مجلة الرسالة/العدد 859/الشعر المصري في مائة عام

مجلة الرسالة/العدد 859/الشعر المصري في مائة عام

ملاحظات: بتاريخ: 19 - 12 - 1949



للأستاذ محمد سيد كيلاني

الدور الأول

1850 - 1882

3

1 - أغراضه

بقيت أغراض الشعر في هذا الدور كما كانت علية من قبل. فكان باب المدح يحتل معظم ديوان الشاعر، فالشاعر في هذا العصر مداح ليس إلا، يعيش ليمدح هذا وذاك، وينظم القصائد الطوال في الإشادة بمناقب هذا الأمير أو ذاك الوزير، راجياً صلة أو وظيفة أو ترقية أو علاوة. فإن رأيت شيئاً غير المدح فهو قليل لا يكاد يذكر. وكانت قصائد المدح تبدأ غالباً بغزل متكلف مصطنع.

وكانوا يبدءون قصائد الرثاء بالتحدث عن الموت الذي يسطو على الناس فيختار الجياد منهم. ويشيرون إلى هلاك الملوك وفناء العظماء. ويذكرون استحالة البقاء وأن الموت غاية كل حي، وطريق تسير فيه السادة والعبيد، والأغنياء والفقراء، والصعاليك والأمراء. ثم ينتقلون من هذا إلى ذكر مناقب الفقيد والتنويه بمزاياه وصفاته. ثم يختم الرثاء بإشارة موجزة إلى ما أعد للفقيد في الجنة من نعيم مقيم وحور عين. ومثال ذلك قول الليثي في رثاء عبد الله فكري:

ومن بان في الفراديس ناعم ... يظل ظليل دوحه يتهدل

يغازل ولدانا وحورا على صفا ... وفي حسنها من لطفه يتغزل

تبارك من قد خاره لجواره ... وخيره في أنعم تتذلل

وإذا رثى الشاعر زوجته أو ابنه أو بنته أو أباه وصف أدوار المرض التي تقلب فيها الميت وأشار إلى الطبيب وما قام به من علاج، ومثال ذلك قول صالح مجدي يرثى زوجته:

ولا كان (بدر) جاء يحيي مواتها ... بطب عسيف كان فيه أذاه فإن انصباب الماء من فوق رأسها ... على رغم أنفي كان فيه بلاها

وفي الأخذ منها للدماء مدامعي ... روت كل أرض لا يقاس فضاها

وفي الخردل الموضوع من فوق ساقها ... شواظ بقلب فيه شيد حمامها

وهكذا قص علينا الشاعر ما حدث لزوجته إبان مرضها، مستمداً القول من الواقع لا من الخيال. وهذه طريقه جديدة في الرثاء لم تعرف من قبل.

ومنذ عصر سعيد بدأ الشعراء يصفون بعض المخترعات الحديثة كالسفن البخارية وآلات الري والأسلاك البرقية والسكك الحديدية والكباري والقطر وغير ذلك مما ظهر وقتئذ. ولكن الشعر الذي قيل في هذا الغرض كان قليلاً جداّ.

وكان بعض الشعراء في هذا الدور إذا وصف حفلة من الحفلات أو مشهدا من المشاهد انغمس في الواقعية إلى أبعد حد، وحرص على أن يسجل في شعره كل صغيرة وكبيرة مما تراه عينه ومثال ذلك قول عبد الله فكري حينما عاد من مؤتمر المستشرقين:

مولاي قد سرنا بأمرك نبتغي ... لرضاك ما تسمو به الأقدار

ومنها:

ثم امتطينا للسويد ركائباً ... لا الركض يجهدها ولا التسيار

تسعى على عجل إلى غاياتها ... كالماء ساعد جريه التيار

سرنا بهن على العشي فأصبحت ... في (استكهلم) وقد بدا الإسفار

ولقيت صاحب تاجها في قصره ... والوفد ثم بصحبني نظار

فدنا وصافح باليمين مردداً ... شكر الخديو يزينه التكرار

فشرعت مقتصدا ًأجاوبه بما ... أرضاه لا قل ولا إكثار

وهذه الطريقة الواقعية التي أغرم بها بعض الشعراء في ذلك العصر قد جعلت قصائدهم شبيهة بالتقارير التي يدون فيها كل شيء مع مراعاة الترتيب الزماني والمكاني.

وفي عصر سعيد كثر إقبال الشعراء على نظم الأناشيد العسكرية الحماسية وقد سبقت الإشارة إلى ذلك. وأخذ بعضهم يصف القلاع والحصون ويذكر البنادق والمدافع.

وفي عهد إسماعيل تأثر الشعراء بالحياة الاجتماعية الجديدة فذكروا القصور والبساتين والشوارع والميادين ومصالح الحكومة ودواوينها. وأخذوا يشيرون إلى إضاءة المدينة بمصابيح الغاز وتوصيل المياه إلى المنازل وغير ذلك من مظاهر الحضارة والعمران. وفي أواخر هذا العصر بدأ الشعر السياسي في الظهور. ورأينا قصائد قليلة تنظم في نقد المجتمع وفي الشكوى من تغلغل النفوذ الأجنبي.

وحينما تولى توفيق ارتفعت أصوات الشعراء مطالبين بالإصلاح ورفع المظالم التي حاقت بالشعب. وهكذا اصبح الشعراء ينظرون إلى الصالح العام بعد أن كانوا ينظرون إلى صالح أنفسهم. ولكن يجب أن نقول بأن النظرة الذاتية كانت غالبة فتأمل في قول الساعاتي حين يمدح إسماعيل صديق فيقول:

وحسبك بالإجماع منا فصادح ... بحمدك غريد وآخر باغم

وقد أجمع الناس واتفقت كلمة المؤرخين من مصريين وأجانب على أن إسماعيل صديق كان مثالاً للظلم والقسوة وعلى أنه هو الذي جر البلاد إلى الخراب والدمار وأرهق الفلاحين وأثقل كاهلهم بالضرائب الفادحة. ولكن الساعاتي لم ير بأساً في الكذب ولم يجد ضيراً من الافتراء. فهو في نظير مصلحة يرجوها أو عطاء يؤمله قد صور الناس مجمعين على التغني بفضائل إسماعيل والإشادة بمناقبه. على أن هذه النظرة الذاتية والتضحية بمصلحة المجتمع في سبيل مصلحة الشاعر قد لازمت الشعراء المصريين حتى هذه الأيام.

وقلت المدائح النبوية في هذا الدور حتى أننا لا نجد للشعراء في هذا الباب شيئاً ذا قيمه اللهم إلا قصيدة بديعة للساعاتي ضمنها مائه وخمسين نوعاً من أنواع البديع.

وظهرت في عهد إسماعيل الأناشيد المدرسية التي يلقيها الطلبة في الحفلات، وفي هذه الأناشيد إشادة بقيمة العلم ومنافعه للأمم والشعوب والترغيب في الجد والاجتهاد والاستعداد ليوم الامتحان الذي يكرم المرء فيه أو يهان كما كانوا يقولون.

وفي هذا العصر أكثر الشعراء من نظم التواريخ وذلك لكثرة ما أقيم من المعاهد والمدارس والمصانع والقلاع والحصون والقصور والمساجد، وقد أرخ الشعراء حفلات أنجال إسماعيل في شعر كثير.

وحينما شبت الحرب بين الإنجليز والعرابيين انضم إلى الحركة العرابية شعراء كثيرون في القاهرة والأرياف وأخذ هؤلاء الشعراء ينظمون القصائد الحماسية في الحض على الجهاد والتحريض على الكفاح وفي هجاء الإنجليز وكل من يتعاون معهم. ومن هؤلاء الشعراء محمد النجار وله قصيدة جاء فيها (والخطاب لعرابي):

فازحف بجيشك يا مظفر ضاربا ... في الإنجليز وقاتلاُ سيمورا

واقطع بسيفك أمة قد أمروا ... أنثى عليهم إذ عدمن ذكورا

ومنها في هجاء الإنجليز:

قوم تربوا في الثلوج فطبعهم ... يهوى البرود ولا يطيق حرورا

كتبوا لسيدة لهم أن جهزي ... غنماً لعيد المسلمين كثيرا

يا إنجليز ومن ينادي ميتاً ... يخطي وكيف أخاطب المقبورا

ولأحمد عبد الغني قصيدة مطلعها:

لعمرك ليس ذا وقت التصابي ... ولا وقت السماع على الشراب

ولا وقت الجلوس على القهاوي ... ولا وقت التغافل والتغابي

ولا وقت التشبب في سليمى ... ولا وقت التشاغل بالرباب

إلى أن قال:

ولكن ذا زمان الجد وافى ... وذا وقت الفتوة والشباب

ووقت الاتحاد مع التصافي ... وعقد عرى الإخاء والانتساب

ووقت ليس فيه يليق إلا ال ... إقامة بالقلاع وبالطوابي

ووقت فيه الاستعداد فرض ... لتنفيذ الأوامر من عرابي

وامتازت هذه القائد بظهور العاطفة الوطنية فيها ظهوراً لم يعرف من قبل. ولو طال أمد الحرب بين المصريين والبريطانيين لاستفاد الشعر كثيراً. ولكن الحرب انتهت في مدة وجيزة، لذلك انطفأت هذه الجذوة بانتهاء الحرب.

ولما قضي على الحركة العرابية اخذ الشعراء الخديو ينظمون القصائد في مدحه، وقد مزجوا هذا المدح بالتحريض على التنكيل بالعرابين وأطلقوا عليهم اسم (العصاة) و (البغاة). ومن أشهر ما نظم في هذا الغرض قصيدة لمصطفى صبحي باشا دعاها (صدق المقال في مثالب البغاة الجهال) قال إنه ذكر فيها (دسائس الأشقياء الملحدين، ومفاسد الأغبياء المتمردين وكيف قابلوا الإحسان بالكفران والنعمة بالطغيان من مبدأ أمرهم ليوم سفرهم) وطلعها: تبين عقبي غيه كل معتدي ... وأمسى العرابي وهو بالذل مرتدي

يعض بنان المستكين ندامة ... ويقرع بالدلال سن المهند

وعقيب إخماد الحركة العرابية أقبل الشعراء الذين كانوا قد انظموا إليها على نظم القصائد في الاعتذار مما فرط منهم والتنصل مما عزي إليهم من تهمة الاشتراك في حركة العصيان.

وانتشر في هذا العصر الفخر الكاذب. فترى الشاعر يفخر بنفسه ويسند إليها من صفات ما ليس منها. ومثال ذلك قول الساعاتي:

ماذا تريد الحادثات من امرئ ... من جنده الأمراء والشعراء

فأي الشعراء هؤلاء الذين كانوا من جنده؟ ومن هم الأمراء الذين كانوا من عسكرة؟ وتأمل قولة:

أنا ذلك الصل الذي عن نابه ... تلو المنون وتلوي الرقطاء

وفمي هو القوس الأبد مقولي ال ... وتر الشديد وأسهمي الإنشاء

فكر ينظم في البديع فرائداً ... من دونها ما يلفظ الدأماء

ولا شك في أن هذا بعد عن الحقيقة وكذب وافتراء، وتقليد أعمى لبعض القدماء.

وأكثر الشعراء. فإذا نظم أحدهم قصيدة وصفها بالجودة والانفراد في الحسن، ومثال ذلك قول صالح مجدي:

امولاي هابكرا تتيه بحسنها ... وتفعل بالألباب فعل مدام

وهذا الشاعر يختم قصائده في الغالب بمثل هذا الفخل الكاذبين. هذا ما يمكن أن يقال عن أغراض الشعر في هذا الدور.

(يتبع)

محمد سيد كيلاني