مجلة الرسالة/العدد 867/الشعر المصري في مائة عام

مجلة الرسالة/العدد 867/الشعر المصري في مائة عام

ملاحظات: بتاريخ: 13 - 02 - 1950



للأستاذ محمد سيد كيلاني الساعاتي

من 1825 - 1880

- 8 -

هم محمود صفوت الساعاتي ابن مصطفى أغا الزيله لي ولد بالقاهرة في عام 1825 ونشأ بها إلى أن بلغ الاثنى عشر عاماً. ثم توجه إلى الإسكندرية مع أبيه. وفي العشرين من عمره بدا له أن يقوم بفريضة الحج فسافر إلى الحجاز. وهناك التحق بحاشية أمير مكة الشريف محمد بن عون فأكرم مثواه وأحسن ملتقاه حتى أنساه وطنه وصحبه فظل ملاماً له في مقامه ومرتحله. وسافر معه إلى غزواته المعروفة في نجد واليمن ووصف كثيراً من وقائعه في شعره.

ووقعت بينه وبين أدباء الحجاز منافسات تلتها مناظرات كما هو شأن الأدباء في كل عصر وفي كل موطن.

وفي عام 1850م عزل الشريف محمد بن عون من إمارة مكة فهاجر إلى مصر مصطحباً الساعاتي الذي سافر معه إلى الآستانة بعد ذلك بقليل. وهناك وقع نزاع أدبي بينه وبين الشيخ زين العابدين المكي.

وفي عام 1851م عاد إلى مدينة القاهرة فعين في إحدى الوظائف الحكومية. ثم ألحق بمعية سعيد باشا. ثم نقل إلى وظيفة كتابية بمجلس الأحكام المصرية. ثم عين بعد ذلك بديوان المالية، فعضواً بمجلس أحكام الجيزة والقليوبية. وتوفي سنة 1880م. وله ديوان مطبوع.

شعره

1 - في الحجاز:

نزل الساعاتي عند أمير مكة الشريف محمد بن عون وهو ممن يدعون الانتساب إلى الإمام علي. فأراد الشاعر أن يحظى لديه وينال عطفه. لو أنه سلك في مدائحه مسلك شعراء مصر في عصره من ابتداء القصائد بغزل طويل مما متكلف، واستخدام الصناعة اللفظية من جناس وطباق وغيرهما لما ظفر بشيء مما يرجو، ذلك لأن الأشراف لا يطربون لهذ ولا يحفلون بقائله. فلم ير الشاعر بداً من أن يكون شيعياً يهتم بالمعاني الشيعية التي تستهوي آل عون.

أنظر إليه حين يقول في مدح الشريف عبد الله بن عون:

ومن ذا الذي أحرى بمجدك منهم ... ومدحك في التنزيل جاء محرراً

وأعلى ملوك الأرض كسرى ولم يك ... ن له نسب دانى البتول وحيدرا

وإن كان بالإبوان أظهر فخره ... فحسبك بالمحراب والبيت مظهرا

غلى خير خلق الله تنمى أصولكم ... فكنتم به من الناس أكرم عنصرا

وأنتم بنوه والذين بفضلهم ... أتى الروح بالذكر المبين مخبرا

ومن ذا الذي بالشعر يبلغ مدحكم ... وفي هل أتى ما قد أتى وتصدرا

وانظر إليه حين يمدح شيخ السادة العلوية بالمدينة:

أهلا وسهلا بغبن بنت محمد ... نجل الحسين ومعدن الحسنات

أهلا بزهرة فرع أصل طاهر ... غرسته أيدي الوحي والآيات

شرف على الشهب المنيرة مشرف ... مترفع عن عرضه الشبهات

نسب قد انتظمن عقود جمانه ... بيد التعفف لا يد الشهوات

أورومة طابت فروع أطولها ... رفعت بإسناد وصدق رواة

تلك التي غرس النبي لدوحها ... فأتت بكم من أطيب الثمرات

فأنت ترى أن اهتمام الشاعر بالمعنى كان مسيطراً عليه في هاتين القصيدتين وفي غيرهما مما نظمه في أشراف مكة. وقد اجتهد في الضرب على الوتر الحساس الذي تهوى إليه أفئدتهم. وتقمص الساعاتي في هذه المدائح شخصية ابن هانئ الأندلسي وأغار على كثير من معانيه. مثال ذلك قوله:

ومن ذا الذي أحرى بمجدك منهم ... ومدحك في التنزيل جاء محررا

فمأخوذ من قول ابن هانئ:

فرحت بمبعثك السماوات العلا ... وتنزل القرآن فيك مديحا

وقوله:

وينظم في الوصف الشريف قلائدا ... وأبلغ منها قول أحكم حاكم مأخوذة من قول ابن هانئ:

والله في علياك أصدق قائل ... فكأن قول القائلين هذاء

مدح الساعاتي الشريف ابن عون بقصيدة جاء فيها:

رقت لرقة حالتي الأهواء ... وحنت على البانة الهيفاء

وبكى الغمام على من أسف وقد ... كادت تمزق طوقها الورقاء

بدأ المد بالشكوى مما أصابه من حوادث الدنيا. ثم مزج الشكوى بالفخر بنفسه وبشعره، ولم يكن الرجل صادقاً في فخره بل قلد المتنبي في ذلك. قال:

أنا ذلك الصل الذي عن نابه ... تلوى المنون وتلتوي الرقطاء

وقد نظر في هذا إلى المتنبي حيث يقول:

أنا صخرة الوادي إذا ما زوحمت ... وإذا نطقت فإنني الجوزاء

وقال:

وفمي هو القوس الأرن ومقولي ال ... وتر الشديد وأسهمي الإنشاء

فكر ينظم في البديع فرائدا ... من دونها ما يلفظ الدأماء

وهذا فخر كاذب قلد فيه القدماء. وقد أراد أن يعظم من أمره ويرفع من شأنه فصور الناس وقد اشهروا عليه حرباً وأجمعوا أمرهم على كيده. قال:

ولع الزمان وأحله بعد أوتى ... إن الكرام لها اللئام عداء

أنحط قدري الحادثات وهمتي ... من دونها المريخ والجوزاء

وهو في هذا ينظر إلى ابن هانئ الأندلسي حيث يقول:

طويت لي الأيام فوق مكايد ... ما تنطوي لي فوقها الجوزاء

ثم استطرد إلى التحدث عن سوء حظه، وذكر أنه قصد أناساً كثيرين فلم يجد عندهم ما يسره حتى أفنى عمره دون أن يتحقق له أمل واحد من آماله. قال:

أفنيت عمري في طلاب أولي التدى ... متعللاً بعسى يجاب نذاء

وهو غير صادق فيما يقول. ذلك لأنه عندما حل في مكة كان في العشرين فإذا فرضنا أنه نظم هذه بعد إقامته عند ابن عون بعامين أو أكثر فإنه في هذه الحال لم يكن قد أفنى عمره كما يحدثنا ثم تتخلص من هذا المدح فقال: غضت عن العلياء طرفي برهة ... ثم انجلت عن ناظري الأقذاء

فعلمت أن الأكرمين هم الأولى ... شرفوا وباقي العالمين هباء

لم يبق غير بني النبي محمد ... في الأرض يعزى إليه سخاء

قوم همت جدواهم وبمدحهم ... في كل واد هامت الشعراء

ولو تأملت في هذه الأبيات لوجدت روح ابن هانئ ماثلاً في وضوح وجلاء، وطريقة الساعاتي في التخلص إلى المدح هي نفس طريقة ابن هانئ. وإليك أبيات ابن هانئ لتوازن بينها وبين أبيات الساعاتي.

وطفقت أسأل عن أغر محجل ... فإذا الأنام جبلة دهماء

حتى دفعت إلى المعز خليفة ... فعلمت أن المطلب الخلفاء

جود كان اليم فيه نفاثه ... وكأنما الدنيا عليه غشاء

إلا أن ابن هانئ، كان يمدح الخليفة الفاطمي الذي امتد ملكه من المحيط الأطلسي غرباً إلى بلاد العرب شرقاً، أما الساعاتي فكان يمدح عاملاً بسيطاً من عمال الدولة العثمانية، وهو معرض للعزل في أي وقت. وقد عزل فعلاً ورحل إلى الآستانة، وقد جعل الساعاتي من هذا الحاكم الصغير ملكاً تهابه الملوك وتعنوا لسلطانه وتقصر عن بلوغ مرتبته. وقال:

ملك سما سلطانه وتقاصرت ... عنه الملوك لأنها أسماء

ولو ارتقوا يوماً لأخمصه انتهوا ... لمراتب ما فوقهن علاه

وصلته أبكار العلاء كواعبا ... من قبل ما وصلتهم الشمطاء

ولا شك في أن الشاعر قد أشرف في التكليف وبالغ في الكذب وليس مما يعقل أن رجلاً كالساعاتي يقول مثل هذا المدح في شريف مكة عن عقيدة راسخة وإيمان ثابت.

وظاهر من هذه القصيدة أن ابن عون قد أعرض عن الساعاتي مدة من الزمن بسعي بعض الحساد، فشكا الرجل من حدوث هذه القطيعة. قال:

مازلت أجلو وصفكم حتى بدا ... كالشمس لا رمز ولا إبماء

وحبونموني بعدها بقطيعة ... أكذا يكون تكرم وحباه

من لي بخط الأغبياء فعلتي ... عز الدواء لها وجل الداء

وقال قبل ذلك أبيات: يا أيها الملك المفدى عودة ... يا من لديه لا يخيب رجاء

أوليتني الآلاء ثم تركتني ... مثل الذي حلت به اللأواء

ما كان ذا أملي الذي أملته ... فيكم وأنتم سادة نجباه

أو لستم أدري بما كنتم به ... تعدونني ومتى يكون أداء

إن كان دائي حسن حظي ربما ... يشقى الفصيح وتنعم العجماء

هذه الأبيات إذا قرأناها تركت في أنفاسنا أثراً عميقاً، ذلك لأن الشاعر هنا لم يكن متكلفاً ولا متصنعاً، وإنما كان يرسل القول من أعماق فؤاده، فعبر في هذا الشعر عما انطوى بين جوانحه من ألم شديد وحزن عميق، وبسط يديه أمام شريف مكة راجياً منه أن يعمل على إزالة هذه القطيعة، وعدة أبيات هذه القصيدة سبعة وسبعون بيتاً، منها ثلاثون في الفخر، وحوالي عشرة أبيات في الشكوى والباقي في المدح.

وللساعاتي قصيدة هائية مدح بها الشريف علي بن عون. وقد سلك فيها مسلك مروان بن أبي حفصة في هائيته المشهورة التي مطلعها:

طرقتك زائرة فحي خيالها ... بيضاء تخلط بالجمال دلالها

أما قصيدة الساعاتي فمطلعها

جادت بوصل بعد طول دلالها ... مطبوعة جبلت على إدلالها

وعجز البيت ضعيف التأليف تافه المعنى، وربما كان سبب ذلك اهتمامه بالجناس بين (دلال) و (إدلال).

وقال:

وسرى بطيف خيالها جنح الدجى ... من بعد ما جنحت إلى عذالها

زارت على شوق محبيها وما ... زالت تجر إليه في أذيالها

سفرت فقلنا قد تألق بارق ... يزجي رشاش الظل في أطلالها

وتكلفت صلة المتيم عندما ... نظرت كمال البدر دون كمالها

غيداء جادت بالزيارة بعد ما ... جارت ومل الدهر دون ملالها

سمحت بما أسدت إلى وإنما ... صلة المعنى من تمام خيالها

حسناء قد تاهت عليّ كأنها ... حسنة والمجد في سر بالها ولن تجد في هذه الأبيات من المعاني سوى تلك الغادة بالجمال والدلال، وقد شعر الرجل بإفلاسه وخلو جعبته من المعاني فستر ذلك العجز باصطناع المحسنات اللفظية، ثم انتقل من ذلك إلى المدح وقد أورد بعض المعاني الشيعية

كقوله:

ولقد علمت بأن مدحي قاصر ... وعلاكم التنزيل في إجلالها

أفبعد ما جاء الكتاب مفصلا ... تتفاضل البلغاء في أقوالها

وقال يمدح الشريف محمد بن عون ويهنئه بانتصاره في بلاد اليمن:

بشرى بنصر بالفتوح ميسر ... ودوام عز حيث سرت مسير

والمعنى ضعيف كما ترى، وفي البيت جناس بين (ميسر) و (مسير) ومنها

نشرت لك الأعلام من فوق العلى ... فطويت ذكرى كل باغ مفتر

وهو جيد المعنى، وفيه طباق بين (نشر) و (وطوى)

(يتبع)

محمد سيد كيلاني