فضضه الندى ثم انجلى ... عنه ذهَّب صفحتيه أصيل

وارتد ينظر في نقاب غمامة ... طرف يمرضه النعاس كليل

ساج كما يرنو إلى عواده ... شاك ويلتمح العزيز ذليل. . .

وبين أعلام الأدب العربي شعراء نستطيع تسميتهم شعراء المبدأ أو شعراء الفكرة أن صح هذا التعبير، يرتقون إلى درجة العالمية بجدارة صريحة، بفضل المبادئ أو المذاهب الإنسانية التي اعتمدوها في إنتاجهم الفكري. ففلسفة التشاؤم وحرية الفكرة تشكلان المحور الأساسي لشعر أبي العلاء المعري، وهو يلتقي من ناحية التشاؤم بالفيلسوف الألماني (شوبنهور)، وفي ناحية حرية الفكر بالكاتب العالمي المعاصر (برناردشو).

أمام المتنبي فقد تجلت في شعره فكرة إنسانية خطيرة، كان من شأنها أن تطورت وتبلورت من بعده في مبدأ فلسفي هام عند الفيلسوف الألماني نيتشه: إلا وهي فكرة (الاستعلاء)؛ وقد جسمها (نيتشه) في شخصية (الإنسان الأعلى) أو (السوبرمن) على حد تعبيره وحسبنا من شعر المتنبي المفعم بهذه الفكرة قوله:

وإني لمن قوم كأن نفوسهم ... بها أنف أن تسكن اللحم والعظما!

وقوله:

أطاعن خيلاً من فوارسها الدهر ... وحيداً، وما قولي كذا ومعي الصبر!

ومن فنون الأدب فن عالمي قيم اشتهر به كتاب عالميون وكان لأدباء العرب فيه نصيب كبير، وهو فن (الظرف) أو قل باب الفكاهة والمرح الفكري. وقد امتاز بهذا الفن بين الإنكليز (تشارلز ديكنز) و (وبرناردشو)، وبين الفرنسيين (أناتول فرانس)! ويقبل هؤلاء من بين الأدباء العرب الجاحظ، بحيث يضاهيهم بالفعل، وذلك بما في كتاباته من رقة ومرح، وبما في فكآهاته من لذع خفي، وظرف محكم، لحمتهما وسداهما الفكرة العميقة.

وهنالك لونان عالميان من ألوان الأدب، طرقهما الأدباء العرب فأبدعوا، وكان لهم بذلك تأثير كبي رفي الآداب الأجنبية.

فأحدهما (الأدب الصوفي)، وقد برز فيه ابن الفارض، وحوله زمرة لا يستهان بها من المتصوفين الذي يعدون عالميين في أدبهم الصوفي! والأخر فن تأدية الحكمة على لسان الحيوان، وقد تجلى هذا الفن في أدب ابن المقفع، وانتقل تأثيره إلى الشاعر الفرنسي (لافونتين).

بإمكاننا أن نلتمس من هذا العرض السريع، مدى أهمية الأدب العربي بالنسبة إلى الآداب العالمية، تلك الآداب التي عالجت قضايا الإنسان، ووصفت نفسية الإنسان، فكانت لغته الحية الناطقة في كل مكان وكل زمان.

ولئن لجأ بعض الأدباء العالميين لتحقيق هذه الغاية، إلى وضع المسرحيات، فما ذلك إلا لأن بيئاتهم الخاصة حدت بهم إلى هذه الوسيلة، ويسرت لهم تحقيقها! أما أدباء العرب فقد عوضوا عن هذا النقص الطفيف بلجوئهم إلى وسائل أخرى لا تقل عنها أهمية أو قيمة، مما أتينا على ذكره، فأنتجوا بذلك أدباً عامراً بالمعاني والعناصر الإنسانية التي بإمكانها أن تتجاوب مع نفس كل إنسان. بل لقد رأينا كيف أبه عندما سمحت البيئة الاجتماعية بطرق فن الأدب التمثيلي عند العرب، برز شوقي بمسرحياته الخالدة، فسد ذلك الفراغ العارض بكل جدارة.

وحسب الأدب العربي أعلامه الخالدون عمر بن أبي ربيعه وأبو نواس والمتنبي وأبو العلاء وابن الرومي وشوقي، حتى يستوي في مرتبة الآداب العالمية الخالدة.

(بيروت)

محمد وهبي