مجلة الرسالة/العدد 862/الشعر المصري في مائة عام
مجلة الرسالة/العدد 862/الشعر المصري في مائة عام
للأستاذ سيد كيلاني
الدور الأول 1850 - 1882
3 - أساليبه وألفاظه
كانت أساليب الشعر في هذا الدور ضعيفة ركيكة مبتذلة، وتراكيبه سقيمة تكاد تكون عامية، وذلك نتيجة لانحطاط الشعر في الأجيال السابقة، وبعد الشعراء عن دراسة آثار الفحول الذين ظهروا في عصور الرقي والازدهار. ومن أمثلة هذا الضعف قول صالح مجدي:
وأختص كلاً بقانون فترجمه ... بسرعة وبيان واضح الكلم
فقوله (بسرعة) مما يجري على ألسنة العامة.
وقول عبد الله فكري:
وفي علم مولاي الكريم خلائقي ... قديماً وحسبي شاهداً مخلصاً براً
فعبارة (وفي علم) سوقية محضة.
وقال الليثي:
فإن مصاباً حل قد حل وانقضى ... ونحن بما يأتي نسأم ونشغل
فصدر هذا البيت مما تنطق به الدهماء.
وقول أبى النصر:
ومني عليكم كل يوم تحية ... وسائراً أحبابي الكرام ذوي المجد
كذا جملة الأخوان شرقاً ومغرباً ... متى سألوا عني ولو أخلفوا وعدي
وهذا من كلام الأميين. والأمثلة على ذلك كثيرة يتبينها كل من رجع إلى دواوين هؤلاء الشعراء.
وترى كثيراً من تراكيب شعراء ذلك الدور مضطربة، حتى أنك تجد مشقة في قراءتها. ومثال ذلك قول عبد الله فكري:
كتابي توجه وجهة الساحة الكبرى ... وكبر إذا وافيت واجتنب الكبرا
فالاضطراب ظاهر في قوله (توجه وجهة) وفي قوله (الكبرى وكبر، والكبرا) ولا شك أن الإنسان يتعثر في تلاوة هذا البيت ويمل من ترديد الكلمات المتشابهة في اللفظ.
وقول صالح مجدي:
سمت روضة الأنس الجمالية التي ... بها الصدر إسماعيل ذو الدولة اعتنى
والاضطراب في البيت كله ظاهر لا يحتاج إلى بيان.
وقول أبو النصر:
هو الشهم إسماعيل إن رمت وصفه ... تجده بجيد المجد واسطة العقد
فعبارة (تجده بجيد المجد) ينفر منها الذوق وهي من أثقل التراكيب على اللسان.
وقوله:
نرجوه إنجاز اصلاح الشؤون عسى ... يصفو به الملك دانيه وشاسعه
والضعف في صدر البيت أظهر من أن يدل عليه.
وقول محمد سعيد:
وأقبل عيد العود بعد انتظاره ... بيمن له العلياء بالأنس تفتر
وقد اشترك شعراء هذا الدور في استخدام كلمات معينة. ومثال ذلك كلمة (شهم) التي وردت في معظم قصائد المدح. قال رفاعة:
في كفه سيفان سيف عناية ... والشهم إبراهيم سيف ثاني
وقال إبراهيم مرزوق:
ويبيد العدى بسطوة شهم ... لا يباريه هاصر في جلاد
وقال أبو النصر:
هو الشهم إسماعيل إن رمت وصفه ... تجده بحيد المجد واسطة العقد
وقال علي فهمي:
والخديوي المليك أول شهم ... بخطا حاضر المخاطر أنذر
وهكذا لم يجد الشعراء أمامهم غير هذه الكلمة مع أن اللغة العربية غنية بالمترادفات.
واشترك معظمهم في استخدام تعابير خاصة، مثل (وكيف لا).
قال الليثي:
وكيف لا وخديو مصر ألبسها ... ثوباً من الطول مأموناً من القصر وقال:
وكيف لا والخديو فيك قد سطعت ... أنوار آلائه الغر الجسيمات
وقال علي فهمي:
وكيف لا تتحلى بالمدامع أف ... واه روت عنه أيام الحياة حلى
وقال محمد سعيد:
وكيف لا وهو لما أن تداركها ... بالعدل لاشك صار الآن محييها
وقال صالح مجدي:
وكيف لا ومقالاتي أدلتها ... غنية فيك عن نص بتصديق
وعبارة (وكيف لا) كانت تستخدم بكثرة في النثر في ذلك الدور فانتقلت منه إلى الشعر وجرت على ألسنة الشعراء على نحو ما بينا. وغني عن البيان أن نقول إنها ليست من التعابير الشعرية.
وكانوا يكررون عبارة معينة في جملة أبيات. ومثال ذلك قول محمد النجار:
واليوم ترفل في ملابسها التي ... حسنت ويبسم ثغرها المتضوع
ثم كرر قوله (واليوم) في سبعة أبيات:
وقال أحمد عبد الغني:
ولا وقت الجلوس على القهاوي ... ولا وقت التغافل والتغابي
ثم ردد عبارة (ولا وقت) في سبعة أبيات.
وقال سليم رحمي:
حيث البرنسات والنظار قد شرفت ... أقدارها بمقام منه محمود
ثم أتى بكلمة (حيث) في خمسة أبيات.
وقال إبراهيم مرزوق:
أبني أما الصبر عنك فما أمر ... لكن رضيت بما به المولى أمر
ثم ذكر عبارة (أبني) في خمسة أبيات
وهذا النوع من التكرار مقصود. وقد أتى الشاعر به طوعاً واختياراً لأمر في نفسه. ولكن هناك نوع آخر من التكرار قد اضطر إليه شعراء هذا الدور اضطراراً، وأرغموا على الوقوع فيه، وذلك لإفلاسهم وخلو جعبتهم من المادة اللغوية. ومثال ذلك قول عبد الله فكري:
مشير صدق بحزم الرأي قد عرفت ... أفكاره بين باديها وخافيها
لا تنثني عن صواب الرأي رغبته ... لرهبة كائناً ما كان داعيها
فذكر في البيت الأول (حزم الرأي) وفي البيت الثاني (صواب الرأي) فالظاهر أن الرجل لم يجد أمامه في هذا المقام غير كلمة (رأي). وقد جاء بهذه الكلمة في مطلع القصيدة فقال:
رأى الخليفة فيه رأي حكمته ... وللملوك صواب في مرائيها
رآه أجدر أن يرعى رعيته ... وأن يقوم بما يرجوه راجيها
فهو بهذا قد استخدم كلمة واحدة في ثلاثة أبيات. وفضلاً عن ذلك فإنه أتى بالفعل (رأى) وهو مشتق من الرأي وذكر كلمة (مرائي) وهي من نفس المادة. وكل هذا في قصيدة عدتها ثلاثة عشر بيتاً.
وقال أبو النصر:
فهو المليك الذي عمت مآثره ... وفائض الجود من جدواه إمداد
المفرد العلم الأسمى علا شرفاً ... وفاض بحرفكم ترجوه وراد
كالغيث جاد بما يغني الأنام بلا ... من، فجدواه إنجاز وإيجاد
فاستخدم كلمتي (فائض) و (فاض) وهما من مادة واحدة. وكرر كلمة (جدوى) وأتى بالفعل (جاد) وهو من كلمة (الجود) المذكورة في البيت الأول وهذا ضعف لغوي لا يحتاج إلى بيان.
واستخدم بعضهم كثيراً من الكلمات الفرنسية والتركية. ومثال ذلك قول صالح مجدي:
وعند صياح الديك قام مودعاً ... فقمنا وودعنا وقلنا له (مرسي)
وقوله في وصف إحدى القلاع:
فكم بسنيون ثابت الأصل محكم ... يلوح بهاتيك الحصون المهمة
وقوله:
منه طوبجية تبيت الأعادي ... من تعدى نيرانها في عديد
وكبورجية لها كل فخر ... في جميع البقاع بين الجنود
وقوله: والدودكجي مع الترنبيت ناغا ... هـ البروجي وزال عنا صدود
وبعذب الألحان غنى المويسي ... قي فتاقت إلى غناه الكبود
وبذكر السعيد دندن فإشتا ... ق إلى مدحه البليغ المجيد
وأجابت (بجوق يشا) في دعائها ... للخديو رعية وجنود
وقوله:
وإذا الأوجيان حلوا بأرض ... لعدو ضاقت عليه الحدود
وقوله:
والدراغون في الميادين تزهو ... كزهور الرياض وهي أسود
واستخدموا كلمة (تياتر) الفرنسية فقال سلامة النجاري:
(تياترها) يبدي تواريخ من مضى ... بحسن بيان لا يرام مناله
وأوردوا في شعرهم كلمة (بال) ومعناها الرقص. وبدلاً من أن يقولوا (مرقص) قالوا (ملعب بال).
قال رفاعة الطهطاوي:
وملعب (بال) بالحسان منعم ... عيون غوانيه تغازل بالفتك
واستخدم رفاعة كلمة (سنيور) بدلاً من السيد وذلك في قوله:
وكم من فتاة فيه سكرى بلا طلا ... يراقصها (السنيور) لطفاً مع السبك
واستخدموا كلمة (فابريقة) وفوريقة. وأطلقوا على السفن البخارية اسم (أبور البحر) وعلى القطار اسم (أبور البر) واستعملوا (بريد كهربائي) للتلغراف.
قال رفاعة:
وبريد كهربائي ... وحيه لمحة أعين
وأطلقوا على آلة تنقية المياه ورفعها إلى المنازل اسم (وابور المياه) قال رفاعة:
ووابورات مياه ... كجبال النار تدخن
وأرادوا أن يضعوا اسماً يدل على توصيل المياه إلى المنازل. فاهتدى صالح مجدي إلى كلمة (تقاسيم) قال:
وأما تقاسيم المياه فنفعها ... عميم ومنها للعباد مراحم وقد تخلص الليثي من هذا المأزق بقوله بعد أن ذكر بعض مظاهر الحضارة:
وسائل النيل يجري في شوارعها ... له على كل باب أم تذليل
فاستخدم عبارة (سائل النيل) وبهذا حل الإشكال. وأطلقوا على القضبان التي يسير عليها القطار اسم (أخاديد الحديد) و (طرق الحديد) قال صالح مجدي:
أما أخاديد الحديد فإنها ... قد انتشرت للقطر فيها مغانم
وبصنعها سكك الحديد مديدها ... أضحى لوافر نفعها ما أقصره
وقال علي فهمي رفاعة:
علمت بذا طرق الحديد فأطرقال ... وأبور رأساً جد في ارعاده
وقال أبو النصر:
وأمد بالطرق الحديد صعيده ... والسلك في أخباره كل المنى
وأراد بالسلك (التلغراف).
ويلاحظ أن كثيراً من هذه الكلمات كان يستخدم في النثر. ولم يجد الشعراء بداً من استخدامها في الشعر بيد أن بعضهم رأى أنها تفسد النظم فتعصب ضدها ولم يذكر منها شيئاً في قصائده. ومن هؤلاء الساعاتي. وكان صالح مجدي وسلامة النجاري أكثر الشعراء إيراداً لمثل هذه الكلمات.
وكان من شعراء هذا الدور من يستخدم بعض الكلمات العامية. ومثال ذلك قول أحمد عبد الغني:
ولا وقت الجلوس على القهاوي ... ولا وقت التغافل والتغابي
والصواب أن يقول (المقاهي).
وقد حافظوا على ما ورثوه من الأجيال المتقدمة من الحرص على الصناعة اللفظية واستخدام البديع بأنواعه المختلفة ولاسيما الجناس والطباق، وقد شاعت في هذا الدور التورية باسم الخديو (توفيق) ومثال ذلك قول الساعاتي:
بلغت (بتوفيق) العزيز مآربي ... فبالغت في حسن الثناء تشكرا
وقول عبد الله فكري يمدح إسماعيل وشير إلى قانون الوراثة:
نهضت (بتوفيق) العلي ولم يزل ... بعينك عون الله في حيثما تسري وقوله:
أمر أمير المؤمنين أعاره ... نظراً وأنظار الكبار كبار
فسرى به في مصر من (توفيقه) ... نور ومن بركاته أسرار
هذا ما يمكن أن يقال عن أساليب الشعر وألفاظه في ذلك الدور.
محمد سيد كيلاني